لا نستطيع مغادرة مربع الكتابة والتعليق ومشاركة الجميع قراءتهم لما يحدث اليوم في تونس ومصر من ولادة العصر الجديد. فهذا المشهد يملأ زوايا الرؤية كاملة، ولا يسمح بأيّ حديث أو نقاش آخر، أو موضوع مختلف أن يزاحمه لدى الرأي العام العربي، وحتى لدى نخب عالمية واسعة النطاق.
ما يحدث في مصر يهزّ العالم العربي اليوم، ويجعل النظام الرسمي العربي بأسره يقف على أطراف أصابعه منتظراً النهاية الأخيرة لهذا الصدام بين الثورة الشعبية والممانعة الرسمية.
لحظات دافئة، برغم مرارة التضحيات والكلفة الإنسانية العالية فيها، تعيشها الشعوب العربية اليوم، وهي تستمع إلى "سيمفونية الحرية" تُعزف من قلب القاهرة وتونس، وأشواق الحرية تطير من مكان إلى مكان، وقد كسرت حركة الشعوب معاني الخوف كافة، وواجهت ما كانت تخوّف به دوماً.
ما يحدث اليوم هو حلم وليس كابوساً، هو انبلاج فجر طالما انتظره العرب أجمعين، وأحسب لو أنّ شاعرنا الراحل محمود درويش ما يزال حيّاً لأعاد نظم قصيدته ثانية وقال "الآن.. سجّل أنا عربي، مصري، تونسي..".
الشعوب العربية اليوم رسّمت معالم الطريق الديمقراطي، ولن تنتظر منحة أو منّة من أحد، هي التي تصنع غدها، وتختار حكوماتها وتحكم نفسها، وقد علّمت بالصدور المشرعة في مواجهة العصا خط البداية لعصر الديمقراطية العربية الجديد، وهو خط لن تتراجع عنه، وعمّدت بالدم أسس المرحلة القادمة، ولم تعد تجدي محاولات الالتفاف التي قام بها الرئيس المصري مؤخراً، فالصورة اليوم واضحة جداً.
لم يعد مقبولاً أبداً أن تبقى الشعوب العربية وحدها من بين الأمم في عصر الظلام، تدفع ثمن الفساد والعبث الرسمي العربي، لم تعد النخب المثقفة والسياسية وأجيال الشباب الصاعدة العاطلة عن العمل تقبل بتلك القواعد البالية في إدارة السياسات العربية، وبالاستخفاف الفجّ بحريتها وكرامتها وقيمتها الإنسانية.
المعركة اليوم هي معركة الإنسان العربي، هي تكريس لعقد اجتماعي جديد تنتهي فيه الصورة الكاريكاتورية الهزلية الحالية، تتكرس فيه ديمقراطية حقيقية ودولة المواطنة والقانون والمساءلة وحقوق الإنسان وتداول السلطة.
لست أشك، ولو للحظة، أنّ المواطنين العرب اليوم يتنفسون هواء الحرية من القاهرة وتونس، ولو قدّر لعشرات الملايين لذهبوا بصدورهم وأرواحهم لمشاركة المصريين حماية الثورة وإكمال الطريق إلى نهايته، ومواجهة قطاع الطرق، وحماية متحف القاهرة، والأحياء الشعبية.
أيها السادة تأكّدوا أننا لا نرفع سقف التوقعات، ولا نخرج من سياق التحليل والوقائع إلى الأحلام والأمنيات، الحلم الأكبر هو ما حدث في تونس وما يجري الآن في مصر، ذلك هو اليوم الذي كدنا نفقد الأمل أن نراه في الأمد القريب.
ثمة خطّ سياسي في المنطقة يتراجع ويهوى في مقابل خط يتصاعد ويسير إلى الأمام، فهل يمكن التقاط طبيعة هذه اللحظة، وإعادة هيكلة السياسات والمسارات بما ينسجم معها لا يصادمها؟!
ليس أمام النظام الرسمي العربي اليوم خيارات، غير أن يستجيب لحركة التاريخ ومنطقه، ويسارع إلى إصلاحات بنيوية حقيقية.
m.aburumman@alghad.jo