إشكالية السياسي والثقافي
في لبنان
مسعود ضاهر
لم يكن ما تعرض له الوزير شربل نحاس جديدا على السياسة اللبنانية، في الفكر والــممارسة معا. فقد سبقه وزراء أكفاء كانوا من أفـضل الطاقات العلمية والأخلاقية في لبنان، ومنـهم الوزراء اميل البيطار، والياس سابا، وهنري إده، وغسان تويني، وجورج أفرام، وجــورج قرم وغيرهم. وابتدع زعماء الطوائف أساليب متعددة لاستقطاب أفضل النخب الثقافيــة في لبنان، ممن حملوا شعارات الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد والعمل الديموقراطي وبناء دولة القانون والمؤسسات، وشكلوا لجانا لا حصر لها لإلغاء الطائفية السياسية، ونشر كتاب موحد لتاريخ لبنان، واعتماد اللامركزية الإدارية، ودعم الجامعة اللبنانية. فانخرط في العمل إلى جانبهم مئات المثقفين اللبنانيين الذي اصيبوا بالإحباط بعد فترة زمنية كانت تنتهي على الدوام بتهـميش مثقف التغيير والتنكر لكل الشعارات المشار إليها سابقا حرصا على مصالح زعيم الطائفة وورثته من بعده.
كان سلوك القيادات السياسية اللبــنانية واضحا من حيث تنكرهم لأي مثقف يخالف مزاج الزعيم أو يهدد مصالحه ضمن التركيــبة الطائفية. فهو أدرى بتلك المصالح، ولديه جميع الأساليب التي تستخدم فوق الطـاولة أو في الخفاء. وهو أسلوب لا يشجع المثقفين اللبنانيين من دعاة التغيير الجذري غير الطائفي في لبنان على دخول العمل السياسي. فمن عادة مثقفي السلطة، أن يكونوا متلهفين للحصول على رتبة وزير، حتى لو كان الثمن طأطأة الرأس أمام زعيم سياسي نصب نفسه حاميا للطائفة ومتحكما بأجهزة الدولة وأموالها وإدارتها بحيث يضطر الناس للخضوع له، على غرار ما هو سائد في الأنظمة التسلطية العربية. وهو يرفض بشدة طريق التغيير الديموقراطي، وضمان حقوق العمال والفلاحين، وتمكين المرأة، وتأمين فرص عمل كافية لمتخرجي الجامعات خوفا من فقدان السيطرة عليهم.
في هذا السياق، لم تكن استــقالة الوزير شــربل نحاس من وزارة العمل مــفاجأة لأحــد في الوسط السياسي والثقافي اللبــناني. فقد أجبر الوزير على الاستقالة بضغط من أرباب العمل، وقيادة الاتحاد العــمالي التي نعتــها الوزير المستـقيل بأبشع نعـوت التبــعية، وزعماء الكـتل السياسية والطائفية. فسبق أن أجبرت نخب ثقافية لبنــانية نزيهة ونظـيفة الكف على الاستقالة لأن الوزير المختص طالب بتطبيق الدستور بعيدا عن سياسة المساومات والصفقات السياسية والمالية التي برعت بها الغالبية الساحقة من القيادات الســياسية وزعماء الطوائف ممن حكموا لبنان منذ قيام دولة الاستقلال.
أراد الوزير النحاس الاستفادة من وزارة العمل لإيجاد تشريعات علمية عــصرية تحافظ على حقوق العمال، واسترجاع ما كان سلــب منهم سابقا. فكانت معركة إدخال بدل النــقل في أساس الراتب لضمان تعويض عادل في نهاية خدمة العامل سببا في إجباره على الاستــقالة. لكن التوافق تم استنسابيا من خارج النصوص القانونية، بعد أن استمر تطبــيقه لمدة خمسة عشر عاما، ما جعله عرفا لــديه قوة القـانون وفق ما عبرت عنه قيادات عليــا في الدولة، رغم أنه أفقد العامل نسبة كبيرة من التعــويضات. وسانده في ذلك عــدد من رجــال القانــون، لأن بدل النقل يجب أن يدخل في صــلب الأجـر. وعندما تقرر الحكومة زيادة غلاء المعيـشة عليها أن تأخذ في الاعتبار الزيادة الطارئة على بدل النقل.
وبما أن الحكومة اللــبنانية الحــالية هي تحالف سيـاسي بين أرباب المـال والأعــمال وأمراء الحرب، فقد أصرت على التصويت لإعداد مشروع مرسوم غير قانوني، وطالبت الوزير بالتوقيع عليه ومخالفة القانون ففــضل الاستقالة. وأظهر التحالف غيرة خادعة على مصالح العمال في حين أن التدابير تظهر مخالفة صريحة للدستور اللبناني، واعتداء صارخا على حقوق العمال.
كان الخاسر الأساسي هو المواطن العامل والمثقف المؤمن بدولة القانون والمؤسسات. أما زعماء السياسة فلديهم خبرة واسعة في الدفاع عن مصالحهم الشخصية والطائفية، وذلك على حساب الدولة والمواطنين معا. فقد اعتادوا أن يكون المثقف في خدمة الزعيم الطائفي الذي يعتبر نفسه حامي حمى الطائفة بكل من فيها من رأسماليين ومثقفين وعمال وفلاحين. وبإسم هؤلاء تعقد الصفقات العقـارية والمالية والتجارية، بدعم من برلمان منتخب صرف في معركته الانتخابية أكثر من ملياري دولار، وفق تراشق فريقي الصراع بالتهم المدعمة بالوثائق التي تؤكد هيمنة المال السيـاسي على الوزارة، والفساد المالي على القضاء ومختلف إدارات الدولة ومؤسساتها. وهذا ما دفع الرئيس سليم الحص، وهو خير من خبر الإدارة اللبنانية، إلى وصف الثقافة السياسـية في لبنان بأنها «ثقــافة الفساد والإفساد». لذا لم يعد صراع القوى السياسية يستقطب اهتمام مثقفي التغيير الجذري في لبنان ما دام المطلوب إلحاق الثقافة بسياسة فاسدة لا تنتج ممثلين حقيقيين للشعب. وإلى جانب عامل الوراثة السياسة للزعامة الطائفية، يستخدم زعماء السياسة أساليب الاستزلام، والتحريض الطائفي والمذهبي، والرشوة، والمال الانتخابي كأدوات معتمدة في العمل السياسي في لبنان. وفي هذا المجال، تساوى من رفع راية التغيير والإصلاح، مع دعاة حماية المقاومة، ولبنان الواحد، وتيار الوسطية، وغيرها من مفردات الحرية والنزاهة والشفافية والديموقراطية، وكلها لم تنجب إصلاحا حقيقيا واحدا.
نخلص إلى القول ان ما يتعــرض له الوزير المثقف في السلطة يندرج ضمن فكر سياسي متخلف يهدف إلى نبذ أي مثقــف يرفــض الأعراف السياسية في لبنان والتي إعتـادت تهميش الدستور، وأجرت عليه تعديــلات متــتالية بصورة استنسابية لمصلحة زعماء الطوائف. فكان من الطبيعي أن يتخـلى قـادة النظام مجتمعين عن أي مثقف يريد التغيير والإصلاح، وأن يحاصروه لدرجة يصبح معها بقاؤه في الحكم أمرا مستحيلا لاعتبارات إنسانية ومهنية وأخلاقية.
إن من حق أي مثقف حر ألا يثق بحكومة لا تحترم الديموقراطية والرأي الآخر. ومن أَولى واجباته عدم الخضوع لزعماء يتعاطون مع وزرائهم كموظفين لديهم وليس كمسؤولين في دولة عصرية تحترم الأنظمة والقوانين وتعمل لمصلحة مواطنــين أحرار في دولة القانون والمؤسسات التي تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات. فزعماء طوائف السياسة في لبنان يرفضون من يخالفهم الرأي، ويتشددون في فرض مواقفــهم على الآخرين، من أنصارهم قبل خصومهـم السياسيين. ويتخذون تدابير أو قرارات هـمايونية تذكر بأنــظمة استبدادية لا مكان فيها لصاحب الرأي الحر في بلاط السلطان بل في القبر أو السجن أو المنفى. وهم لا يتورعون عن الإساءة إلى كرامته الشخصية والاستخفاف بطاقاته العلمية. وقد توهـمت الطبــقة الســياسية في لبنان أن الانتصار السهل على وزير مشاغب آمن بإمكــانية التغــيير في لبـنان وعمل من أجله يعزز موقعها في الحكم. لكنها تجاهلت دوره في كشف زيف شعارات التغيير والإصـلاح ومقاومـة الفــساد التي تنادي بها. وهي الآن عرضـة لانتــقادات حادة علها تؤسس لربيع قادم يقوده شــباب لبنان الذين سدت بوجوههم كل آفاق التغيير والاصلاح.
([) كاتب وأكاديمي ـ لبنان
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن
علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .