أضف إلى المفضلة
الأحد , 19 كانون الثاني/يناير 2025
الأحد , 19 كانون الثاني/يناير 2025


الدولة بين الانسحاب وإعادة الهيبة

بقلم : د. رحيّل غرايبة
08-06-2013 11:48 PM
في بداية تشكل الدولة الأردنية كان الأردنيون كغيرهم يعيشون حياة رعوية مستقلة، حيث تموضع الناس وتكيفوا مع واقع انهيار الأمبراطورية العثمانية وتفككها، وحدوث فراغ كبير في حقيقة حضور الدولة، وسيادة حقبة مريرة من الجوع وفقدان الأمن، وقلة الإمكانات، وغياب الشباب الذين حصدتهم الحرب العالمية الأولى، ووقوع البقية الباقية في شباك الأمراض المعدية مثل الملاريا والسل والجدري والحصبة، ثم استطاعوا القيام من براثن الموت والإهمال والنسيان، ليقيموا حياتهم الاقتصادية المنتجة، المعتمدة على الذات، فكل بيت وكل عائلة استطاع انشاء مزرعة متكاملة، معتمدة على تربية الأغنام والأبقار والدجاج، وزراعة القمح والذرة والخضروات، والاستفادة من مياه الينابيع المتوافرة، والاعتماد على مياه الأمطار، وخلقوا حالة تعايش مقبولة مع البيئة المحيطة، قائمة على البساطة والتوفير وعدم الإسراف.
كانت الحياة على بساطتها، وما فيها من معاني الكد والكدح والاجتهاد وقليل من التعليم، وتمتاز بالاستقلالية والاعتماد على الذات، وتحمل من معاني التمكين الاجتماعي ومظاهره أضعاف ما تحمله حياتنا المعاصرة التي تعج بسطحية التعليم، وقشور 'التكنولوجيا' ومظاهر التقليد الممزوجة بالخمول والكسل، والاستغراق في حالة سرمدية من الكسل والبلادة والعجز، التي أفقدتنا القدرة على الانتاج الذاتي، والاعتماد على الذات.(العرب اليوم)
افتقدت الحكومات المتعاقبة للرؤية البعيدة المدى، ولم تمتلك رسالة تطوير المجتمع وفقاً لخطة واقعية تمتلك أدوات النهوض بالمجتمع الذي بدأ منتجاً متمكناً من تلقاء نفسه، وبدلاً من الإبقاء على فلسفة التمكين الحقيقي وتزويد العاملين والفلاحين والمزارعين بآليات التحديث والعصرنة التي تزيد الإنتاج وتحسّنه، ولتسهيل تسويق منتجاتهم، عمدت الحكومات من حيث تشعر أو لا تشعر إلى تحطيم القدرة الإنتاجية، وتدمير البيئة الزراعية المنتجة، فاضطرت العائلات الريفية إلى بيع أبقارها وأغنامها التي أصبحت عبئاً عليها، وهجروا مزارعهم لقلة المياه، وأخذوا يبحثون بلهفة عن الوظيفة البسيطة، وغادر الشباب زرافات وجماعات للالتحاق بالجيش والأمن وكادر الدولة والقطاع العام، وانقلبت حياة الأردنيين عندما انقلبوا نحو التمدن الظاهري السطحي، وتقلصت مساحات مروج القمح، وتقلصت المساحات المرويّة، بسبب سحب مياه الأنهار والينابيع إلى المدن العطشى التي أصبحت تفيض بهجرة أبناء الريف، ولم يعد الريف منتجاً معتمداً على ذاته، فهو يستورد خبزه من أفران المدينة التي تعتمد على القمح المستورد بنسبة تزيد على 95%، وأصبح الريف معتمداً بشكل كامل على الحليب المجفف القادم من هولندا والدنمارك، واللحم المستورد، ومعلبات 'الطون' والسردين' 'والقيمر' المستورد.
لقد تم تحويل المجتمع الأردني 'الرّعوي' المنتج إلى مجتمع 'ريعي' استهلاكي يفتقد إلى الحد الأدنى من الإنتاجية والاعتماد على الذات، وأصبح يعيش الاعتمادية الكاملة، والاتكاء على الدولة وعطف السلطة، وأصبح يعيش حالة الانتظار للمنح والمكرمات التي تسد الرمق وتحقق الحاجة الملحة والمتزايدة للتعليم والصحة التي أصبحت ذات كلفة عالية، تفوق قدرة الشريحة الغالبة على مواجهتها.
بعد هذا الانتقال الحاسم نحو الاعتمادية والاتكالية، جاءت برامج الخصخصة واللبرلة التي تعتمد على فلسفة انسحاب الدولة وتسليم القطاع العام للشركات الخاصة والسماسرة والتجار والطامحين للثروة على الطريقة الرأسمالية المتوحشة، وتقليداً للمجتمعات الغربية التي احتاجت إلى قرون وعشرات العقود من السنوات للوصول إلى الحالة المعاصرة التي تمتاز بالتمكين المجتمعي وانسحاب الدولة والسلطة والقطاع والعام من التدخل في الحياة الاقتصادية المجتمعية والأهلية.
لم ينتبه المنظرون الاقتصاديون الجدد الذين درسوا في المجتمعات الغربية والمقتنعون بفلسفة السوق، للواقع الأردني بدقة لأنهم لا يعرفونه أصلاً ولم يعايشوه إطلاقاً، فافتقدوا إلى فهم الواقع، وقاموا باستنساخ التجربة الغربية بطريقة سطحية فجّة، أوقعت الدولة والمجتمع في مأزق عميق وواسع ومعقد، فلا هم أبقوا على سمات المجتمع الرعوي المنتج رغم بدائيته، ولا هم استطاعوا توريث المجتمع فلسفة التمكين الحديث، نحن في الحقيقة نعيش قفزة في الهواء، وحالة معان والكرك والمفرق وعجلون وجرش ودير أبوسعيد هي الحالة نفسها، التي تستعصي على الحل، سوى البحث عن حلول تخديرية مؤقتة تقوم على إيجاد فرص للشباب في الدرك والجيش والشركات الوهمية!! ويسألونك عن هيبة الدولة!!

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012