17-09-2011 07:13 AM
كل الاردن -
ناهض حتر
نسيتُ متطلّبات السنّ وآلام المرض وأنا أتظاهر أمام السفارة الأمريكية بعمان, مساء الأربعاء. هتفتُ من أعماقي كما كنتُ أفعل وأنا في العشرين في دروب الجامعة الأردنية; لا شيء يهزّ وجداني مثل إطلاق شحنات الغضب ضد الإمبريالية والصهيونية, وفي لحظة إضاءة الروح التي تربط الماضي بالآتي, رأيتُ الفتيةَ القادمينَ إلى خندق الوطن, ثائري العقول والقلوب ضد واشنطن وتل أبيب, مملوئين بالحميّة وفدائيين في مواجهة المؤامرة على الأردن. ولكي تكتمل الصورة, كان رجال الأمن في منتهى الحشمة والأدب, يبثّون مشاعر التضامن الصامتة مع المتظاهرين.
في اليوم التالي, موعد التظاهر أمام السفارة الإسرائيلية, حرمني تفاقمُ الإعياء من المشاركة, لكنني بقيت على الخط, أتواصل مع روح الحدث وأستمع إلى الهتافات بالتلفون, يتملكني الزعل لأنني لستُ في العشرين, وليست لديّ القدرة للمنافسة الجسدية على شرف محاولة اقتلاع العلم الصهيوني من سماء عمان.
ظهر الجمعة, يستأنف شباب ذيبان حرق العلمين, الأمريكي والإسرائيلي, والهتاف بصراخ الأرض ضد مؤامرة الوطن البديل. في ذيبان كانت شرارة الحراك الشعبي الاجتماعي والديمقراطي منذ مطلع ,2011 وهي اليوم تصحح المسار المختَطَف, منذ أشهر, من قبل ليبرالية لا تتعارض مع الهيمنة الاستعمارية والحل الإسرائيلي. ذيبان تستعيد المسار نحو أولوية الوطني في برنامج النهوض الشامل. ويتلقف متظاهرو اليسار في باحة المسجد الحسيني بعمان, شارة الحراك الجديدة: ليس حراكا ليبراليا على حساب الكيان الوطني ولمصلحة النخب, بل هو حراك وطني تحرري ¯ ديمقراطي ¯ اجتماعي, يعيد وصل ما انقطع منذ الخمسينيات, ويمنح للربيع الأردني شارة وشرف العداء للإمبريالية.
للمولَعين بالإحصاء أن يعدّوا متظاهري الهبة الوطنية, ويستنتجوا ما يشاءون حول قوتها وضعفها. وللتجريبيين أن يروا الشجرة ويعمون عما بين النسغ والغابة, ولكن قارئي الروح هم الذين يكتشفون نسغ التاريخ, ويتتبعون خطاه المصممة الواثقة; فليس لاتجاه سياسي آخر في البلاد, فدائيٌ واحد, لكن الاتجاه الوطني الاجتماعي الباسق ¯ غير المتكوّن بعد تنظيميا ¯ يقوم على أكتاف فدائيين: قلّة ولكنهم نسغ!
عناصرُ هذا الاتجاه, وقد عرفتها وتحاورتُ معها وقرأتُ روحَها في الميدان, تأتي من كل مكونات شعبنا, ومن التيارات الوطنية واليسارية والقومية. وأنا واثق من أن هذه الكتلة التي تخترق الأحزاب والتيارات, وتتجاوز أطرها الجامدة وقياداتها المتحوّلة نحو الليبرالية, سوف تتصلّب وتتكاتف وتعيد بناء الحركة الوطنية التحررية القادرة على مواجهة التحديات المصيرية, وفي مقدمتها مؤامرة الوطن البديل.
لا تكمن هذه المؤامرة في وجود مكوّن فلسطيني لشعبنا. بالعكس, فهذا المكوّن يرفده بطاقات وقدرات وقوة تدفعه إلى الأمام, ولكن المؤامرة تكمن في سعي الاستعمار إلى إلغاء الكيان السياسي للشعب الأردني بكل مكوناته لحساب الحل الصهيوني للقضية الفلسطينية. وهذا ما بدأ يستقر في الوعي الجديد للشباب الوطني والقومي واليساري, ويدفعه للتوحد السياسي والوجداني تحت ظلال علم الأردن, الذي هو ¯ للتذكير ¯ علم سورية الكبرى. فللفلسطيني والسوري واللبناني في نسيجه كما للأردني.
الليبراليون والإخوان المسلمون ما يزالون خارج هذه العملية التاريخية التي تتصاعد وسوف تكتسح. وإذا كان من المستبعد أن تفهم العناصر الليبرالية, حتى أكثرها وطنية, مجرى التحولات الحالي والمستقبلي, فلستُ اشكّ بأن مناضلين إسلاميين سوف يتحررون من نهج الليبرالية والبراجماتية والاستقواء بالغرب, وسوف ينتهون إلى أولوية التحالف مع الحركة الوطنية بدلا من أولوية التفاهم مع القوى الإقليمية والدولية.
ynoon1@yahoo.com