بعد 3 ايام جمعة من المظاهرات الشعبية في البلاد هناك ما يستحق القول والاشادة, وهو كيفية تصرف الدولة واجهزتها تجاه المشاركين في هذه المظاهرات والمسيرات. انه تعامل حضاري, يدل على مدى الوعي المتقدم الذي يعبر عنه النظام الهاشمي الملكي, وكذلك جمهور الاردنيين الذين اثبتوا ان التجمعات الاحتجاجية, مهما كان سقف شعاراتها, لا تلجأ الى العنف والتخريب.
لقد اظهرت قوات الامن, خاصة في مسيرات يوم الجمعة الماضي بان الحفاظ على حقوق الانسان ليس مجرد نظرية وسياسات للترويج امام العالم, انما هي ممارسة وثقافة يلتزم بهما رجال الأمن مثل التزام المواطن بالتعبير السلمي الحر.
النظام الملكي في الاردن ليس كنظام بن علي, ولا يقارن بالشمولية الديكتاتورية في المنطقة. فالحريات العامة ومنها حرية التعبير كانت دائماً مصانة للمعارضة واحزابها وللناس ومجالسهم ودواوينهم. صحيح ان هذه الحريات ليست كافية وتحتاج الى مزيد من التشريعات وفق المعايير العالمية, لكنها موجودة ومسألة تطويرها كانت دائماً ولا تزال محل جدل في البرلمان والشارع, في المنتديات ووسائل الاعلام.
يحلو لبعض المحللين في الخارج مقارنة المسيرات الاحتجاجية بما جرى ويجري في تونس. والواقع ان ظاهرة المسيرات عادة سياسية واجتماعية ووسيلة في أيدي الاردنيين للتأثير على اصحاب القرار, الى جانب حملات النقد للحكومة في الصحافة ووسائل الاعلام والمدونات والمواقع, وهذه الحملات كانت دائماً من اسباب قصر اعمار الحكومات.
لا نرى في الدول العربية امثلة مشابهة للمشهد الاردني الزاخر بالحركة, والسبب ليس ان شعوب هذه الدول ترتع في جنان الحرية والديمقراطية او تصون حقوق الانسان, انما العكس تماماً, فهي تعيش حالة كبت وقهر مزمن للعقول والمشاعر من قبل انظمة متحكمة تراقب حركات مواطنيها وانفاسهم وحتى ما يلقونه من نكات. مثل هذه الانظمة تمثل تربة خصبة لاستقبال "رائحة ثورة الياسمين" في تونس. اما في الحالة الاردنية, فان هذا الاستقبال للروائح التونسية العطرة هو من اجل تعزيز ودفع مسيرة الاصلاح السياسي والاقتصادي التي كانت دائماً محل اتفاق على ضرورتها واهميتها من قبل الدولة والشعب.
كثيرون كانوا يراهنون بان تتحول المسيرات في الشارع الاردني الى حالة من الصدام والعنف والفوضى, لكن هذه الرهانات سقطت. ومن المؤكد انها ستسقط في المستقبل, فحجم المشاركين في المسيرات من الاردنيين, وانطلاقها في مختلف المناطق: الشمال, الوسط والجنوب يجعلها مختلفة, ويجعلها بالتأكيد, محل اهتمام كبير من جلالة الملك, القريب دائماً من مشاعر شعبه, منحازا لها ولمصالح الاردن ولكرامة وحريات الاردنيين.
وايضاً ستسقط جميع الرهانات التي تتحدث عن ان الدولة ستعمل في النهاية على احتواء المطالب الشعبية وتسكينها عبر قرارات (اسبوعية) تستنزف الموازنة الى ان يعود الامر كسابق حاله من فقدان الثقة بين الحكومة وبين الاردنيين. فاليأس من الاصلاح يلقي بهمومه واثقاله على كواهل الناس الذين يطالبون بتصويب السياسات القائمة واختيار الكفاءات لادارة الموارد العامة من قبل حكومة قادرة على اشاعة الطمأنينة والثقة ومحاربة الفساد وتجنب البذخ في المظاهر والنفقات والتوقف عن ارتكاب أخطاء تحُمّل العباد والبلاد ما ليسوا قادرين على تحمله.
لا يعيب الدولة ولا ينقص من هيبتها ان تستجيب لمطالب الشعب وتستمع الى آلامه وآماله. على العكس, كلما كانت هذه الاستجابة بالتغيير كبيرة وقوية كلما كان التفاف الناس حولها اكبر واقوى. فشعبية الحكومات المفقودة لا تستعاد ببضعة دنانير زيادة على المعاشات او تخفيض في اسعار السلع, انما باعمال واقوال تكسب العقول والقلوب وتبني الثقة بين واضعي السياسات والمتلقين لآثارها, سلباً كانت ام ايجاباً أي سياسات تهتم بتنمية المشاعر الوطنية العامة بقدر اكبرمن اهتمامها بالارقام الصماء للتنمية الاقتصادية.