أضف إلى المفضلة
الأربعاء , 22 كانون الثاني/يناير 2025
الأربعاء , 22 كانون الثاني/يناير 2025


منديل أزرق جميل

بقلم : إبراهيم غرايبة
27-02-2014 11:57 PM
عندما سلمت إلى إدارة السجن كل ما كان في حوزتي من أمتعتي ومتعلقاتي الشخصية، والنقود والساعة ورباط الحذاء، والملابس أيضا، واستلمت بدلة السجن الكالحة الخالية من كل الملامح، متماثلة مع الكائنات التي تعيش هناك؛ السجناء والسجانون والميكروبات أيضا، وجدت في جيب بدلة السجن منديلا قماشيا. كان شيئا ناعما جميلا مختلفا عن كل شيء في المحيط، حيث يبدو كل شيء قاسيا خاويا.

بدا هذا المنديل مختلفا عن السياق في نعومته وجماله ومعناه المؤثر. كان أجمل ما أمتلكه؛ قطعة فنية جميلة ورائعة، مشحونة أيضا بالذكريات، والعلامة الخاصة الخفية في بيئة قاسية خاوية، والإشارة الجميلة التي كان يرسلها الحنان الممكن الحصول عليه في ذلك المناخ القاسي في درجة حرارته، وقسوة العمل والعلاقات المحيطة، عندما تربطه على رأسك مثلا، أو تبلله بالماء، أو حتى مجرد شعورك أنه في جيبك.

شعرت بامتنان عميق للمنديل وفكرة وجوده. تساءلت عن سر هذه الفكرة الجميلة في سياق كله قسوة وإذلال وكسر للإرادة، واعتداء على الحرية والذات والخصوصية. هل كانت الرسالة أنك قادر على الانعتاق؛ أنك حر وأنت في زنزانتك الانفرادية؟ أنك أنت مثل هذا المنديل الرائع الذي يتحدى القبح والملل؟!

عندما أفرج عني وسلمت ما لدي واستلمت أماناتي التي في إدارة السجن، أعطاني السجان المنديل. خطر لي أنه هدية وذكرى جميلة عن تجربة سيئة. قلت مختبرا الفكرة: ليس لي، وجدته في بدلة السجن!

حدث ارتباك، واستغرب العقيد الذي كان يراقب. قال مؤنبا الجنود: خطأ من هذا؟ وأعاد عليّ السؤال ليتأكد أنه ليس لي، وأني وجدته بالفعل في بدلة السجن. وأكدت له ذلك. تبادل العقيد والجنود النظرات!
ما أزال ممتنا لذلك السجين الذي ترك المنديل متعمدا ربما، لعله يكون لسجين آخر بعده لا يعرفه. لقد وصلت هديتك يا صديقي، وكانت هدية جميلة لا تنسى!

أيها الصديق الذي لم يعرفني ولم أعرفه، ولم يتح لي أن أشكره مواجهة، هذه رسالة شكر أزجيها إليك، مضافاً إليه الذكريات وعدم النسيان. خمسة وعشرون عاما مضت، ومنديلك الذي أهديتني إياه، أو أبقيته لي أو نسيته، يصاحبني مثل رفقة جميلة مؤنسة في طريق موحشة.

لماذا بقيت في هذه الطريق وحيدا، كما لو أنني في زنزانتي الانفرادية؟
ما الحياة سوى طريق تسلكها وحدك، كما لو أنك محكوم عليك بالفردية والانفراد؟
كل ما يمكن أن تحظى به في الحياة.. منديل أزرق جميل.
(الغد)

التعليقات

1) تعليق بواسطة :
28-02-2014 01:09 PM

مِسحة وجودية القت بظلالها على المقال ،صحيح ان الانسان سيد نفسه ،ويمتلك حريته ،لكن الانسان محكوم ببيئته وعلاقاته ،ومصيره مرتبط بمصير من حوله!!؟

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012