28-06-2011 08:20 AM
كل الاردن -
منذر العلاونة
في زمن أصبح فيه الوفاء ' سلعة ' نادرة .. وتعطلت فيه لغة الشهامة ، استذكرت حكاية المرحوم المهندس يوسف الأزرعي ، التي نعى فيها ذات يوم وفاء الإنسان للإنسان حين قال ' لم يبك لجروحي والآمي إلا هذا البغل الذي لم يوش بي حتى أجد نفسي بعد يوم وقد زج بي في السجن ..
تقول حكاية الأزرعي التي لا يزال يستذكرها بعض كبار السن أن هذا الرجل بعد أن حصل على شهادة الهندسة الزراعية من تركيا في اواخر الخمسينيات ، تقدم بطلب وظيفة في وزارة الزراعة آنذاك ورفض طلبه أكثر من مرة ، بسبب إنتمائه للحزب الشيوعي الذي كان محظورا في ذلك الوقت ؛ إلا أنه وبسبب حاجة وزارة الزراعة حينها لمثل شهادته وكفاءته فقد تم تعيينه مهندسا زراعيا في أحد المشاريع الزراعية الجديدة في مشتل بعجلون ،، ولكن أصدقاءه الذين كانوا يلتقون به يوميا ويأكلون من زاده ويثق بهم كثيرا وشوا به وكانوا يكتبون التقارير ضده نفاقا وزورا وبهتانا وبطرق رخيصة ،، الأمر الذي إستدعى الوزارة ان تتخد قرارا بنقله الى مستنبت في قرية نائية في منطقة جرش كان يشرف فيه على مجموعة من العمال والمزرعين ، وبسبب عدم توفر الآليات الزراعية حينها قرر المطالبة بشراء ' بغل ' من أجل إستخدامه للحراثة في ذلك المستنبت ، ولكون يوسف الأزرعي كان مغرما بالبساطة والسهر و' الكيف ' فقد استأنس لهذا البغل الذي يقدم له العلف والشعير بكميات كبيرة ويقدم له الماء المخلوط بقليل من المشروبات المنعشة ' العرق ' التي كان المرحوم معتادا على تناولها حتى أصبح ' البغل ' يجد فيها متعة وإرتواء .. كان يخاطبه وكأنه صديقه .. يحاوره ويشكو له همومه وأحزانه حتى شعر ذات يوم أن هذا البغل بكى كثيرا وسالت دموعه وفاء لصديقه ، عندما هجره الأصدقاء والحبايب .. وتمر الأيام ويزداد فيها وفاء البغل لصاحبه ، بعد أن وشى به الأصدقاء الذين اوصلوه للسجن ، حتى أخذ يعشق البغل ' الصديق ' لدرجة أنه كان لا يفارقه لحظة .. وعندما كان يسأله الآخرون عن سر تعلقه بهذا البغل كان يجيبهم قائلا .. لو تعلمون أن هذا البغل أوفى منكم ومن أصحابي وزملائي .. صدقوني أنه بكى لأوجاعي في الوقت الذي لم يبك لي أصدقائي وصحبي .. لو علمتم تعجبتم ..
وبعد فترة من الوقت أصيب يوسف الأزرعي بمرض عضال .. إنتقل بعده إلى رحمة الله .. وأثناء جنازته كان صديقه البغل يشعر بالألم والمرارة ، لا يأكل ولا يشرب يصهل بصوت يبعث على الحزن .. ولم يمر أسبوع واحد حتى مات البغل ولحق بصديقه وفاء له ..
هذه الحكاية الطويلة ، جعلتني أتوقف عند نفسي لأنعى مرة أخرى الوفاء في هذا الزمن الصعب الذي أصبح فيه النفاق والنميمة شعار البعض الذي تنتحر أمامه المروءة والشهامة دون هوادة ،، وتسود فيه مظاهر الكذب والإحتيال وسرقة الوطن وقطع أرزاق الغلابى من الشرفاء ،،، فما أوفى البغال وما أقسانا كبشر ،، ولكن السؤال هل بقي لدينا بغال مخلصة مثل تلك البغال أم أنها إندثرت ، وبقي البشر النمّام وقاطع الأرزاق ..؟
عن العرب اليوم