أضف إلى المفضلة
الأربعاء , 22 كانون الثاني/يناير 2025
الأربعاء , 22 كانون الثاني/يناير 2025


العدوان يكتب: في رثاء الفارس الذي فقدناه 

بقلم : موسى العدوان
19-12-2015 12:39 PM
بعد حياة حافلة بالعمل والعطاء ، رحل الفريق الركن المتقاعد الدكتور فوزي عبيدات عن هذه الدنيا ، تاركا خلفه إرثا غنيا من الحس بالمسئولية ونظافة المسيرة والسمعة العطرة . لقد كان بالنسبة لي زميلا وصديقا عزيزا ، بدأنا مشوارنا المهني في عهد الشباب المبكر في نهاية خمسينات القرن الماضي ، كتلاميذ عسكريين في الكلية الحربية آنذاك بجوار مدينة الزرقاء. 
وبعد أن جرى تخريجنا مع زملائنا إلى الوحدات العسكرية ، هو إلى سلاح المدفعية ، وأنا إلى سلاح الدروع ثم إلى القوات الخاصة ، توازينا بالوظائف القيادية والإدارية والتدريبية وهيئات الأركان طيلة الخدمة ، ومررنا مع البعض من زملائنا بظروف معيشية وعسكرية قاسية ، كانت تضعنا في كثير من الأحيان بين الحياة والموت . 
كان فوزي رحمه الله شديد الإخلاص للعمل ، ومثالا في الخلق وحسن المعشر ، لم يعرف العنصرية أو الإقليمية ، ولم يتحيز إلا لمقياس الكفاءة وحسن الإدارة لمن يعمل بمعيته . كما أنه لم يتقن أو يمارس أي مهنة أخرى غير حرفته العسكرية ، وكأن الله تعالى قد جبل لحمه ودمه بتلك المهنة منذ ولادته . 
لقد كان لتأهيله العسكري في دوراته الداخلية والخارجية ، كطالب علم عسكري من المبرّزين ، ومحط إعجاب من مدرسيه وزملائه العرب والأجانب . وفي مجال العمل فقد أشغل خلال خدمته في القوات المسلحة ، العديد من المناصب الهامة وترك بصماته الواضحة في تطويرها وتقدمها . 
من بين تلك المناصب كان منصب آمر كلية الحرب الملكية والذي كان هو مؤسسها ، وواضع مساقاتها وبرامجها التعليمية ، وترجم الكثير من كراساتها ونشراتها المتعلقة بالإستراتيجية العسكرية التي ما زالت تُدرّس حتى الآن . وختم خدمته بوظيفة مساعد لرئيس الأركان للعمليات والحرب الإلكترونية . 
كان الفريق فوزي يكرّس كل جهده لتقديم الآراء والتواصي السديدة لقيادته العليا ، في النواحي التدريبية والإستراتيجية والتنظيمية ، والتي من شأنها رفع كفاءة القوات المسلحة بشكل عام . لم يعرف يوما التخاذل أو الكسل ، ولم يعرف لعب الورق ( الشَدّة ) وكان خلال المناورات والتمارين الميدانية ، يسعى لمسايرة وتطوير تلك التمارين لكي تحقق الدروس المقررة ، دون الخلود إلى السكون والراحة . 
وعلى صعيد الأدبيات العسكرية ، فقد ترجم كراسة ' المشاة في المعركة ' من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية ، وألف كتاب ' النظام العسكري في عهد محمد علي ' ، وكذلك كتاب ' أهمية غور الأردن في صدر الإسلام '. وعندما عَرَضَ عينة من تلك الكتب لبيعها إلى 
القيادة العامة لفائدة الضباط بمختلف رتبهم ، ولطباعة المزيد من ناتج ريعها ، قرر رئيس هيئة الأركان المشتركة في حينه ، شراء 40 نسخة منها فقط ، فقدمها الكاتب هدية للقيادة العامة بدون ثمن ، واكتفى بالنسخ المطبوعة على نفقته . 
أحيل الفريق الدكتور فوزي على التقاعد في عام 1993 ، فعمل لفترة قصيرة مدرّسا في المعهد الدبلوماسي في وزارة الخارجية . إلا أن طبيعة ذلك العمل لم تتفق ومهنيته العسكرية. ففضل الابتعاد عن العمل الذي لم يناسبه ، وأمضى ما يقارب 22 عاما منزويا في منزله ، دون أي عمل أكاديمي أو وظيفي . وخلال تلك الفترة لم يخطر ببال المسئولين في القيادة العامة ، الاستفادة من علمه كموجه وخبير استراتيجي بصفته المدنية ، في كلية الحرب التي هو من عمل على تأسيسها . 
والأمر المؤسف . . أنه عندما أصيب الفريق فوزي بمرض عضال في السنوات الأخيرة ، لم توليه القيادة العامة الاهتمام اللازم ، ولم ترسله لتلقي العلاج في مصحات أجنبية كما جرى لغيره ، ممن لم يقدموا ما يعادل جزءا مما قدمه الفقيد للقوات المسلحة ، حتى وإن كان ذلك لا يرد القَدَر . أما مؤسسة المتقاعدين العسكريين ذات الاسم الطويل ، الذي لا يتسع المكان هنا لكتابته ، والتي من إحدى مهامها رعاية المتقاعدين العسكريين ، فلم تكلف نفسها بإرسال مندوب على الأقل ، للاطمئنان على صحة ضابط برتبة كبيرة من قدماء المحاربين . 
هكذا يكرم الرجال المخلصين في بلدنا ، الرجال ذوي الأيدي النظيفة ، والفكر الخلاّق ، الذين لم يتاجروا بمبادئهم ، ولم يسعوا لاستجداء المناصب أو المكاسب المادية ، بل حافظوا على عزة أنفسهم ، وفضلوا الحفاظ على كراماتهم ترفعا عن مكاسب الدنيا . ولا شك بأن الفريق فوزي هو أحد رجالات الأردن الأوفياء ، عاش بشرف ورحل عن الدنيا بشرف ، حاملا معه علمه وخبرته إلى باطن الأرض . 
أيها الصديق . . إن كنتَ لم تنل حقك المكافئ في هذه الدنيا ، وحُرم أبناء الوطن من علمك النافع ، بفضل مسئولين لم يعرفوا قدرك وقيمتك فلا تحزن ، وقد يوفيه لك رب العزّة يوم البعث العظيم ، مصداقا لقوله تعالى : ' وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ '. (آل عمران 185 (. 
فوداعا يا أبا زيد . . وداعا يا رفيق الدرب . . تحفّك دعوات أهلك وأصدقاؤك ومحبيك بالرحمة والمغفرة . . راجين الله تعالى أن يُسكنك جنات الخلد ، ثوابا لما قدمتَ لجيشك ووطنك . فنم قرير العين مرتاح الضمير ، أيها الفارس الأردني الأمين . 

التعليقات
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012