أضف إلى المفضلة
السبت , 18 كانون الثاني/يناير 2025
شريط الاخبار
بحث
السبت , 18 كانون الثاني/يناير 2025


الذين غامروا بالابتسام

بقلم : إبراهيم غرايبة
05-04-2013 12:43 AM
في كتاب القراءة للصف الثاني (1969)، درس 'الولد الشجاع'. جاء الولد، ووقف باسما أمام الطبيب.. وقال عنه الطبيب: هذا ولد شجاع. ظللت حائرا جدا أمام كلمة 'باسما'؛ لم أعرف معناها. كتاب القراءة الذي كنت قد قرأته كله مرات عدة وحدي في أول يوم استلمته من المدرسة، كما قرأت كتب إخواني الكبار في الإعدادية، وحفظت كثيرا من قصائدها التي ما أزال أحفظها حتى اليوم؛ ومجلة العربي التي كنت أسرقها وأقرؤها مغامرا بالعقوبة أو البهدلة على أقل تقدير.. كل ذلك لم يسعفني في معرفة معنى 'باسما'. كيف سأعرف كلمة غير مستخدمة أبدا، وينظر إليها على أنها جريمة؟ كم جلدة أكلنا بسبب الابتسام؟ كم إهانة وشتيمة ظلت ملتصقة بنا لم تمحها السنوات الخمسون بسبب الابتسام؟اليوم، ما يحيرني ويدعوني إلى التوقف طويلا للتأمل والتفسير، كيف كان الأساتذة 'يسلخوننا' بسبب الابتسام، ثم نقرأ لهم درس القراءة، ويشرحون لنا بصدق وإخلاص فائضين عن الولد الشجاع الباسم! هو الأستاذ نفسه لمح حسن يضحك، وكان الموقف يسمح للأولاد بأن يتهامسوا ويبتسموا، فقد كان منشغلا عنا ومكبا يقرأ أو يكتب شيئا (أظنه كان يعد خطته المنهجية: صفحات مسطرة طوليا وعموديا، تشرح الأهداف والوسائل للدروس، وما سيفعله الأستاذ لتحقيق الأهداف. قرأتها كلها مرة في غفلة من الأستاذ). لكنه رفع رأسه فجأة ورأى حسن يضحك، 'لماذا تضحك يا ابن الـ.. تعال هنا مشان أسلخ بدنك' (القصة حدثت تماما كما أرويها، وقد غيرت الاسم فقط). هو لم يضحك، ولكنه ابتسم. كان هناك أولاد كثيرون وأساتذة أيضا اسمهم بسام وباسم، لكن والله ما عرفت معناها، لا بد أنها أشياء مثل فاكهة المانجا. لكن كنا نعرف ونتذكر دائما أن الضحك بدون سبب قلة أدب.. ويحصل لنا مثل ما قال المثل: محل ما ضحك شنقوه. ولما كبرت قليلا، صرت بلا إدراك واضح أقوم بالإرهاب نفسه ضد من أقدر عليه كلما رأيته يضحك، وأصرخ فيه بكل ما أقدر عليه من غضب: الضحك بدون سبب قلة أدب.تنازلت عن كبريائي وهمست سائلا الصديق طه أبو حرب الذي كان يجلس بجواري (درسنا معا الصف الثاني، ثم ألجأته الحرب إلى ترك القرية، ولم نلتق إلا بعد ثلاثين سنة): شو معنى باسما؟ قال لي: ضاحكا. وازدادت حيرتي؛ لماذا يشجعنا الكتاب على الابتسام؟ حتى عندما كبرنا قليلا وقرأنا قصيدة إيليا أبو ماضي 'ابتسم'، ومقالة أحمد أمين عن الابتسام والتفاؤل، بقيا (الابتسام والتفاؤل) ممارسات جرمية، نمارسها بالسر، ونضحي لأجلها بعقوبات يجب أن تكون رادعة. والأسوأ من ذلك كله ما صرت أمارسه بحق نفسي من عقوبة وتأنيب ضمير كلما ضحكت أو ابتسمت أو تفاءلت.مرة أخرى أقول: كل هذا أمر بسيط يمكن أن نتجاوزه، وقد تجاوزناه بنسبة كبيرة. ولكن الصدمة المرعبة هي الممارسات اليومية الجماعية والشاملة، في كل مستويات الحياة والأعمال والطبقات والمواقف والتفكير والتحليل والفقه والتفسير والعبادة والنضال والتربية والاستثمار والحب والمعارضة والتأييد والبلطجة والولاء والإصلاح؛ ممارسات الكذب والتواطؤ الصامت على الذات، أو بين بعضنا بعضا وعلى نحو كاسح ومتقبل، وكأنه الأصل؛ القدرة المجتمعية العجيبة السائدة والمتقبلة على الازدواجية والتواطؤ على الذات؛ القدرة الخارقة على الكذب والتزوير والغش والباطنية والتناقض الفكري والنفسي، وبدون توقف أو تردد أو شعور بالخطأ.ibrahim.gharaibeh@alghad.jo
(الغد)

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012