24-11-2010 11:55 PM
كل الاردن -
عريب الرنتاوي
إن قُدّر لأحد أن يكتب عن "حروب الجاسوسية" في المنطقة وحولها ، فإن لبنان بلا شك ، سيحتل المساحة الأوسع في كتب التاريخ والسير والمذكرات ، فعلى أرضه وأجوائه ومياهه وفضائه ، تدور أشرس معارك الجاسوسية الإقليمية والدولية ، بعد أن تحوّل البلد الصغير ، إلى محطة ومنصة ، تتقاطع فيها وحولها ، مختلف الأجهزة الاستخبارية العالمية.
أمس الأول أنبأنا وزير الاتصالات اللبناني بتفاصيل "الاجتياح" الإسرائيلي لشبكات الاتصالات اللبنانية ، الأرضية والخليوية ، ونجاح أجهزة المخابرات الإسرائيلية في التحكم بهذه الشبكة ، وبصورة مثيرة للهلع ، فالمسألة لم تعد مسألة "تنصت غبي" على المكالمات الهاتفية ، بل تحكمّ بها ، وتفخيخها ببرامج وشرائح تجعلها مطواعة ، وخاضعة للتحكم عن بعد ، ومن غرف الموساد وأقبيتها السوداء ، فيما يشبه "الدفرسوار" اللبناني ، ولكن عبر أسلاك الهواتف وأثيرها وتردداتها.
أخبرنا الوزير اللبناني ، ومعه رئيس اللجنة النيابية المختصة ، وفريق من الخبراء والتقنيين والصحفيين ، بأن إسرائيل اخترقت المقاومة عبر أجهزة الاتصالات ، وأن سلاح الجو كان بمقدوره أن يصل لهدفه بعد ثوانْ من رفع سماعة الهاتف ، وأن حركة "الهدف" أو حامل الجهاز الخليوي المرصود ، قابلة للتبع لحظة بلحظة ، ومترا بمتر ، والأخطر من كل وذاك وأدهى وأنكى ، أن الموساد كان قادراً على إجراء الاتصالات الهاتفية وإرسال الرسائل القصيرة ، من هواتف كوادر حزب الله ، ومن دون علمهم ، بل ومن دون أن يترك أثراً في "داتا" الاتصالات على فعلته النكراء.
أي أن الموساد بات بمقدوره أن يزرع هاتفاً خلوياً داخل هاتف "الهدف" يرسل ويستقبل خلسة ، ما شاء لمن يشاء ، وأن هذه المهمة لم يعد إنجازها مشروطاً بوجود شبكة من العملاء ن داخل لبنان ، بل بات ممكناً من شمال فلسطين المحتلة ، بعد أن أمكن لإسرائيل تزويد الشبكة اللبنانية ، بمحطات تقوية ، توصل بثها إلى داخل الحدود الإسرائيلية ، وتمكن عملاء الموساد من الدخول الحر والآمن وغير المحدود على الشبكة والخطوط.
أنت لم تعد تثق بمن يحدثك على الطرف الآخر من الخط ، هل هي زوجتك ، أم موظفة في الموساد تعمل على خط هاتفي "شقيق" لخط زوجتك ، أنت لا تستطيع أن تثق بما تستقبل من رسائل ، بل ولا تثق بأرشيف الشركات ، كون التحكم بـ"الداتا" يتم عن بعد ، ومن خلال شبكة الانترنت ، حيث أصبح بمقدور موظف الموساد ، أن يقرر خطياً بأنك كنت في طرابلس فيما أنت لم تغادر بيتك في صيدا ، وببراهين دامغة تصدر من قبل "داتا" الاتصالات حول حركة هاتفك الخليوي.
بمقدور الجهاز أن يشطب مكالمات ويضيف رسائل ، لا ناقة لك بها ولا جمل ، بمقدوره أن يخلق لك "فضحية" من العيار الثقيل ، تودي بك وبعائلتك لأبد الآبدين ، بمقدوره أن "يورطك" بجريمة لا ضلع لك فيها ولا يد ، طالما أنه يستطيع أن يزرع معلومات في "داتا" الاتصالات ، عن وجودك في مسرح الجريمة ، وعن اتصالات أجريتها مع المنفذين ، وأن يخلق شبكات افتراضية ، تتهم بتعقب الضحية وملاحقتها.
لقد كان حزب الله والناطقون باسمه يقولون أن الاتهام الظني الموجّه للحزب بني على معلومات عن "الاتصالات" ، وأن هذه المعلومات مشكوك في صدقيتها تماماً ، وكنا نعتقد أن خلف هذه "التوضيحات" من الحزب ، دوافع سياسية ، هدفها درء الاتهام الموجه إليه ، إلى أن جاء العرض التقني الذي أذهلنا بتفاصيله حول حجم الاختراق الإسرائيلي للشبكات اللبنانية ، وما كان وما يزال بمقدور إسرائيل أن تفعله عبرها ، فبتنا من المصدقين لرواية الحزب عن احتمالات "الفبركة" الإسرائيلية لكل المعلومات التي قادت التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ، وبتنا على قناعة أشد ، بأن المحكمة الدولية تتجه لأن تكون ، أداة فتنة في لبنان ، بدل أن تكون ضمانة للحل والاستقرار والحقيقة والعدالة.
وبمناسة الحديث الأوروبي - الأمريكي المستمسك بالمحكمة والداعم لها ، بل والمدّعي بأنها تنسجم مع أرقى المعايير الدولية ، فإن المراقب لتقارير "سي بي سي" ومن قبلها "دير شبيغل" و"لوفيغارو" ، يعجب كيف يمكن للمعايير الدولية أن تجيز كل هذه التسريبات الإعلامية لمداولات المحكمة ، وكيف يمكن لقرار الاتهام الظني أن يطوف بكل العواصم والصحف ووسائل الإعلام الكبرى ، قبل أن تنطق به المحكمة ، وكيف يجيز المحققون الدوليون كل هذه الخفة في التعامل مع تحقيق على هذا القدر من الأهمية والخطورة ، وهي خفة بلغت ذروتها في في الأيام الأخيرة ، بالاتهام الموجّه إلى العقيد وسام الحسن ، رئيس فرع الأمن والمعلومات ، مسؤول أمن الحريري ، الأب والابن ، وأحد أركان 14 آذار والمستقبل ، وصديق معسكر الاعتدال العربي وابنه المدلل ، والذي نشرت صوره في كل العالم بالأمس ، بوصفه متهماً بالضلوع مع حزب الله في تدبير جريمة الاغتيال ، فأية عدالة وأية معايير دولية يجري الحديث عنها الآن.