غياب الدولة وهيمنة السفيرة الأميركية
18-04-2016 01:21 PM
كل الاردن -
كما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، كذلك السياسة لا تقبل الفراغ أيضا، وفي الأردن فراغ واضح لكل ذي بصر وبصيرة، يلازمه قمع واعتقال وتهميش ورفض للحوار ووأد للديموقراطية والحرية بحجة توفير الامن والأمان، ولم يبقى منها الا العناوين للاستهلاك الإعلامي والخارجي فقط التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
فراغ كبير يعززه الغياب الدائم للمسؤولين بالسفر بحجة مؤتمر هنا او لقاء هناك ومباحثات هنا او وساطة هناك، واتخذوا من الأردن محطة للتزود بالوقود والنقود ليس الا، وكأن بلادنا ليس لها سفراء، ونرى كل مؤتمر وحركة تحتاج الى هذه الطوابير من السفر والانفاق والمياومات والمصروفات والنقاهة والتنزه والاستجمام والتمتع بملذات الحياة واتعاب السفر خارج القانون، على حساب الاردنيين ودافع الضرائب الغربي والعربي الذي تقدمه دولهم مساعدات مادية الى الدولة بالأردن والتي لا يستفيد الشعب منها شيئا؟ ما يجعلنا نسأل: ترى لماذا يتم تعيين سفراء في الخارج وهم يكلفون خزينة الشعب ما لا طاقة لنا به .
إزاء هذا الفراغ ، تحركت السفيرة الأميركية السيدة اليس ويلز، لتملأ الفراغ ،وتتواصل مع الناس الاطلاع على حاجاتهم والدوائر والمشاريع والمحافظات وهي لا تتحرج من كثرة او قلة اعداد من تلتقيهم او يستقبلونها ولا تحيط نفسها بحرس مدجج .
بعكس ما هو عليه حال المسؤولين بالأردن الذين يشترطون عند اللقاءات دعوة اشخاص بعينهم يتم انتقاؤهم على الفرازة شريطة الا يكون منهم معارضا او متنورا او صاحب فكر او راي حصيف، وانما يجب ان يكون من فئة التنابلة الموافقون على كل شيء (لا اريكم الا ما أرى وما اهديكم الا سبيل الرشاد).
ورغم تحفظنا على نشاطات السفيرة الأميركية السيدة أليس جي ويلز ، الا انها استطاعت ان تبرهن وتثبت وجودها وان تنضم الى قائمة سفراء مهمين في تاريخ الأردن ساهموا في تغيير تاريخه كثيرا لأنهم كانوا يفعلون مثلما تفعل السفيرة بالانفتاح والتواصل التلقائي مع الأردنيين في ظل غياب المسؤولين (بالأردن) عن الساحة.
كما انها تظهر بملابس محدودة ، وهذا ما يجعل الكثير يحترمها لأنها جاءت لتعمل ، فهي ليست ممن لا تظهر باللباس الا مرة واحدة مهما غلا ثمنه، لأنه من مالها وليس من دماء الشعب وضرائب الدول المانحة.
كما ان تظاهرها بالتواضع والبساطة يتفق مع طبيعة الأردنيين في انهم شعب طيب وبسيط لكنه عميق وذكي وراقي، فهي لا تأتي بالكلاب البوليسية لإرهاب الأطفال واتهامهم سلفا انهم أعداء ومخربون وارهابيون، بل نراها تقف مع الجميع وتتحدث إليهم وقفة الواثقة وحديث الواثقة وكنت أتمنى ان يكون في بلدي شخصية بتواضعها ومصداقيتها.
اعود للقول ان هذه السفيرة انضمت الى كوكبة من السفراء السابقين بالأردن، الذين نحتوا لأنفسهم مكانة في ذاكرة التاريخ الأردني، ولتذكير الأجيال الحاضرة نذكرهم على النحو التالي
1 = العقيد فريدريك بيك (بيك باشا) قائد الجيش الأردني والشرطة والدرك فيما بين 1411923- 351939 -، وهو مؤلف كتاب تاريخ شرق الأردن وقبائلها Jordan History and Tribes نقله إلى العربية بهاء الدين طوقان (القدس، 1935 م)
2= الفريق كلوب باشا استلم قوة البادية الاردنية عام 1930 ثم قائدا للجيش الأردني فيما بين 2561939 - 131956 خلفا للبيك باشا وهو صاحب كتب عديدة ومنها: قصة الجيش العربي The Story of the Arab Legion (ترجمناه للعربية) وكتاب جندي بين العرب Soldier Among Arabs وكتاب الفتح العربي الكبير Great Arab Conquest، وقراتها جميعا، وانا كمؤرخ أقول ان كلوب باشا كان أفضل من تسلم قيادة الجيش الأردني يليه ثم حابس باشا المجالي ثم المشير الركن فتحي باشا أبو طالب (19/12/1988 – 4/5/1993 م).
3= دولة المعتمد البريطاني اليك كركبرايد الذي مكث موظفا ثم معتمدا للحكومة البريطانية بالأردن منذ عام 1917 -1952 وذكر في كتابه (خشخشة الاشواك A Crackle of Thorns) الذي ترجمته شخصيا إلى العربية إن الاتفاق قد تم لتأسيس امارة في شرق الأردن، لتكون الاردن مستودعا للهجرات الفلسطينية القادمة من فلسطين ليحل اليهود مكانهم في فلسطين (أي أن تكون الاردن وطنا بديلا للفلسطينيين وتكون فلسطين وطنا بديلا لليهود).
كان كركبرايد يدون يومياته وأسماء الشخصيات العميلة له (واطلعت على نسخة من بعضها في وثائق جامعة كامبريدج البريطانية)، أقول الشخصيات العميلة التي يمكن لبريطانيا الاعتماد عليها والوثوق بها في الأجيال القادمة، وارتقى أولئك العملاء وابناؤهم واحفادهم اعلى المناصب والمراتب في تكريس للوراثة في المواقع السيادية والسياسية والاجتماعية وغيرها التي لا زلنا نعاني منها.
وهم يعرفون تاريخيا باسم (قائمة كركبرايد) أي العملاء الذين كرسهم كركبرايد في العمالة لبريطانيا الى ان دخلت أمريكا على الخط بشكل كبير وصار مهيمنا في مطلع القرن الحادي والعشرين وجاءت السفيرة الأميركية الحالية لإتمام المشروع الأمريكي ووضع حد لقائمة كركبرايد والقوائم البريطانية لتحل محلها الولايات المتحدة وقائمة اليس ويلز.
4= سعادة السفير السعودي السابق الشيخ احمد الكحيمي الذي كان يتواصل مع الأردنيين بجميع فئاتهم وكان بابه مفتوحا لهم جميعا ويلبي حاجاتهم وكان صلة الوصل بينهم وبين دولته في الرياض، فأحبه الأردنيون ولا زالوا يذكرونه بكل خير واحترام، وقد استطاع ان يستميل الأردنيين نحو السعودية وبذلك حافظ على امن الجبهة الشمالية لبلاده من خلال الباب المفتوح والعلاقات الطيبة مع الأردنيين وبأفضل النتائج واقل التكاليف.
5 = السفيرة الامريكية الحالية السيدة أليس جي ويلز التي تم تعيينها بالأردن في 28 تموز، 2014
استطاعت هذه السيدة ان تنضم الى السفراء المذكورين أعلاه وهي السيدة الوحيدة بين هؤلاء الرجال، وان تحقق ما عجز عنه سفراء بلادها بالأردن من قبل عبر عشرات السنين، وان تكرس الهيمنة الأميركية على حساب الهيمنة البريطانية والأوروبية والعربية في البلاد، اذ لا يجرؤ ولا يستطيع أي سفير عربي او أجنبي ان يمارس نشاطاتها.
ونراها هيمنت على كل مفاصل الدولة والمشاريع والمساعدات والاتصالات الأميركية في دليل واضح على عدم ثقتها باهلية الدولة وامانتها في استخدام المساعدات في مساقها الصحيح، ولكي تضمن وصولها الى مبتغاها، وتتصرف بما يفوق ما كان يتصرفه اليك كركبرايد والبيك باشا وكلوب باشا واحمد الكحيمي،كما انها عالجت اخفاق السفراء الامريكان السابقين ولم تتحرج من دعم المثليين والشواذ ولا من تشكيل المجلس البديل لمجموعة من حملة الجنسية الأميركية المجهولين، وهي ان قالت فعلت وان تحركت اختفت الدولة بالأردن وكأننا في بلاد لا دولة فيها؟؟؟؟؟
فالمسؤولون بالأردن يعرفون ان ليس لهم شرعية وان رضى السفيرة الأميركية عليهم هي الشرعية الوحيدة التي يحتاجونها ويستجدونها، لذا فهم يهربون لواذا كما تهرب العصافير من الصقر الحر الجارح. هذه حقيقة لا أستطيع كمؤرخ الا قولها لأنني احترم نفسي ولا احترم هؤلاء المسؤولين.
من هنا، فهم الناس اللعبة والمعادلة في ان السيدة ويلز هي الحاكم الحقيقي والمندوب السامي الأميركي وصاحبة الوصاية والانتداب، وليس اليك كركبرايد ولا كلوب باشا ولا بيك باشا ولا البريطانيين ولا غيرهم، وان سائر المسؤولين لا بد ويأخذوا بركاتها وموافقتها والشرعية منها على كل شيء، لذا وجد الناس ان الأفضل هو التعامل مع صاحبة القرار في البلاد مباشرة وهي السفيرة الأميركية فأصبح استقبالها في المؤسسات والبيوت بمستوى استقبال الرؤساء وأكثر درجة؟؟؟ .
لذا فان ما يدور بين المسؤولين والطامعين بالمسؤولية ومنها النيابية او العينية او من يرغب تعيينه سفيرا او مديرا عاما او وزيرا، او صاحب دولة، فانهم يتسابقون لعمل علاقة او اتصال معها او تبعية لها، لأنهم واثقون انها هي صاحبة القرار، وان إشارة منها كافية ان ترفع او تضع من قيمة الشخص؟ كل ذلك لان الطبيعة والسياسة لا تقبلان الفراغ، فانحسرت الدولة وانسحبت وتقدمت السفيرة وهيمنت بجدارة على السفراء جميعا ليس بالنقاط وانما بالضربة القاضية، وتفوقت على من كان ياكل المناسف او يشترك في دبكة (تي رشرش).
الكاتب : د. أحمد عويدي العبادي