09-01-2011 10:49 AM
كل الاردن -
علي سنيد
إبان شرعت الدولة العثمانية في سلخ لواء الاسكندرون عن سوريا تخوفت السلطات التركية الحاكمة آنذاك من تداعيات هذا الحدث المؤلم في العالم العربي ، وخاصة في منطقة الشام ، فكان من الاحتياطات الأمنية التي اتخذتها تحسبا من وقوع الاضطرابات منع إقامة صلاة الجمعة ، وإغلاق المساجد في منطقة الشام ، فما كان من المسيحيين العرب إلا أن فتحوا كنائسهم للمسلمين لإقامة الصلاة فيها ، وصلى المسلمون الجمعة ، وخطب الأئمة في الكنائس.
ولا يخفى ما يحمله التاريخ المشترك في هذه المنطقة من تجليات الوئام الديني المسيحي المسلم ، وهي التي تحمل في طياتها حقيقة الأديان ، وكانت مسرحاً للأنبياء والرسل ، وتتوزع فوق أرضها المباركة أقدس الأماكن.
وحتى سلسلة الحروب التي شنتها أوروبا الاستعمارية على المنطقة فيرفض المؤرخون المنصفون إدراجها في قائمة الدفاع عن الصليب ، ويرفض المسيحيون الشرقيون وصفها بالحروب الصليبية ، ويصرون على أنها غزوات قادها الافرنجة باتجاه الشرق في فترة مظلمة من التاريخ ، وقد قاتل المسيحيون العرب في القدس إلى جوار مواطنيهم من المسلمين لصد بعض هذه الهجمات التي تعرض لها الشرق باسم الصليب ، وسقط منهم عشرات الآلاف من القتلى دفاعا عن القدس ، ومعروف أن جزءا من مسيحي العراق اسلموا احتجاجا على هذه الحروب التي شنت باسم الدين. وما كان جرى من تطرف مسيحي إزاء المسلمين في أوروبا ، وتطهير ديني ، ومحاكم تفتيش ، وربما انه يمتد إلى اليوم في سياسات بعض الدول الغربية التي تهدر حقوق العرب ، والتي سبقتها مرحلة استعمارية كاملة تعرضت لها معظم المناطق العربية للاحتلال ، وأخرها دعم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فلا علاقة لمسيحيي الشرق به ، بل ويقابله التطرف الذي تعرض له المسيحيون الشرقيون أنفسهم في الدولة الرومانية القديمة.
ومعروفة منابع الحركة العروبية التي نشأت في بلاد الشام للحفاظ على الهوية العربية في مواجهة سياسة التتريك ، وقد كان المسيحيون العرب يشكلون نواتها الأولى ، وما تزال إسهاماتهم في حفظ اللغة العربية شاهدة على الانتماء للأمة ، ولعل من ابرز تجلياتها قواميس اللغة.
ومن دلائل الفهم الواعي لحقيقة العلاقة الإسلامية المسيحية ما تبدى في التعامل الإنساني الذي شرع به القائد صلاح الدين الأيوبي إزاء أسرى حروب الفرنجة ، وحسه الإنساني مع الأسرى ، وإتاحة ممارسة طقوس العبادة والتدين لهم حتى أثناء عملية الأسر.
وتعود جذور التلاقي إلى ما قبل الإسلام حيث كانت كثير من القبائل العربية خارج مكة والمدينة تدين بالمسيحية ، وقد نقل القرآن الكريم بعض قصص هؤلاء المؤمنين وضربها مثلا على التضحية ، والفداء من أمثال قصص أصحاب الأخدود ، وأهل الكهف.
ونقل التاريخ كيفية التعامل المسيحي مع ظهور الإسلام ، ومن ابرز تجلياتها ضم الحبشة التي كانت تدين بالمسيحية للصحابة الذين فروا بدينهم في الهجرة الأولى قبل الفتح ، ووفرت لهم الحماية إلى أن هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة ، وقد افرد القرآن الكريم آيات طوال تبين طبيعة بعض رجال الدين المسيحيين ، وتضفي عليهم الصفات الحميدة ، وحظيت السيدة مريم العذراء بسورة كاملة في القرآن الكريم تحمل اسمها ، وهو الأمر الذي لم يتحقق لسيدات الإسلام العظيمات. ولم يكتب التاريخ ما يشير إلى تحدي من أي نوع تعرضت له الرسالة الإسلامية من قبل رجال الدين المسيحي على شاكلة ما جرى من قبل اليهود ، وراحت الوفود المسيحية تتبادل الهدايا مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكان رجل الدين المسيحي بحيرى الراهب بشر بقدوم النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام ، وأوصى جده بحمايته ، وقد روى سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رجال دين مسيحيين أرشدوه للتوجه إلى طيبة التي كانت تنتظر أوان قدوم نبي سيعم العالم نوره.
وقد دعا الإسلام عموما إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، ونهى عن التعرض لاماكن العبادة الخاصة بهم ، وكان البعض ممن يعكفون على عبادة النار يتواجدون في المدينة المنورة امنين على أنفسهم.
ولم تشهد بدايات ظهور الإسلام ، وما أعقب ذلك من فتوحات إسلامية صراعا مع المسيحية الشرقية التي يطلق عليها المسيحية النسطورية ، والتي تقترب في بعض تفاصيلها فيما يخص الطبيعة البشرية للسيد المسيح وأمه عليهما السلام من الفهم الإسلامي.
وقد سجل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فصلا رائعا في كيفية التعامل مع المسيحيين في قصة فتح بيت المقدس الشهيرة ، وما صدر عن العهدة العمرية من حقوق لساكنيها من المسيحيين ، وما كان اصطلح على تسميته بالعهدة العمرية التي أمنت المسيحيين حتى على صلبانهم، ، وقد بلغ من عمق فهمه لحقوق المواطنة أن يعرض أمير مصر الصحابي الجليل عمرو بن العاص وابنه للقصاص نزولا عند حق احد الأقباط الذي يدين بالمسيحية. وقد سبق ذلك أن عمت الفرحة أبناء الطائفة المسيحية تيمنا بقدوم الإسلام حيث كان أتباع هذه الديانة مضطهدين من قبل الرومان مما الجأهم للهرب من البطش والاعتزال في المغر والكهوف ، وقد يكون ذلك منشأ الرهبنة في المسيحية. وينقل التاريخ ان الرهبان خرجوا في مشهد احتفالي في الطرقات احتفاء بدخول الإسلام إلى مصر مستبشرين بالعدل والحرية.
والى ذلك ، ساهم المسيحيون الشرقيون فيما بعد في حركة الترجمة وهي التي تعد طريق العبور التي سلكها المسلمون إلى الحضارة من خلال الإطلالة على كتب ومؤلفات الأمم الأخرى ، وكانت مكتوبة باللغة الساسانية .
ومن نافلة القول التذكير بوصايا الخلفاء - الأكثر فهما للإسلام - بكيفية أن يتحرى المسلمون أثناء عمليات الفتح الإسلامي عدم التعرض للصوامع وأماكن العبادة ، أو المدنيين.
وقد امتد الإسلام ، ووصل إلى أقاصي الأرض دون أن يتعرض المسيحيون في كافة مناطق تواجدهم للخطر ، وبقوا يتمتعون بمواطنة الدولة الإسلامية في العراق ومصر والشام ، وظلوا على ديانتهم إلى اليوم ذلك أن الإسلام معتقد لا يقوم على الإكراه ، ويضمن حرية الاعتقاد ، ويؤمن أتباعه بجميع الأنبياء والرسل ، وإيمانهم بالرسالات السابقة شرط لإسلامهم ، ضمن ما يحفظ مقومات الأمن في الدولة الإسلامية ، وانخرط المسيحيون في البلدان العربية كجزء أصيل من نسيجها الاجتماعي ، وساهموا بكافة مراحل تقدمها ، وهم يشتركون مع المسلمين في أسباب انحسارها ، ومنهم العلماء ، والمفكرون ، والقادة السياسيون ، والعسكريون ، وما دعاوى فك الارتباط داخل الدول التي تدين غالبية سكانها بالإسلام إلا هرطقات تكاد أن توجه ضربة نجلاء لتاريخ الإسلام الذي هو وعاء لكافة القوميات ، والأديان التي سلفت ، ومرد ذلك إلى انفلات عقد الحكمة والمنطق في فهم التاريخ الإسلامي ، وحقيقة هذا الدين العظيم الذي جاء للعالمين ، وقد حافظ على جوهر هذه المنطقة ، ولم يسجل عليه عمليات تطهير عرقي أو ديني ، وهي التي تتمتع بالتنوع ، وتباين المعتقدات ، والأجناس ، وهذا ما أدى إلى سيادة الثقافة الإسلامية ذات الطابع العالمي.
والمشكلة الراهنة ليست محصورة أساسا في فهم البعض المتطرف لموقف الإسلام من المسيحيين تحديدا ، وإنما ينسحب هذا الفهم الهدام إزاء المسلمين أنفسهم الذين تجرعوا ويلات التنظيمات المنفلتة من عقال الحكمة ، والمنطق والتي ضربت في معظم مناطق العالم الإسلامي ، وسفكت دماء الأبرياء في كثير من الدول ، ولم تسلم حتى المساجد والمصلون فيها ، وسقط الأبرياء المسلمون سنة وشيعة تماما مثل غيرهم من المسيحيين على شاكلة ما نشاهده اليوم يجري لإحدى الكنائس في مصر مترافقا مع أعياد الميلاد ، وتعتصر قلوب الأمة ألما له ، واقل ما يقال فيه أن من يقف خلف مثل هذه الأعمال الإجرامية قوى شيطانية كبرى ، ولعل ما تعرض له مسيحيو العراق من طرد وهروب جماعي بسبب غياب الأمن عقب سقوط النظام السياسي ، واستفحال خطر هذه الجماعات التي تنتحل العمل باسم الإسلام لخير شاهد على خطورة ما يجري. وهم الذين ظلوا أمنيين طوال فترات الحكم الإسلامي منذ الفتح الإسلامي ، والى ما قبل هذه الفترة الحرجة في التاريخ.
ولعل الحل يكمن في نهوض حركة علمية إسلامية تشرع بعملية إعلانية كبيرة من خلال وسائل الإعلام والمؤلفات للرد المنهجي على فلسفة هذه الجماعات المخربة ، وأثرها في جيل الشباب ، مما قد يوقف هذا الزحف المجنون الذي أوى بحياة الآمنين وعرضهم إلى المجازر ، والدمار. ذلك أن العلماء مطالبون بموقف شرعي يتمثل بأن يبينوه للناس قبل أن تختلط هذه الأعمال الإجرامية وتصبح جزءا من الحراك الإسلامي أمام التاريخ - لا سمح الله - .