أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


الهروب من «المطبخ» إلى «الدليفري»!

بقلم : د. رشيد عباس
01-05-2016 08:00 AM
كان لجدتي رحمها الله مطبخ متواضع جدا بمحتوياته, وكانت تجلس أمامه بعض الأحيان متكأه على مسند كبير مصنوع من القش خوفا من تسلل احد أفراد الأسرة إليه والعبث بالمطبخ, وكانت تستنفر جدتي إذا قال احدنا (هات من المطبخ..), لكن بكل صراحة كانت الأمور على الأصول, وكانت الوجبة تخرج منه ومن خلالها مكتملة وعلى الموعد, والشيء الغريب أن جدتي كان لها طرق وأساليب عديدة ومتنوعة في الفرم والتقطيع والسلق والطهي, وكان لها أيضا طرق عديدة ومتنوعة في التمليح والتبهير, نعم كان لها إبداع في ترتيب المائدة وبالذات ترتيب الخبز والمعالق والشوك والسكاكين, وكان لها إبداع في ترتيب الصحون, وأكثر من ذلك تسمية أماكن الجلوس,..باختصار جدتي لم تدرس في كلية السياحة والفنادق, إلا أنها كانت مدرسة بحد ذاتها في إعداد وترتيب الموائد.

الشيء الغريب أن وصية جدتي خلت تماما من ذكر أو حتى الإشارة لمطبخها الذي كان مقدس عندها, والأغرب من ذلك أن (مطبخ جدتي) من سنوات طويلة مغلق بالشمع الأحمر, لان جيل اليوم لا يعجبه العجب, إلا انه ما زال يحتفظ لغاية الآن ببعض المخلفات, كبعض حبات الفلفل الأسمر, وكبريت بثلاثة نجوم, ومحرمة قماش مرسوم عليها وردة وحولها مجموعة من الفراشات المهاجرة, وبابور كاز وقنديل, ومجموعة معالق متفرقة ومتباعدة غزاها الصدأ, نعم في (مطبخ جدتي) مُنخل, وجاروشة, وطناجر ألمنيوم.

في (مطبخ جدتي) كانت أشياء محفوظة ومخزّنة بطريقة محكمة, وكنت أحاول مرارا وتكرارا معرفة هذه الأشياء المخزّنة, وفي احد المرات نجحت في الوصول لبعض هذه الأشياء حيث كانت جدتي تزور إحدى الجارات, فقد وجدتُ في بعض الأكياس عدس حب وآخر مجروش, وجدتُ أيضا قلائد باميا مجففة, وأساور شرائح بندورة مجففة, وجدتُ أكاليل من التين المجفف(قطين), وجدت مربى البندورة ومربى العنب, وجدت رائحة زيت الزيتون البلدي, ورائحة سمنة الغزالين, وجدت رائحة جدتي ممزوجا برائحة خبز الشراك, نعم وجدت كل شيء في مطبخ جدتي.

اذكر انه في نهاية احد المناسبات صرخت جدتي قائلة: (رجعوا كل أشي في مكانه في المطبخ), يبدو أن جدتي تعي أن كل شيء في مكانه الصحيح جميل, وتعي أن المطبخ وموجوداته تعكس بالضبط واقع الأسرة والعلاقات بين أفراد الأسرة, وأكثر من ذلك أن موجودات المطبخ وترتيباتها في البيت والمنزل تعكس واقع ست البيت, لقد عاشت أمثال جدتي ونساء الأمس روعة ومتعة وطقوس إعداد الطعام في المطبخ, وكان للمطبخ رمزية معينة ودلاله على طقوس تحضير الطعام به, فكان بحق للطعام وقتها طعم ومذاق وإتقان ونظافة لا يمكن أن يعوضها ما يسمى اليوم بـــــ(الدليفري).

هذه الأيام تبدلت الأمور وأخذت (مطابخنا) تخلوا من بعض المظاهر لإعداد بعض الطعام, هذه الأيام انشغلت ست البيت (بالواتس اب) وأخذنا للأسف الشديد نتعامل مع (الدليفري), وما أدراكم ما الدليفري, الدليفري خدمة التوصيل السريع لوجبات الطعام من المطاعم إلى البيوت والمنازل, حتى أن بعض النساء هجرت المطبخ وبدأت تطلب كافة الأكلات السريعة عن طريق المطاعم بكل يسر وسهولة، حيث تبين ارتفاع نسب طلبات (الهوم دليفري) في بعض المجتمعات, نعم اجتاح (الدليفري) المجتمع بشكل كبير، وساعد على ذلك أن الخدمة أصبحت تنقل الوجبات إلى المنازل والى أماكن العمل والمدارس والكليات وحتى إلى الاستراحات، بطريقة سريعة جدا, لدرجة أن المطاعم أخذت تتنافس فيما بينها على الوصول الزبائن.

نساء اليوم (سامحهم الله) بدأنا بسياسة خطيرة جدا ومعلنة, وهي الهروب من المطبخ, وكأن المطبخ سجن وعقوبة للمرأة, وان المطبخ يحد من بعض نشاطات المرأة,..(رحم الله جدتي), لم يكن في مطبخها سوفت للجلي, ولم يكن عندها ولاعة الكترونية, ولم يكن عندها ميكروويف, لم يكن في مطبخها خزائن وستائر وثلاجات على الريمود, ولم يكن لمطبخها بلكونة مطلة على حديقة المنزل, لم يكن في مطبخها شاشة عرض للمسلسلات التركية, مع إنها كانت تردد باستمرار أغنية دخلك يا زيزفونه لتوفيق النمري, و(الزيزفون) عبارة عن شجرة كبيرة, يغطي سيقانها لحاء ذو لون رمادي أملس وأوراق قلبية الشكل وعناقيد من الأزهار الصفراء الباهتة، تسقط أوراقها في فصل الخريف، يؤلف القسم العلوي من الساق مع الأعضاء مركب يشبه التاج، وتميل الأغصان إلى أسفل,..والملفت للنظر أن العلم الحديث اثبت أن أزهار الزيزفون لها تأثير على فتح الشهية للطعام,..كان عند جدتي رؤية ورسالة وقناعة وسعادة لا تحملها الجبال, هذه القناعة والسعادة تعانقت مع غيمة من بخار غليان إبريق الشاي الياباني ورومانسية صوت بابور الكاز(البريموس)السويدي,..بقي أن نقول بنات اليوم بحاجة إلى دورة تدريبية في مطبخ جدتي, دورة حول إبرة البريموس(البابور), لتسليك وفتح الثقب الذي يخرج منه الكاز, من اجل اشتعال و(حرارة) أفضل.., والبقية عندكم.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012