20-02-2011 06:42 AM
كل الاردن -
أ.د محمد الحموري
برنامج مقترح للتنفيذ كخطوة أولى
تمهيد وتقسيم:
نعرض في هذه الدراسة لأمرين رئيسيين, أولهما, قراءة في واقع الممارسات الحكومية, وثانيهما, لأساسيات الإصلاح القانوني المطلوب.
الأمر الأول: واقع الممارسات الحكومية:
1- بين دولة الأشخاص ودولة القانون:
إن من عاش بوعي كامل عصر الأحكام العرفية التي تمنى الأردنيون التخلص منها, يترحم عليها, عندما يقارن بها الحال الذي أصبحت عليه دولتنا في الزمن الذي يطلقون عليه العصر الديمقراطي, حيث تسارعت وتيرة الغياب التدريجي لسيادة القانون منذ حل مجلس النواب الحادي عشر قبل أوانه عام ,1993 حتى وصلنا إلى حال لا سابق له. ويتساءل الباحث عن الحقيقة, إذا كان أعضاء السلطات الثلاث في العصرين العرفي والديمقراطي أردنيين, فماذا تغيّر إذن, حتى أصبحنا أمام حكم يمارسه علينا أردنيون, تغيب في ظله الطمأنينة, وتحل فيه دولة أشخاص مكان دولة قانون, ويوصف من يجأر بالشكوى أنه صاحب أجندة خاصة, أو غير مخلصٍ للوطن, أو عميل لدولة أخرى, أو يعاني من بطالة سياسية, أو غير ذلك من النعوت الجاهزة التي تطلقها عليه أقلام كتّاب الحكومات.
لقد كانت المخالفة للدستور أيام الأحكام العرفية, تجد من يتصدى لها, وكان التصدي له تأثيره بشكل أو بآخر, وكان الجالس على سرج رئاسة الحكومة يخشى كشفه في صالون من سبقه. أما في عصر الديمقراطية, فقد أصبح لكل حكومة دستورها الخاص بها, تحضره معها وتطبقه, بمعزل عن دستور الأردنيين الصادر عام 1952 الذي يأخذ بالنظام البرلماني. وتدريجياً تراكم الانحراف عن الدستور, وسكت الكثير من السابقين, كونهم شركاء في حفر القبر لمبدأ المشروعية وسيادة القانون, في حين تم شراء الكثير من الأقلام لتعظيم المسؤول وتغطية التجاوزات, ومن بقي صامداً من أهل الرأي, أصبحت معاناته أكبر من حد الوصف. أما الأحزاب التي حلت مكان الصالونات, فقد وُضعت لها من القيود والعقبات, ما يجعلها في كثير من الأحيان مجرد ديكور مرغوب فيه لتزيين المكان أمام الأغيار. وبالتدريج وصلنا الآن إلى حال غير مسبوق في تاريخ دولتنا من الشكوى والتذمر, وكأن هناك سوْق للناس لفقدان الثقة والأمل في آن معاً. إن ما وصلنا إليه ليس من صنع حكومة واحدة, بل هو نهج حكومي أصبح اللاحقون بموجبه يقتدون بخطايا السابقين ويضيفون إليها خطايا أكبر وأكثر. ولعل حكومة واحدة تكون مظلومة إذا نسبنا إليها جميع الأخطاء, ذلك أن التجاوز على الدستور أخذ نمطاً من التغول, أمام مرأى من مجالس النواب وسمعها بشكل تدريجي على مدى سبعة عشر عاماً, حتى غدا التجاوز والانحراف تقليداً مألوفاً لا يؤلم جرحه سوى أصوات غير مسموع أنينها.
2- مطالب أردنية تم تجاهلها:
وخلال المدة سابقة الذكر كتب الكثير, ونبه المخلصون من تردي الأوضاع, لكن دون جدوى, فقد تكررت الكتابة والشكوى من أمور كثيرة منها:
أن الحديث تزايد عن سوء الأحوال الاقتصادية في البلاد, وازدياد البطالة واتساع جيوب الفقر.
وعن المديونية التي تضاعفت حتى الآن ثلاث مرات عن أيام الأحكام العرفية.
وعن معاناة الناس التي لا تقابَل إلا بالوعود والكلام المعسول.
وعن ديمقراطية أعدم جدواها قانون الأحزاب العقابي, والقوانين المصادرة للحريات, وقانون انتخاب رديء فكك لحمة المجتمع وشكل وصفة للموت البطيء للقائم من تلك الأحزاب.
وعن قانون الاجتماعات العامة الذي انحدر بالحق الدستوري ليصبح منحة وتفضلاً بالموافقة عليه من الحكومة,
وعن المدونات والنصوص والقيود وممارسات البلطجة على الرأي المكتوب, التي أودت بحياة الصحافة وأصحاب الرأي واستهدفت أن تكون الكلمة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية مفصلة على المقاس الذي يناسب الحكومات.
وعن قطاعات ضجّت وخرجت عن صمتها كالمعلمين والقضاة والصحافيين وهم أعمدة لا تقوم دولة بغيرها.
وعن تعليم جامعي تدنى تدريجياً إلى حد أصبح فيه عصياً على الإصلاح, بعد أن تم إدخاله الى سوق لانتفاخ الجيوب ووسيلة لاكتساب الولاء أو التبعية عند الحكومات. وفي ذات الوقت أُريدَ فيه للأساتذة أن يُعيّر من يبدي رأياً منهم خارج السياق المطلوب بأن ما يقوله هو حكي أكاديمي, ولا قيمة له خارج أسوار جامعته,
وعن رأس المال الذي اختطف الدولة من يد أبنائها, وأصبح يرعى مصالحه من خلال كراسي السلطة, مما أفقد المواطن ثقته باستقامة أصحاب القرار.
وعن قوانين مؤقتة تشكل وصمة عار في جبين أي فكر دستوري.
وعن فساد استشرى حتى أصبح المؤسسة الأقوى في الدولة.
وعن أقلية تحظى بالحقوق والامتيازات وأغلبية تقع على عاتقها الواجبات.
وعن متقاعدين أعطوا للوطن حياتهم فكان الثمن هو تآكل معاشاتهم وضيق ذات اليد بعد أن تم التنكر لتضحياتهم, وأصبح جأرهم بالشكوى محل اتهام, وفي أحسن الفروض موقفاً غير محمود.
وعن بيوع لمؤسسات ومعالم وطنية لها في وجدان الأردنيين ونفوسهم قدسية التراث.... الخ.
3- ادعاء الحكومات بتمثيل الأغلبية الصامتة:
رغم كل ما كتب وما تم التنبيه له, فإن الحال لم يتغير, وظلت الحكومات سادرة في غيِّها, تدعي بأنها تمثل الأغلبية الصامتة المؤيدة لها, ومن ثم تصدر ما شاء لها من القوانين العابثة بالدستور وبالنظام القانوني وبحقوق الناس وحرياتهم. فأين هذا الذي تدعيه الحكومات من التهميش الذي تعاني منه الأغلبية الصامتة?
أ. إن الأغلبية الصامتة قبلت الدستور الأردني عقداً اجتماعياً بينها وبين السلطة, ونص هذا الدستور على أن (الأمة) الشعب هو مصدر السلطة, وأن هذا الشعب يختار نواباً عنه بحرية وشفافية ودون تزوير, بحيث لا تستطيع حكومة أن تمارس سلطة من غير الحصول على ثقة نواب الشعب. فأين ما يجري مما يوجبه دستور الأردنيين? لقد استطاعت الحكومات أن توصل الأردنيين حداً يعتقدون فيه أن مجالس النواب التي جاء بها قانون الصوت الواحد على طريقة الحكومات لا تمثلهم في ممارسة دور الرقابة أو التوجيه أو المحاسبة للحكومات, بل وليس لها قيمة عند تلك الحكومات? هل يقبل دستور الأردنيين بأن تصدر الحكومات قوانين مؤقتة تصادر الحريات رغم أنها تخالف الدستور جهاراً نهاراً, وتدّعي تلك الحكومات بذرائع لتبريرها لا يقبلها طالب بادىء في كلية الحقوق. إن المادة (94) من الدستور تشترط لإصدار القانون المؤقت وجود حالة ضرورة لا تحتمل التأخير, كالفيضانات والزلازل والبراكين... الخ, كما سبق أن قررت الهيئة العامة لمحكمة العدل العليا: فهل وجد في الأردن حالة ضرورة بهذا المعنى لإصدار تلك القوانين?
ب. يكفي أن نعلم, وبيقين, أنه لا توجد دولة تأخذ بالنظام البرلماني مثلنا تسمح للحكومة أن تعالج بقوانين مؤقتة موضوعات تتعلق بالقضاء, أو العقوبات, أو الضرائب, أو الانتخابات, أو الأحزاب, أو الصحافة, أو الاجتماعات العامة, أو الحريات العامة. والسبب هو أن مثل هذه الموضوعات ترتبط بحقوق الناس وحرياتهم, والسماح للحكومات بالمساس بها يحول هذه الحكومات وأجهزتها إلى دكتاتور جبار, لا يستطيع الوقوف في وجهه رأي أو فكر, ولا تردعه حرمة مصلحة عامة, ويستدرج هذا التغول, المزيد كل يوم, ويصبح الدستور والعدم سواء.
ج. إن الحكومات لا تستطيع أن تغطي خروجها على الدستور عن طريق توظيف مرتزقة للتبرير من خلال القيام بإصدار الفتاوى التي تقول أن من حق الحكومات إصدار القوانين المؤقتة, ومن لا يعجبه ذلك, فباب القضاء مفتوح له!! هكذا وصل الحال في تجاوز الدستور, تماماً مثل السماح لبلطجي الحارة أن يضرب المارة ويجرح ويكسر الأيدي والأرجل كما يشاء, ويقال لمن لا يعجبه ذلك أن يذهب إلى القضاء!!
د. كما أن القول, من أجل التبرير لسلوك الحكومات, أو إغوائها, بأن مجلس النواب عند انتخابه واجتماعه سوف ينظر في القوانين المؤقتة ليرى مدى دستوريتها, يستهزىء بعقول الناس, ذلك أنه رغم أن ما قامت به الحكومات في ظل تلك القوانين, يظل وصمة عار في جبين وطن يعج بأصحاب المؤهلات التي لا تقبل بترك الحبل على الغارب للحكومات, فلم تقم مجالس النواب السابقة بإبطال القوانين المؤقتة المخالفة للدستور. بل إن الأردنيين رأوا أن إحدى الحكومات تغيّب مجلس النواب لمدة عامين لتصدر خلالها أكثر من (220) قانوناً مؤقتاً تخالف الدستور, ومع ذلك بارك لها مجلس النواب الذي تم انتخابه في عهدها صنيعها, وأعطاها الثقة بنسبة لم تحصل عليها حكومة قبلها, كما رأوا كيف أن الحكومة السابقة كانت تصدر قانوناً مؤقتاً بالمعدل كل أسبوع, ومع ذلك أعطاها مجلس النواب الثقة بنسبة من الأصوات لم تحظَ بها حكومة في تاريخ المملكة.
4- حكومات استمرأت التغول على ما عداها:
لقد أدى غياب المحاسبة عن الانحرافات, إلى إلغاء مبدأ يشكل بديهية في النظم الدستورية وهو, مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية, وقاد ذلك إلى السكوت عن المنحرفين في الممارسات الحكومية, فأصبحت ضوابط الدستور في مجال الحقوق والحريات لغواً بعد أن فقدت قيمتها.
فهل أعمت السلطة وامتيازات تجارها وحواريهم عن رؤية أي نص في الدستور يضع الضوابط للحكومات وتصرفاتها?
أ. إن الحقوق والحريات التي ينص عليها الدستور الأردني, تحاكي أفضل النصوص في دساتير الديمقراطيات المعاصرة ومواثيق حقوق الإنسان, فهي ذات الحقوق والحريات التي يمارسها الشعب الإنجليزي بموجب ذات النصوص, لكن الحكومات أهدرت قيمة تلك النصوص وأفرغتها من مضمونها. هل خطر ببال الحكومات يوماً أن الدستور قد نص على أن الدولة تكفل حق الطمأنينة للمواطن كما تكفل حرية الرأي للأردنيين, وهل فكرت لحظة في أن كلمة تكفل معناها التدخل الإيجابي وإزالة العقبات وتهيئة جميع الظروف التي من شأنها أن تحقق المطلوب, فأين هي الطمأنينة للمواطن الخائف على يومه وعلى غده, وماذا يجدي الرأي, على فرض وجوده, عند حكومات لا تسمع إلا صوت نفسها وأصوات خلانها. ماذا كان على الأردنيين أكثر من التنبيه لخطورة انحراف الحكومات ونشر التحليلات التي تبين سوء ما يجري, ثم تقديم دراسات للإصلاح, كتبت جميعها برحيق العقول, ومع ذلك طواها التجاهل والاستخفاف بكل فكر ورأي, والإنفراد بالقرار لتحقيق المصالح الخاصة.
(العرب اليوم)