لم تأتِ اللحظة الراهنة-الاستثنائية من فراغ، فقد ولّدها 'الانقلاب التاريخي' في المشهد العربي، بالتوازي والتزامن مع حراك سياسي داخلي أدّى إلى رحيل حكومة سمير الرفاعي الثانية بعد مدة وجيزة على تشكيلها.
جملة هذه التطورات الكبرى أعادت هيكلة الأولويات الداخلية، ودفعت للمرة الأولى وبصورة حاسمة وواضحة بمشروع الإصلاح السياسي إلى رأس أجندة الدولة، باعتباره ضرورة، لا تقبل التأجيل، وبعد أن كان هنالك تيار رسمي عريض يقاوم ذلك ويشكك فيه، ويحذّر من نتائجه!
بالضرورة، فإنّ 'مصداقية' الخطاب الرسمي الجديد ما تزال على المحك، بخاصة أنّ كثيراً من الناس لا يشعر بالاطمئنان لذلك، بعد أن سمعنا كلاماً معسولاً عن الإصلاح السياسي سابقاً، ورأينا مساراً معاكساً تماماً له على أرض الواقع، ما جعل من 'الثقة' بالحكومات في الحضيض.
ربما ما يشجّع على قليلٍ من التفاؤل، حالياً، هو وجود حزمة قرارات غير مسبوقة في هذا الاتجاه، كإعلان الحكومة عن دعم إنشاء نقابة معلمين، إذ وضعت أياماً معدودة لتذليل العقبات التي تحول دون ذلك. وقد كانت النقابة خطاً أحمر في العقود السابقة، وما تزال لدى جهات رسمية أخرى.
بالإضافة إلى النقابة، فإنّ الحديث حالياً عن تعديل سلسلة قوانين مقيدة للحريات العامة، وفي مقدمتها قانون الاجتماعات العامة، وإعادة هيكلة مؤسسة مكافحة الفساد وتطعيمها بصلاحيات ومسؤوليات وقدرات تجعلها مؤهلة للقيام بمهماتها الكبرى.
هذه الخطوات بانتظار الخطوة الأكثر أهمية، وهي قانون انتخاب عصري يمنح القائمة الحزبية نسبة كبيرة، ومن ثم انتخابات نيابية مبكرة، تأتي ببرلمان أكثر تسييساً وقوة، وصولاً إلى 'حكومة برلمانية' تكون حجر الأساس لإعادة هيكلة قواعد النظام السياسي، نحو تكريس الديمقراطية والحريات العامة وتداول السلطة والتعددية.
الطريق إلى هذا المشروع، خلال سنوات محدودة، ليست سهلة، وسيكون هنالك من يحارب لـ'فرملة' هذا الخط السياسي وإفشاله، والعودة إلى قواعد اللعبة التقليدية، بالرهان على رفع الكلفة الاجتماعية والسياسية له والتخويف من نتائجه باستخدام فزّاعات مختلفة.
الضمانة الرئيسة والحقيقية لحماية 'خط الإصلاح السريع' وتدشينه تكمن بصورة رئيسة باستمرار الضغط الشعبي والزخم السياسي للدفع بهذا الاتجاه، وتوفير مظلة توافق سياسي وطني تحميه وتدافع عنه.
ما يقلقنا بشدة هي تلك البيانات والخطابات المتضاربة، التي عادت للظهور، خلال الفترة الأخيرة، وتعكس اختلافاً كبيراً في التفاهم على أسس الإصلاح وأرضيته الوطنية المشتركة، بدلاً من تقديم إطار وطني توافقي على الخطوات المطلوبة والمسار العام، ويشكل صمام أمان للجميع.
التصادم في البيانات والخطابات السياسية هو تبديد للفرصة الحالية، وحرف لمشروع الإصلاح عن مساره، ويستبطن أجنداتٍ سياسية (وبعضها شخصية) تركز على نقاط اختلاف محدودة مقابل إهدار وتجاهل المساحة الواسعة من التوافق الداخلي على نوعية الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نريدها لوطننا في المستقبل.
ما نحتاجه حالياً هو تعزيز القوى الوطنية التي تحمل خطابات وطنية جامعة تحدد بوصلة الهدف بوضوح، وتبتعد عن معارك تنتهي إلى أزمات اجتماعية وسياسية، فنرتهن إلى القلق والشكوك بين القوى والأطراف الداخلية بدلاً من التحضير لتجديد النظام السياسي وتطويره!
m.aburumman@alghad.jo