أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


اقرأ وترقّى

بقلم : بكر عبد الحافظ الخليفات
18-08-2015 12:53 PM
قال الله تعالى :' إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿١٩٠﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿١٩١﴾ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴿١٩٢﴾ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿١٩٣﴾ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿١٩٤﴾ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ'. (آل عمران:الآيات:190_195).

تكشف الآيات الكريمة عن ذاك الدعاء الخاشع المنيب دعاء أولي الألباب الذين تفكروا في آيات كتاب الكون المفتوح فعرفوا ما تنطق به آياته, وما تشير إليه مدلولاته وغاياته فعرفوا قدرة الله فيها فارتعشت قلوبهم واهتزت مشاعرهم المرة تلو المرة كلما أتت رؤاهم على آية من آياته البديعة التي خشعت لها قلوبهم فخشع معها دعاءهم وعظمت مناجاتهم وأبتهالاتهم بالوقاية من النار وخزيها, والرجاء بمصاحبة عباده الأبرار بعد الوفاة, وطلب تحقيق وعده الذي وعدهم إياه على ألسنة رسله الكرام .. ليفوزوا بحسن ثوابه, فيدخلوا جناته .. جنات النعيم .. ' ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ'.
وآيات الخالق في هذا الكون عميقة وثقيلة في ميزان الحقيقة, ترى منها ما ترى كل يوم وفي كل ساعة وفي كل لحظة في خلق السموات والأرض, وفي اختلاف الليل والنهار. لكن التكرار والإلف أخذ من أبصار الناس الكثير .. فقل منهم من يرى ويدرك ويتدبر بديع هذه الآيات, فكم من النظرات نظرت إلى السماء نظرة عابرة فلم يطول بها أمد النظر فارتدت خاسئة خاسرة ما خلف التدبر من هدى وخير ونعيم, وهذا ما لم يأتِ على مدارك وبصائر أولي الألباب الذين استنقذوا حسهم من همود الإلف وجمود التكرار ..
رَوى أبنْ حَبانْ في صَحيحه عَنْ عَطَاءٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَزُورَنَا فقَالَ أَقُولُ يَا أُمَّهْ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا قَالَ فَقَالَتْ دَعُونَا مِنْ رَطَانَتِكُمْ هَذِهِ قَالَ ابْنُ عُمَيْرٍ أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي قُلْتُ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ قَالَتْ فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَتْ فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ قَالَتْ ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ قَالَتْ ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الأَرْضَ فَجَاءَ بِلالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاةِ فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الآيَةَ كُلَّهَا. (صحيح ابن حبان:ح620/ج2/ص386).

والآيات المنظورة الموحية بالإيمان مفتوحة في صفحات كتاب الكون تراها تتقلب وتتجدد كلما تقلبت صفحات الكتاب .. عند بزوغ كل فجر وعند الغسق مع حلول الظلام ومع وميض النور, لا يرى مدلولها إلا صاحب الحس السليم ولا يدرك غايتها إلا من كان ادراكه سليم, وهذا ما احسته وأدركته احاسيس ومدارك أولي الألباب فأقبلوا عليها بالتأمل والتدبر والتفكر.. تفكر يوصل إلى الذكر النافع والعبادة الخاشعة التي تستجيش القلب وتحرر النفس من قيود الشهوات الباطلة لينطلق من بعدها اللسان فينطق بالدعاء الخاشع المنيب الذي لا يتغير بتغير الأحوال ولا يفتر ولا يغيب بتبدل الهيئات .. فذكرهم لله وهم قيام حاصل ولا يختلف عن ذكرهم له وهم قعود أو على جنوبهم متكئين ومضطجعين .. فالآية تبقى هي الآية, وحال التدبر والذكر هو نفس الحال.. وأولو الألباب هم أولو الألباب ..
والذي يبتكر ويكتشف دون أن يتفكر ويتدبر الآيات لا يكون من أولي الألباب وإن ظن كثير من الناس أنه منهم, وما هو منهم في شيء, فحقيقة معرفته لا تغادر المنفعة الدنيوية المتحققه له من خلال الكسب والشهرة, وما له في الآخرة من خلاق. إنما صاحب اللب هو من يصل بعلمه ومعرفته إلى حقيقة تناسق هذه الآيات وإلى اليد التي من خلفها ترعى وتعتني وتنسق .. فيطلب خير ما في الدنيا ولا يغفل عن خير الآخرة .. والآخرة خير وأبقى لمن ادرك وعلم ووعى ..

جاء في تفسير البيضاوي ما مختصره :
'إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب' : لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم ..
'الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم' : أي يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين. وعنه e : من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله.
وقيل : معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم لقوله e لعمران بن حصين : صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء.
'ويتفكرون في خلق السماوات والأرض' : استدلالاً واعتباراً, وهو أفضل العبادات كما قال e : لا عبادة كالتفكر. لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق, وعنه e : بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال أشهد أن لك رباً وخالقاً اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له. وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله.
'ربنا ما خلقت هذا باطلا' : على إرادة القول, أي : يتفكرون قائلين ذلك, وهذا إشارة إلى المتفكر فيه أي : الخلق, على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض, أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق. والمعنى ما خلقته عبثاً ضائعاً من غير حكمه, بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان, وسبباً لمعاشه, ودليلاً يدله على معرفتك, ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك.
'سبحانك' : تنزيها لك من العبث وخلق الباطل..
'فقنا عذاب النار' : للإخلال بالنظر فيه والقيام بما يقتضيه. وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم على الاستعاذة.
'ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته' : غاية الإخزاء .. والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه, وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع.
'وما للظالمين من أنصار' : أراد بهم المدخلين, ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها. ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر.
'ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان' : أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه, وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه, والمراد به الرسول e. وقيل : القرآن. والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى, واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص.
'أن آمنوا بربكم فآمنا' : أي بأن آمنوا فامتثلنا.
'ربنا فاغفر لنا ذنوبنا' : كبائرنا, فإنها ذات تبعة.
'وكفر عنا سيئاتنا' : صغائرنا, فإنها مستقبحة..
'وتوفنا مع الأبرار' : مخصوصين بصحبتهم, معدودين في زمرتهم. وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله. ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب.
'ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك' : أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب.
لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفاً من إخلاف الوعد, بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة أو قصور في الامتثال أو تعبداً واستكانة ..
وقيل : معناه على ألسنة رسلك.
'ولا تخزنا يوم القيامة' : بأن تعصمنا عما يقتضيه.
'إنك لا تخلف الميعاد' : بإثابة المؤمن وإجابة الداعي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الميعاد : البعث بعد الموت. وتكرير 'ربنا' للمبالغة في الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها. وفي الآثار : من حزبه أمر فقال خمس مرات : 'ربنا'. أنجاه الله مما يخاف.
'فاستجاب لهم ربهم' : إلى طلبتهم. وهو أخص من أجاب ..
'أني لا أضيع عمل عامل منكم' : أي بأني لا أضيع, وقرئ بالكسر على إرادة القول.
'من ذكر أو أنثى' : بيان عامل.
'بعضكم من بعض' : لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر, أو لأنهما من أصل واحد, أو لفرط الاتصال والاتحاد أو للاجتماع والاتفاق في الدين. وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال.
روي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله : إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء. فنزلت 'فالذين هاجروا'.. وهي تفصيل لأعمال العمال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم, والمعنى فالذين هاجروا الشرك, أو الأوطان والعشائر للدين 'وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي' بسبب إيمانهم بالله ومن أجله 'وقاتلوا' : الكفار. 'وقتلوا' : في الجهاد.. 'لأكفرن عنهم سيئاتهم' : لأمحونها.
'ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله' : أي أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضلاً منه, فهو مصدر مؤكد.
'والله عنده حسن الثواب' : على الطاعات قادر عليه. (تفسير البيضاوي:ج2/ص129_134).
(عن كتابنا : الأدعية في القرآن الكريم/ ص147_152 / دار الكتب العلمية_ بيروت)

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012