03-01-2012 10:52 PM
كل الاردن -
ناهض حتر
يُهمل صخب السجال حول الإصلاح السياسي, صوت التكتكة الصادرة عن قنبلة موقوتة, إنها أزمة المالية العامة المتمثلة في نشوء حلقة مفرغة من العجز والمديونية: زيادة العجز في الموازنة العامة تُغطى بالدين, فتؤدي إلى زيادة المديونية العامة, وزيادة المديونية العامة تزيد من عبء فوائد الدين في الموازنة العامة, مما يؤدي إلى زيادة العجز, وهكذا...
إيرادات الدولة الداخلية من ضرائب ورسوم.. الخ والخارجية من منح ومساعدات, لا تغطي نفقاتها الجارية من رواتب ونفقات تشغيلية ودعم للخبز والمحروقات والكهرباء والماء. وهذا النوع من العجز المالي لا علاج له, لأنه, عبر تغطيته بالدين, يزيد نفسه بنفسه, ولأنه لا يُترجَم في بنى تحتية أو استثمارات تحافظ على قيمته وتولّد ما يغطي كلفته, بل هو يتبدد يوما بيوم.
وضمن الموديل الاقتصادي الليبرالي, فإن معالجة مشكلة العجز المالي تنصبّ, ابتداء, على خفض بنود الدعم الاجتماعي. وبما أن ذلك يؤدي إلى مشكلات سياسية وأمنية, وبرأيي: اقتصادية أيضا (خفض القدرة الشرائية الحرة وزيادة كلفة الطبابة ومكافحة الجريمة), فقد ولدت فكرة تخفيض الدعم جزئيا عبرهيكلته بحيث يصل إلى الفئات الشعبية المستهدفة. وقد يكون ذلك بإجراءات إدارية طالما فشلت مثل الكوبونات والبطاقات والإعانات, أو يكون بشطب الدعم وتحويل جزء من قيمته إلى زيادات في رواتب الموظفين العموميين. ولكن ذلك سيؤدي إلى زيادات في الرواتب والأجور في القطاع الخاص, بما في ذلك أجور العمالة الوافدة وبالتالي ارتفاع كلفة وأسعار السلع والخدمات, وننتهي, أخيرا, إلى نتيجة تضخمية حتمية من شأنها أن تأكل تلك الزيادات, وتطرح مشكلة ضرورة الدعم مرة أخرى.
غير أن كل هذا النقاش يغدو عديم الجدوى, عندما لا يشكّل الدعم الاجتماعي سوى الجزء الأصغر من العجز المالي, كما هو الحال في الأردن. عندها لا بد من التفكير بمعالجة أكثر شمولية للمشكلة, مثل تخفيض النفقات التشغيلية (الذي لم يعالج حتى الآن بصورة جدية) أو حتى التخفيض الجذري للإنفاق الرأسمالي ما عدا استكمال المشاريع السابقة المنفذة بالفعل. ويمكننا القول, هنا, في حالة الأردن إن إنشاءات البنى التحتية تجاوزت حدود الجدوى الاقتصادية والاجتماعية, وإنه آن الأوان لتخفيض حجم الإنفاق على الطرق والتقاطعات والجسور والمباني الخ إلا عند الضرورة القصوى وباعتماد معايير اقتصادية صارمة. وقد يُقال في هذا الصدد أن ذلك الخفض سيؤثر سلبيا على حركة الاقتصاد. نعم. ولكن بصورة هامشية فقط. فالإنفاق الرأسمالي يذهب إلى المقاولين والمستوردين والعمالة الوافدة. لكن المشكلة في هذا الحل أنه, كذلك, لن يغطي العجز المالي الذي يبدو كالقَدر.
يوجد هنالك, دائما, القائلون بالحل السياسي للعجز المالي عن طريق المساعدات. وهو أبسط الحلول ومن شأنه أن يرضي الجميع. لكن, علاوة على أن الاعتماد المتفاقم على المساعدات, اصبح يضرّ بسيادة وهيبة البلد ومصالحه الاستراتيجية, فإن مشكلة العجز المالي في الأردن أصبحت تتجاوز الحجم الممكن المستمرّ من المساعدات الخارجية. وذلك لسببين; تفاقم حجم الرواتب والنفقات التشغيلية للمؤسسات الحكومية المستقلة وتفاقم كلفة المديونية.
يُسجّل لحكومة الدكتور معروف البخيت أنها بدأت السير في طريق معالجة جدية بعيدة المدى لمشكلة العجز من خلال برنامج إعادة هيكلة القطاع العام, والمفروض أن يركّز على دمج المؤسسات المستقلة وشطب غير الضروري منها وخفض رواتب العاملين فيها لصالح زيادة رواتب الخدمة المدنية على أساس المساواة. ومع أن هذا البرنامج ليس جذريا بصورة كافية, وتعرض لضغوط مختلفة أدت إلى التخفيف من شموليته وسرعته, إلا أنه يبقى أحد الإتجاهات الأكثر عقلانية والتزاما بالأبعاد الاجتماعية لحل مشكلة العجز. ذلك أن هيكلة القطاع العام لا تشطب فقط جزءا من كلفة المؤسسات المستقلة, بل تخفف الضغط على الدعم الاجتماعي من خلال تحسين شامل في رواتب القطاع العام.
إلا أن أحدا لم يضع يده حتى الآن على السبب الجوهري للعجز المالي. ويتمثل, في رأيي, في الموديل الاقتصادي القائم على الخصخصة وتشجيع الاستثمار, إذ يفرض هذا الموديل تحميل الخزينة أنماطا من الدعم الاستثنائي والمستمر للمستثمرين الأجانب والمحليين. وهذا الدعم لا يظهر في الموازنة العامة, بل يظهر في عقود الخصخصة الإذعانية وفي النظام الضريبي وفي التسهيلات والإعفاءات وعقود التفويض وبيع العقارات والرخص الخ الممنوحة للمستثمرين على حساب الإيرادات المتوقعة للخزينة. وإذا أخذنا بفرضية الإيرادات العامة الممكنة المفقودة نتيجة موديل تشجيع الاستثمار, فسنجد أن القسم الرئيسي من المديونية العامة والمساعدات الخارجية ذهب ويذهب لتمويل المستثمرين, ويمكن تعويضه من خلال (1) إعادة كتابة عقود الخصخصة بما يحفظ حقوق الخزينة ويطوّرها, (2) إقرار نظام ضريبي تصاعدي شامل على الدخول والأرباح في المجالات كافة, وتعديل الضريبة العامة للمبيعات على أسس اجتماعية, (3) الحصول على عائد عادل لقاء الامتيازات والأراضي والرخص والتسهيلات الاستثمارية, (4) ضرب شبكات الفساد وتعزيز الرقابة (5) تطوير البحث العلمي ودراسات الجدوى لاكتشاف مجالات استثمارية مغرية ومشغّلة للعمالة المحلية, من دون الإضرار بحقوق الخزينة, (6) خفض سعر الفائدة وتفويض الأراضي وتقديم الرعاية السياسية والإدارية للتعاونيات والمشاريع المتوسطة والصغيرة , (7) توجيه الإنفاق الرأسمالي لخلق فرص عمل دائمة في المحافظات, وتسهيل سيولة العمالة بينها من خلال نظام كفوء ورخيص للنقل العام.
ynoon1@yahoo.com