29-06-2011 07:03 AM
كل الاردن -
حلمي الاسمر
كانت جلسة مجلس النواب الأخيرة أخطر جلسة للبرلمان الأردني ربما في السنوات العشر الأخيرة، ومن غرائب وعجائب بلادنا أن هذه الجلسة التي تابعها المواطنون على الإنترنت وبعض القنوات الخاصة، ولم تحظ باهتمام التلفزيون الأردني، وكان حريا به كتلفزيون وطني يجبي من بيوت البلد ملايين الدنانير أن ينقل الجلسة بالكامل في بث حي، لأنها تهم كل مواطن، وقد لجأ الناس لوسائل إعلام أخرى لمتابعتها، وفي هذا جواب أكثر من كاف للسؤال الدائم عن سر عزوف المواطن عن تلفزيونه الوطني!.
هذه ملاحظة أولى تحز في النفس، لكنها أهون المشاعر، واقلها إيذاء للنفس، أما ما هو أهم وأبعد تأثيرا فسنحاول أن نجمله في نقاط محددة...
مشهد مجلس النواب كان مفخرة للأردنيين وللعرب جميعا، بغض النظر عن أية سلبيات أو مؤاخذات ناتجة عن مواقف بعض النواب، وهذه كلمة حق يجب أن تُقال، رغم أنها لن تعجب الكثيرين، فالأردن هو من عدد قليل جدا من البلاد العربية التي يقف فيها رئيس وزرائه موقف المساءلة بين يدي نواب الشعب، رغم كل ما يجري وراء الكواليس من صفقات وضغوطات وتفاهمات، فهذا أمر يحدث في أعرق الديمقراطيات، ورغم كل ما يقال عن مؤاخذات على طريقة انتخاب المجلس!!.
فوجئت أنا شخصيا وكثيرون غيري، بمواقف نواب كنا نعتقد أنهم يتمتعون باستقلالية ونظر ثاقب، حيث بدا أنهم ينزعون إلى استثمار أزمات الوطن لتحقيق مصالح لها بعد شخصي، وأجندات حزبية، وهذا أمر مفهوم ومستوعب، لكن الشعب من حقه أن يشعر بخيبة أمله من هذه الفئة من النواب!.
شكلا من حق النواب أن يتهموا أو لا يتهموا الرئيس، لكن من حق المراقب أن يسأل عن مغزى اتهام شخص وتبرئة آخر وفقا لوقائع وأدلة هي نفسها تقريبا، وفهمكم يكفي!.
صحيح تمت تبرئة رئيس الوزراء، ولكن غرقت البلد كلها في بلبلة، ولا نشك أن الجلسة برمتها ستكون مادة خصبة لتحريك الشارع، وإذكاء نار الاحتجاجات، وإمدادها بوقود لا ينضب، وهو أمر يحقق رغبة من يريد لنار الحراك الشعبي ألا يهدأ ابدا، سواء تحققت إصلاحات أم لم تتحقق!.
لا يختلف اثنان في الأردن على نظافة يد الرئيس البخيت ونقاء جيبه من مال الأردنيين، إلا ما أخذه بوجه حق، ، ولكن هذا لا يكفي لدى الحديث عن تكريس صورة رجل الدولة، فقد كان حريا بالرئيس أن يضع استقالته تحت تصرف الملك، وكنا على يقين أنه سيبقى رئيسا، ولن تقبل استقالته، ولكنه موقف فات الرئيس وفات مستشاروه، فأضاعوا فرصة ثمينة لتكريس عرف ديمقراطي كان سيصبح نموذجا أردنيا يُحتذى به!.
الجهد والمهنية والاحتراف الذي بذلته اللجنة النيابية يدعو للاعجاب، وهو أمر يؤشر على قدرة مجلس النواب أو قل بعض أعضائه، على القيام بدورهم على الوجه الأكمل، في الرقابة والتقصي والتحقيق، ولنتذكر هنا أن ثمة لجان تحقيق كثيرة أعلنت عن تشكيلها الحكومة في أحداث ووقائع، تم طي صفحتها ولم تعلن نتائجها، بل ربما لم يتم اي إجراء بشأنها، في حين أن لجنة الكازينو النيابية اثبتت إبداعا ومصداقية تدعو للإعجاب والشكر، والاستنتاج الأهم هنا أن أي قضية ذات بعد وطني يجب أن تحال إلى مجلس النواب للتحقيق فيها بدلا من دفنها في لجان التحقيق الحكومية!.
اثبتت جلسة الكازينو أن لفلفة الملفات ودفنها لا يفيد الوطن، بل يؤزم الناس والدولة، صحيح أن ما أعقب الجلسة من هرج ومرج وتفاعلات كان كثيرا وكبيرا، لكنه حراك ديمقراطي محمود وسليم، ويصب في اتجاه صناعة صورة أردن الغد، أردن شفاف لا يخفي شيئا، ويكشف تلاعبات البعض بمقدرات الوطن ومستقبله، كما يكشف بؤس الطريقة التي تدير بها بعض الحكومات شؤون الوطن، ويؤشر على أهمية إصلاح هذه الطريقة، بزيادة الرقابة النيابية والإعلامية.
للتاريخ وللحق، ذكرتني جلسة الكازينو بجلسة الثقة التي عقدها مجلس النواب، بعد انتخابات 1989، حيث جلس الرئيس مضر بدران حينها ليستمع بصبر إلى أكثر الخطابات جرأة مما قيل تحت القبة، ربما خلال خمسين عاما مضت، ولا يستطيع المرء مهما اختلف مع الرئيس البخيت إلا أن يعجب بصبره وسلامة ما اتخذ من قرارات بشأن إحالة ملف الكازينو إلى التحقيق البرلماني، وكم يرنو أبناء الأردن إلى أن تحال ملفات أخرى مقلقة إلى النواب، سواء في هذا المجلس أم في المجلس الذي سينتخب لاحقا، قطعا ومنعا لسيل من الشائعات والأراجيف والتقولات!.
أخيرا، سواء بقي المجلس أم استقال، بقيت الحكومة أم أقيلت، فقد سجلنا إضافة نوعية للديمقراطية الأردنية، نرجو أن تأخذ صورتها الكاملة، عبر إصلاحات حقيقية وجذرية، تبدأ في تعديلات دستورية وقانونية عميقة وذات مغزى وليست شكلية، تنقلنا إلى صورة الدولة المدنية الكاملة، دولة الفصل التام بين السلطات، دولة الحقوق والواجبات!.
hilmias@gmail.com
عن الدستور