23-05-2011 02:46 PM
كل الاردن -
ناهض حتر - أه ... اخيرا تمكنت البرجوازية شبه المستقلة عن النظام، تأسيس حزبها السياسي في الأردن. الطريف أن هذه البرجوازية لم تجد عناصر لتشكيل حزبها إلا من اوساط احزاب المعارضة التقليدية من الإسلاميين والقوميين واليساريين الذين تحولوا إلى الليبرالية من دون أن يقطعوا مع ماضيهم. لكن هذه الأحزاب المشرذمة كان لا بد لها من راع كبير مستقل عن النظام نسبيا ويأتي من قلب الجهاز الحقوقي للفئات البرجوازية، لكي تتجاوز التشرذم والمستبقات الأيديولوجية الميتة، وتلتحم للتعبير السياسي عن البرجوازية الأردنية شبه المستقلة نحو نوع من الاستقلال السياسي المكفول في سياق الرؤية الأميركية للشرق الأوسط الليبرالي.
البرجوازية ـ بما فيها الفئات العليا من الطبقة الوسطى ـ كان لها منذ وقت ليس قصيرا، مصلحة في إقامة دولة الحق والقانون لحماية المنافسة الاقتصادية من التدخل البيروقراطي والأمني، ولحماية البرجوازيين من هيمنة الإدارة والجهاز الأمني، وتمكين البرجوازية من المشاركة الفعلية في الحكم بواسطة التنافس الانتخابي والحكومة البرلمانية وربط السلطة بالمسؤولية.
خطوة في اتجاه التقدم السياسي للبلاد، لكنها خطوة تعبر عن مصالح العناصر البرجوازية الطامحة للإستقلال السياسي عن النظام. وبما أن هذه العناصر، في أغلبيتها، مرتبطة بشبكات إقليمية او ذات أصول مهاجرة، فقد غاب البعد الوطني المحلي عن أطروحتها. ولكن غياب البعد الاجتماعي الشعبي عن تلك الأطروحة، فلا يحتاج إلى تفسير؛ فنحن نتحدث عن البرجوازية عشية تشكّل الصراع الاجتماعي في البلاد.
(1)
هل تذكرون شيئا اسمه ' تنسيقية أحزاب المعارضة' ؟ أعذركم إذا كنتم نسيتموها مع أنها ماتت في العام الماضي فقط إثر الخلاف بين أعضائها حول الموقف من انتخابات 2010. ' الإخوان' و' الشعبية' قاطعاها، بينما شارك الآخرون. ثم انفجرت أحداث الربيع العربي والأردني، ولم تقم للتنسيقية قائمة، ولم تتحرك ـ كهيئة ـ في أي حراك شعبي أو سياسي منذ مطلع العام.
هذه ' التنسيقية' نفسها أحياها رئيس الوزراء الأسبق، أحمد عبيدات، فيما سُمي ' الجبهة الوطنية للإصلاح'. ويستحق عبيدات الشكر من أحزاب ' التنسيقية' على مبادرته هذه، ومن ثم على الوثيقة الإصلاحية التي أبرمها، بدقة، بإطروحة حقوقية ليبرالية ليست لدى أحزاب المعارضة، القدرة على صياغتها.
في تجربة تشبيك الجبهة، تبين أن عبيدات، أخضع جميع شركائه لرؤيته. وكان على هؤلاء الشركاء الاختيار بين التوقيع أو المغادرة. وبالنسبة لقوى لا تأخذ الطروحات المعلنة على محمل الجد، فإن توقيعها على وثيقة عبيدات، تظل سهلة. لكن سيكون هنالك العديد من الامتحانات في أقرب تدور حول التزام هذه الأحزاب بالعمل السياسي المشترك. عندها سيظهر ما إذا كان عبيدات قادرا على ضبط شركائه أم أنهم سيتصرفون، كالعادة، كل وفق مصالحه الجزئية الفعلية؟
لا تقوم الجبهات بالوثائق، وإنما بالإرادة السياسية المشتركة والعمل السياسي المشترك. وتاليا سيكون، أمام الجبهة، اختبارات عديدة قادمة مثل الموقف من نتائج لجنة الحوار الوطني ولجنة تعديل الدستور، والموقف من الحراك الشعبي العائد، والقدرة على تشكيل تحالف انتخابي الخ ؟
ووفقا لتجارب العقدين المنصرمين، أجد أن الجبهة ستتهاوى في اي من تلك الاختبارات. وسيجد عبيدات نفسه، يائسا مرة اخرى، وقد ذهب شركاؤه مذاهب شتى.
(2)
ألح عبيدات على استبعاد القوى الوطنية الشعبية الجديدة، الناشئة في السنتين الأخيرتين، من دائرة تشكيل الجبهة. وقد استبعدها من خلال رفض الحوار المنتج أو من خلال التجاهل. لكن حجم هذه القوى وقدراتها السياسية والشعبية لا يمكن تجاهله واقعيا إلا من موقع الرفض والخصومة. وفي رأيي أن عبيدات إختار أن يخاصم الحراك الوطني الأردني منذ بيانه التحشيدي الشهير ضد بيان 1 أيار 2010 الصادر عن اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين. وعلى الرغم من هذه الخصومة، بادرت اللجنة، بروح المسؤولية الوطنية، إلى الاتصال مع عبيدات الذي لم يكن مستعدا للحوار وإنما يتطلب الخضوع.
للحراك الأردني تطلعات ديموقراطية عميقة، وهي تشتمل، بالطبع، على المحددات الحقوقية الليبرالية، لكنها تلح على مركزية الديموقراطية الاجتماعية. وينطلق الحراك من مفهوم وطني شعبي يؤمن بأن التغيير الديموقراطي السياسي لا معنى له من دون ضرب الفئات الكمبرادورية وإعادة توزيع الثروة وتمكين المحافظات اقتصاديا وخلق ديناميات تنموية فيها تتعارض مع النموذج النيوليبرالي المسيطر. ويرى الحراك أن الفساد الكبير لا يقع على هامش هذا النموذج وإنما يقع في صلبه. ولا تكفي المقاربة الحقوقية السياسية لاستئصاله، وإنما يكون استئصاله باستئصال النموذج نفسه.
يسارية؟ لكنها ليست يسارية عقائدية يمكن وضعها في الأدراج كما يفعل اليساريون التقليديون المنتقلون الى الليبرالية في ' الشيوعي' و'الشعبية' و' الديموقراطية' الخ، وإنما هي مطلب وطني شعبي موضوعي، سبق أن وصفته ' باليسار الاجتماعي' تمييزا له عن اليسار الستاليني والليبرالي معا. وللأسف أن حركة اليسار الاجتماعي التي كان ينبغي لها أن تمثل هذا الخط قد انتقلت هي الأخرى إلى الليبرالية، ووجدت لها مكانا في ' الجبهة'!
وصلت المديونية العامّة إلى 17 مليار دولار، والعجز الحقيقي إلى حوالي المليارين، والبطالة الحقيقية إلى حوالي 20 بالمئة، والفقر إلى 40 بالمئة من السكان، والفقر المدقع إلى 20 بالمئة منهم. المحافظات في حالة تآكل بنيوي، والبيئة في حالة انهيار متفاقمة. رأس المال الخليجي والأجنبي يسيطر على البنوك والمؤسسات المالية والقطاع العقاري الكبير، ويسيطر هذان القطاعان المستنزفان للاقتصاد الوطني الخاضع بدوره لنتائج الخصخصة المدمرة.فرص العمل التي تولدها الاستثمارات الكمبرادورية تستهلكها العمالة الوافدة وبضعة آلاف من الديجاتلز. الفئات الوسطى تتآكل تحت ضغوط التضخم الهيكلي.الفئات الشعبية هي التي تموّل الموارد الضريبية المستوفاة عن طريق ضريبة المبيعات بينما ينجو البرجوازيون بثرواتهم من خلال نظام لضريبة الدخل يحابي الشركات والمستثمرين والأثرياء. ومن البدهي أننا وصلنا إلى هذا المأزق جراء الاستئثار الاستبدادي بالقرار من قبل مجموعة حاكمة ليس لها مضمون تمثيلي، وبواسطة دوس الأصول الدستورية وسيادة القانون بالأقدام. لكن تجهيز إطار دستوري وقانوني ليبرالي لا يمس النموذج الاقتصادي الاجتماعي المسيطر لا يعدو كونه تنظيم العلاقات القانونية بين العناصر البرجوازية وتنظيم المنافسة ' النزيهة'على النهب .
الفساد الكبير ليس شأنا أخلاقيا أو قانونيا، وانما هو يقع في قلب النموذج الاقتصادي النيوليبرالي . ولاستئصال الفساد الكبير لا بد من استئصال ذلك النموذج. لكن سأفترض أن مجموعة من اكثر الرجال والنساء نزاهة ادارت النموذج نفسه، هل كان سيتغيّر شيء بالنسبة للفئات الشعبية؟ النهب في الحالتين حاصل. فإما أنه يحدث على أسس احتكارية مبنية على تزاوج النفوذ السياسي والبزنس أو أنه يحدث على أساس المنافسة الحرة بين البرجوازيين. وجبهة عبيدات ترنو إلى غطار للمنافسة الحرة في غطار نموذج اقتصادي اجتماعي كمبرادوري هو أساس المشكلة كلها.
الشعب يريد الإطاحة بهذا النموذج لصالح نموذج مضاد يقوم على إعادة ترتيب أولويات الموازنة العامة من منظور اجتماعي، إعادة إحياء الاقتصاد الريفي، والصناعة الوطنية، إعادة تنظيم قطاع النقل لضمان سيولة الأيدي العاملة ووقف الهجرة من الريف، دمج المحافظات في اقتصاد وطني متعاضد، وقف تسليع الأراضي ووقف الزراعة التصديرية القائمة على هدر الموارد المائية.
إن مظلة الضمانات الاجتماعية ليست عملا خيريا وإنما سياق لازم للتشغيل وزيادة الانتاجية. وهي، لذلك، مهمة وطنية بامتياز. وإذا كانت حرية الأحزاب لازمة طبعا، فالألح هو حرية التنظيمات الاجتماعية والنقابية للدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية والعمالية.
ولن نسترسل أكثر، لكن وثيقة عبيدات لا تنطوي على ذلك كله أو بعضه، وإنما تبلور رؤية برجوازية حقوقية للتوافق داخل النموذج الليبرالي نفسه بين بعديه الاقتصادي القائم والسياسي الحقوفي الغائب. بمعنى آخر، هذه الوثيقة مصممة لعمان الغربية. وهذا هو السبب في غياب أو تغييب ممثلي المحافظات والفئات الشعبية والعمالية عنها.
(3)
رفض عبيدات كليا أي نقاش حول تنظيم المواطنة من خلال إخضاع التجنيس لسيادة القانون. وهو شيء مدهش فعلا. فوثيقة عبيدات ذات الطابع الحقوقي تلح على سيادة القانون في كل المجالات ما عدا الجنسية !
ولا يمكن فهم رفض عبيدات وصحبه لتحويل تعليمات فك الارتباط إلى فصل في قانون الجنسية إلا من زاوية مصالح النظام والبرجوازية ـ المتوافقة مع الرؤية الأميركية ـ للمزيد من التجنيس والتوطين غلى ما لا نهاية.
تعليمات فك الارتباط هي تعليمات إدارية تسمح للحكومات بالتجنيس وفقا لقوى الضغط الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والأمنية. تطالب الوثيقة عن حق بضبط صلاحيات الإدارة والجهاز الأمني .. ولكنها تقبل بأن تبقى الجنسية ضمن صلاحيات الإدارة والأمن. وتحارب الوثيقة، الفساد، ولكنها تقبل أن تبقى الجنسية الأردنية تُباع من قبل البيروقراطية الفاسدة حسب سعر السوق !
لا أستطيع أن افهم ذلك إلا في سياق التواطوء على تجنيس أكثر من مليون مهاجر طوعي من الضفة الغربية. وهو ما يحقق مصالح إسرائيل، الولايات المتحدة ، البرجوازية الفلسطينية الطامحة للسيطرة في وطن بديل، والبيرقراطية الأردنية الفاسدة.
(4)
إن الجهاز الحقوقي السياسي الذي تتبناه وثيقة عبيدات ضروري بالطبع، لكن نشوء هذا الجهاز يحتاج أولا إلى تعريف الوطن والمواطن. ويصبح عبثيا ـ إنْ لم نقل متواطئا مع مؤامرة الوطن البديل ـ إذا كان يراد قيامه في وطن بلا ضفاف ومواطنة سائلة بلا ضوابط قانونية.
(5)
تبقى إشارة تتعلق بحاجة النظام إلى استيعاب الحراك المُعارض في إطار شبه رسمي قادر على ضبط إيقاعه العام في ' جبهة'، وربما يتناغم مع سياق التسوية المقترح من قبل الولايات المتحدة مع الإخوان المسلمين. ولعل ذلك ما يفسر رفض عبيدات للحوار حول وثيقته والحاحه على استبعاد القوى الخارجة عن الخط الاصلاحي الأميركي.
وضّح عبيدات لشركائه ـ بغض النظر عن ألوانهم وتسمياتهم الديموغوجية ـ المضمون الفعلي لطروحاتهم السياسية بوصفها مقاربات إصلاحية ليبرالية صافية مبرأة من الادعاءات الشكليّة، اليسارية أو القومية أو الإسلامية. وضّح لهم ما يريدون وأظهر لهم سقوفهم في أعلى صياغة ممكنة لها. وهو ما حدا بهم إلى التوقيع من دون نقاش.
مبادرة عبيدات أنهت تشرذم شركائه ووحدتهم وراء برنامجهم الليبرالي المشترك. فتشرذمهم كان بلا معنى لأنه ينطلق من عصبيات تنظيمية وخلافات شخصية ومستبقات أيدولوجية فقدت مضمونها. وكان لا بد أن تأتي شخصية بحجم عبيدات لكي تخرجهم من هذه الشرذمة التي ليس لها أساس سياسي وتوحدهم وراء قيادة قادرة على التعبير عن الجوهري في طروحاتهم. وهذا الجوهري تصوغه وثيقة عبيدات الحقوقية الليبرالية.
(6)
الإيجابي ـ موضوعيا ـ في ولادة جبهة عبيدات أنها ستعيد رسم الخارطة السياسية في الأردن؛ فلها فضيلة جمع القوى التقليدية الماشية او المستعدة للسير في نهج الإصلاح الليبرالي، والفسح في المجال لتظهير جبهة أخرى، الجبهة الوطنية الديموقراطية الاجتماعية قيد التشكّل. وفي النهاية، سوف نحصل على خارطة مثلثة واضحة المعالم : النظام وما يتبعه من أحزاب وشخصيات، والجبهة الليبرالية، والجبهة الوطنية الاجتماعية.وهو ما سيوضح لوحة الصراع السياسي في البلاد. وهذه بلا ريب خطوة إلى الأمام.