أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


عندما تصبح الكتابة وطناً.. ورواية " صخرة نيرموندا" للروائي والتشكيلي بكر السباتين..

بقلم : نوال الفاعوري
27-02-2016 11:15 AM
عندما تصبح الكتابة وطناً.. ورواية ' صخرة نيرموندا' للروائي والتشكيلي بكر السباتين..
ثمة أوطان تُختزل في روائي. يحمله على كاهله، في روحه وفكره، وحين يريد التخفيف من أعبائه قليلاً يضعه على الورق.
هكذا يفعل بكر السباتين بوطنه الكبير فلسطين والذي يسكنه . وما زال يكتبه في روايات سردية طويلة متعددة الأساليب والعناوين، لبناء مشروعه الروائي الذي يتصدى لظاهرة تهميش القضية الفلسطينية ودثر معالم المدن السليبة وذلك بدءاً من روايته الأولى 'ثلوج منصف الليل' والثانية 'واختفت مهيرة - الرحيل إلى الذاكرة الأخرى' وصولاً إلى تحفته الأدبية 'صخره_نيرموندا' التي صدرت مؤخراً عن دار (الآن) بدعم من وزارة الثقافة الأردنية.
ثمة من يختزل وطنه في عنوان مثلما فعل (رسول حمزاتوف) في (بلدي داغستان).. ومن يختزله في حارة كما فعل نجيب محفوظ في الكثير من رواياته العظيمة. أما بكر_السباتين فهو روائي بحجم وطن، ووطن بحجم روائي يعتمر به ويصلي لخلاصة متبنياً همومه بجدية وإخلاص.
بكر السباتين كاتب لا بد أن يدهشك بجمال لغته السردية المعززة بالصور الشعرية الأخاذة، بعذوبة كلماته وبديع عباراته، وعميق معانيه؛ فتغريك كثيرٌ من جمله على البقاء أطول، فأطول، إذْ لا ملل في حضرة الدهشة التي تقدحها العبارات المفعمة بالحياة، وكهوف المعاني التي تنتظر من يكتشف كنوزها. فتستعيدك الرواية لتتجول فيها كلما انتهيت من قراءتها.. تعيد قراءة بعض فقراتها الآسرة، تتذوق جملها، تتحسس وقعها في قلبك، تسمع تردادها في عقلك، فتعتريك رعشة الانبهار. سبحان من علمه وأنطقه!.
أن تصبح الكتابة وطناً يعيش فيها الكاتب أكثر مما يعتاش منها أو عليها، هي الكتابة، بألف ولام التعريف. أما الكاتب الوطن، فهو من يكتب عن وطن ويبنيه، يبحث عنه ويصنعه من ذاكرة لا تبور؛ فيلوذ إليها كلما يشعر بالحرمان.
رواية 'صخره_نيرموندا' تحمل في طياتها رؤية إنسانية بلغه سردية مليئة بالصور الشعرية الزاخرة بالأساطير والرموز الكنعانية واليهودية، من خلال بطلها سعد الخبايا الذي يبحث عن الحب المستحيل ليذوب في الموت عشقاً بحب يافا الفاتنة.. وأميرتها الأسطورية 'نيرموندا' التي أسرها الغزاة بربطها على صخرة حملت اسمها.. لتمنحه طاقة الانبعاث لكي يتمسك بحبه الواقعي لبلقيس التي خرجت له من خبايا الأرض.
أن تكون أحد عناصر العوالم التي تصنعها الرواية هي الرواية بألفِ ولام التعريف. أن لا تحسّ بنفسك غريباً بين سكانها، أن تشعر أنك واحدًٌ منهم فتحزن لحزنهم، وتفرح لفرحهم، وتضحك لضحكهم، وتتألم لآلامهم. وحين تودعهم في نهاية رحلة القراءة يهمسون في أذنك: 'سنظل على تواصل.. لن نذهب بعيداً.. فنحن نعشش في ذاكرتك'. هناك حيث ينضمون إلى آخرين، إلى جنة الكتب.
إن كنت من محبي قراءة الروايات فأنت لم تقرأ شيئا إن لم تقرأ روايه بكر السباتين 'صخره_نيرموندا '.. فمثل هذه الروايه يجب أن تقرأ بكل اللغات، ومن كل شخص قادر على القراءة. من يكتب عن بلده بكل هذه الحرقة والعاطفة! فمثل هذا البلد لن يموت، ستخلده الكلمات.
بعد قراءتك لرواية 'صخرة نيرموندا' سيتغير فيك شيء ما.. لن تعود حياتك إلى سابق عهدها. هذا الأثر الإيجابي هو أهم ما يميز النص في نظريات التلقي الحديثة. وإذا قيل لي ما هي الرواية الوحيدة التي ترغبين في أن تصطحبيها معك في رحلة إلى المريخ لقلت رواية 'صخره_نيرموندا' .
اقرءوها وكأنها آخر رواية يكتبها إنسان على وجه أرض ستؤول إلى لا شيء مع آخر كلمة فيها. وأعيدوا قراءتها بنفس الإيقاع، فلربما تصغي لقراءتكم الأرض فتتوقف عن العبث والترنح لتستمر في الدوران.
بطل الرواية سعد الخبايا.. عذبته رحلة البحث عن سر الطفلة المجهولة عبير التي يتهددها والدها بالذبح.. لتغرقه في هموم يافا حتى عانق الموت لأجل هذه المدينة التي دفن ملامحها الاحتلال.. وكانت 'نيرموندا' أميرة يافا التي تحررت من الأسر فلم تغلق على قلب سعد الخبايا الأبواب لهذا لم يختنق كمدا؛ بل استدرجت لأجله بلقيس التي خرجت عليه من خبايا الأرض.. لتنتهي الرواية عند عتبات النكبة؛ فيرتحل بهم البحر إلى المنافي أو يعانقون الموت.
ربما أتهم سعد الخبايا بقتل رئيس البحارة خطّاف، زوج معشوقته بلقيس!..أو بزهق روح العرّافة الغجرية التي تنبأت بكل المصائب المحيطة بسعد وخصمه داود اليهودي حتى خطاف نفسه..أو بإحداث حريق في مزرعة طيور *'الوقواق' لتنتشر في سكنات وأرياف يافا، ربما حدث معه كل ذلك؛ لكن الموت الزؤام، كانت أشداقه مفتوحة على النهاية.. وتفرقت يافا في قلوبهم.. واعتمرت بها ذاكرة لا تبور..
وظلت قلادة البحر المتوسط، يافا، كصخرة 'نيرموندا' تنتظر أميرتها كي ينبش عن حكايتها الأجيال التي تأبى الغياب.
لن أبالغ وقد قرأت الرواية بشغف.. يأخذني التشويق إلى الخاتمة لأسترد بدايتها في رحلة جديدة عبرها؛ لأحتسي قهوتهم.. وأمضي في طريقي حتى النهاية..
اقراؤها وكأنها آخر رواية يكتبها إنسان على وجه أرض ستؤول إلى لا شيء مع آخر كلمة فيها. وأعيدوا قراءتها بنفس الإيقاع, فلربما تصغي لقراءتكم الأرض فتتوقف عن العبث واللف وتستمر في الدوران..
يافا ذاكرة لا تبور ما دام هناك من يحتضن ملامحها ويحتسي قهوتها وينان ليحلم بها.
___________________
*طائر الوقواق يمتاز بمكره.. يغاقل الطيور الأخرى فيحطم بيوضها ليضع محلها بيضته.. فتفقس؛ ليرعاها الطائر المخدوع. فما أن تكبر صيصان الوقواق حتى تقوم بطرد صاحب العش الذي رباها.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012