11-06-2011 08:19 AM
كل الاردن -
د. نافذ أبوطربوش
بعد أكثر ما يزيد على ألف عام من بدء تراجع القهقرى للأمة الإسلامية كوجود مؤثر بشتى نواحي الحياة, نصطدم بأسئلة حتمية تحتاج الإجابة عليها, وهي "ما سبب السقوط الفكري للأمة الإسلامية؟ وما هي الأسباب المباشرة وغير المباشرة لسقوط الأمة الفكري؟ وهل من سبيل لإعادة الهيبة للأمة الإسلامية, وإعادة الهيبة للعقل الإسلامي ليكون عقلا ناضجا مؤثرا في نواحي الحياة؟!" هذه الأسئلة وغيرها الكثير, تحتاج لإجابة وافية صافية من أبناء الإسلام نفسه, وممن يدعون بأنهم يحملون راية الإسلام, وممن يطالبون بأن يكون النظام الإسلامي فاعلا في هذه الحياة... سأحاول الإجابة على السؤال الأول في هذا المقال من خلال قراءة تحليلية للماضي بينما سأحاول نقاش الأسئلة الأخرى في مقالات قادمة.
بعد وفاة الرسول محمد بن عبدالله (ص), كان الإستقرار السياسي للدولة حديثة النواة من أهم ما عاناه المسلمون في تلك الفترة. كيفية الإستقرار السياسي للدولة, ولمن يؤول الحكم, ونظرية نظام الحكم في الإسلام كان محل خوض فكري وسياسي وشخصي, مما أدى بها بعد فترة, لأن تكون محل نزاع يصل إلى حد الوقوف بالسيوف في وجه بعض, ومعركة الجمل وصفين من أكبر الأمثلة على هذا الماضي. وبعد أن استقرت السلطة في بني أمية, بدأت سياسة الجبر الدخيلة على الفكر الإسلامي بالتوغل في في عقول المسلمين, بتأثير من السلطة تارة, وبتأثير من علماء السلطة تارة أخرى, وبغياب وعي الشعب المنضوي تحت الدولة الإسلامية تارة ثالثة, فقد تم توسع أفقي كبير في زمن الدولة الأموية يهدف إلى زيادة المال, وغاب التوسع العمودي لتثبيت الفكر الإسلامي ونظامه في الأراضي المفتوحة, وبشأن هذا قال الخليفة العادل, عمر بن عبد العزيز "إن بني أمية توسعوا للجباية لا للهداية".
فكان العمل من السلطة وعلمائها موجه لتسطيح الفكر الإسلامي, وتفرقة المسلمين فرقا وشيعا حتى يسود لهم الحكم والسلطة من خلال قاعدة "فرق تسد". وكان الكم الهائل من المسلمين حديثي الإسلام والشباب الصاعد, وجبة سهلة للسلطة, أو لمن هم في محل تعارض للسلطة, إلا من رحم ربي. فكيف لأي كان, أن يسطح الفكر, ويضعفه, حتى يقدر على جمع أكبر قدر من الناس حوله, تؤيده وتناصره, لا بل وتضحي بأنفسها ودمائها من أجله ظنا منها أنها تخدم الله!!! الجواب على هذا كان باستعمال عدة أدوات كانت وما زالت وستبقى أدوات تلاعب بالبشر, إن لم يعتمدوا العقول في التفكير منهجا لهم.
الأداة الأولى: إدخال السلطة لمبدإ الجبر في الإسلام, وتخلخل مبدإ حرية الإرادة الإنسانية, واللعب على مفهوم القضاء والقدر, بحيث أصبح المفهوم عند فئة لا يستهان بها من المسلمين, أن الأفعال البشرية, هي ليست من فعلهم, وإنما هم منفذون لهذه الأفعال بحكم قضاء وقدر مسبق عليهم, وبالتالي أصبح للسلطة السياسية المدنية, غطاء ديني بمعنى أو بآخر, وأنهم قدر الله في الأرض , وأكبر مثال على هذا, قول معاوية "إنما أنا قضاء الله فيكم", ومن هنا انهار مبدأ ومفهوم "العدل" في الحياة وعلاقة العدل بحرية الإرادة والمسؤولية عنها في اليوم الآخر. ومن لم يؤمن بهذه الفكرة (أهل التوحيد والعدل) تم العمل على تقتيلهم وحرق كتبهم في وقت متأخر, كما تم في عهد الدولة العباسية, إصدار ما يسمى بالوثيقة القادرية, التي تحرم الإجتهاد وأمرت بقفل بابه, وتحدد الأفكار التي يجب على المسلمين الإقتناع بها, وتجرم من لا يقتنع بها تحت طائلة العقاب المسؤولية.
الأداة الثانية: شخصنة الفكر الإسلامي, ورواد هذا الفكر, هم طوائف كثيرة من المجتمع الإسلامي, السلطة أهم روادها بل وطرف مهم جدا فيه, والطوائف الإسلامية المختلفة كانت طرفا آخر, والشعوب البسيطة فكريا وغير الواعية كانت طرفا آخر. ولكن ما الذي سمح لهذه الأمور أصلا بالتواجد؟! إن تعظيم الأشخاص مقابل الفكرة, واتباع شخص بشكل أعمى, بدون نقد موضوعي لما يطرح, هو ما يرفع أمة ويهدم أخرى, والذي سمح لهذه الشخصنة بالتواجد, هو الإقتتال الذي حدث فيما بين أهم رموز الإسلام, وما تبعه من اقتتال بين علي ومعاوية, وذرية علي وذرية معاوية, كان لها أثر نفسي عند الشعوب المسلمة, لتحديد مع أي الفريقين هم, بغض النظر عن وجهة النظر في الطرح... وبعد هذا وذاك, استمر فكر الشخصنة بتسطيح الفكر الإسلامي أكثر فأكثر, حتى وصل بين أبناء الطائفة نفسها اعتمادا على من تتبع أنت, وليس اعتمادا على ما الذي تؤمن به أو لا تؤمن... وكل فكر يعتمد الشخصنة, هو فكر إشراكي يعتمد الشرك بالله مبدأ من مبادئه الأساسية, حتى لو لم يصرح بها, وحتى لو كان ينفيها, ولكن الواقع يثبت غير ذلك. ومن هنا, انهدمت الركيزة الأساسية التي عمل رسول الهدى على ترسيخها طوال الفترة المكية, وهي مبدإ وفكرة "التوحيد", وإلغاء فكر الشرك, اعتقادا وقولا وعملا, وهذا لا يتأتى إلا من خلال الإقتناع بالفكرة, لا بوراثتها وترديدها كالببغاوات. وتسطيح فكرة التوحيد, تم من خلال الفكر الذي يشبه الله بإنسان, وبأنه يتبعض ويتجزأ, وبجواز فكرة الحلول والإتحاد عليه, وبجواز وضعه ضمن إطار زمني ومكاني مع أنه هو الذي خلق الزمان والمكان, وتشويه فكرة العلم الإلهي, وتشويه فكرة الأسماء والصفات, كل هذا عمل على تشويه فكرة الله في عقول المسلمين, حتى أصبح عاجزا عابثا جسما تجري عليه العواطف والأحاسيس لا بل ومحتاجا, وبالتالي, أصبح لهم في ميدان حياتهم, عملا لا قولا, ألف إله, فرب عملهم هو ربهم, وأستاذ المدرسة هو ربهم, ومدرس الجامعة هو ربهم, ووزير أو نائب أو مسؤول هو ربهم, ورجل الأمن هو ربهم, ورئيس الدولة هو ربهم, يخافون كل ما تقدم أكثر من ربهم, لا بل يفهمونهم أكثر من فهمهم لله, ويطيعونهم كعبيد بدون أي فهم أو رضى.
والركيزة الثالثة, هي ما دور علماء السلطان والمستفيدين في كل هذا؟! الجرم الكبير برأيي, الذي عمل على تفتييت الفكر الإسلامي, والذي ساعد على تسطييح فكرتي التوحيد والعدل السابقتين وعمل على هدمهما, جاء من خلال مؤسسة علم الحديث, وعلم الجرح والتعديل, الذي يتم من خلاله التثبت من صحة الحديث وبطلانه, واعتماد السند ركيزة أساسية في الحكم على الحديث, وإلغاء مبدإ الحكم على متن الحديث, وحتى شرطي الخلو من الشذوذ والخلو من العلة, كانتا عائدتين على السند لا المتن. وجود هكذا قوانين, سمحت بتواجد أحاديث تعارض العقل صراحة, وتعارض القرآن صراحة, وتعارض الفكر السوي للإسلام, لا بل تحوله إلى دين خرافات وخزعبلات, وتجعل منه فكرا سطحيا يعتمد العاطفة لا العقل والفكرة. بناء على هذا, أصبح أي نقاش حول أي أمر في الإسلام, يعتمد الحديث ركيزة أساسية في نقاشه حتى لو عارض العقل والقرآن, والدليل على ذلك في أي نقاش يتم, وإن سألت أحدهم عن دليل على قوله, يقول هو مكتوب بالكتاب الفلاني, الذي كتبه الشخص الفلاني, بغض النظر عن مدى الركاكة التي يتصف بها الحديث. وجود هكذا أمر, سمح لكل الفرق الإسلامية (باستثناء المعتزلة) بتواجد كتب حديث خاصة بهم, ما يتواجد بهما هو صحيح, وما يخرج عنهما هو كذب لا محالة, بغض النظر عن مدى مصداقية ما يذكره الحديث. فعند أهل السنة والجماعة (الأشعرية), صحيح البخاري ومسلم, وعند الشيعة الإمامية, الكافي, وعند الإباضية, مسند الإمام الربيع, وعند الزيدية, مسند الإمام زيد, وعند السلفية الألبانية الحديثة, سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة للألباني, وما إلى ذلك... اعتمد جميع من سلف ذكرهم, تصحيح الحديث وتضعيفه ورده, بناء على من روى الحديث, لا بناء على ما جاء به الحديث, وكما يعلم كلكم, بأن التاريخ الإسلامي, ملئ بالمشاحنات حد الإقتتال في بعض الأحيان, مما جعل الفرق الإسلامية, فرقا تشخصن الأمور بلا موضوعية, وكل فرقة لها رجالها الصحاح, ورجال الفرقة الأخرى كذابين, ورجال كل من لم يمش على هواهم كذابين, فأبو حنيفة, تم تكفيره في أهم كتب الجرح والتعديل لأنه إمام أهل الرأي وأستاذ الشافعي لا يأخذون عنه, لأنه من أهل التوحيد والعدل. وجود هذه الطريقة للتصحيح والتضعيف, جعلت كما هائلا من الأحاديث المكذوبة على رسول الله تتبوأ صدارة الفكر الإسلامي, وأن تشكل تفكير الناس الحالي, والنتيجة, إنسان مسلم يعتمد الخرافة والأسطورة في إيمانه, ولا يؤمن بمبدإ الحرية الإنسانية واختيار الإنسان لأفعاله, ويؤمن اعتقادا وفعلا لا قولا بوجود ألف إله على الأرض غير الله الذي في السماء, ويؤمن بأن الحياة مبرمجة, ويؤمن بمبدإ فك الفعل عن النتيجة, وأن دوره في هذه الحياة, هو دور تنفيذي لا إرادي, فإسرائيل موجودة بإرادة الله, ومطلوب منا الدعوة للتحرك ومواجهة إسرائيل, ولكننا لا ولن نستطيع إزالتها الآن!!! وهذا غيض من فيض من الأمثلة على معتقدات دخيلة على الفكر الإسلامي. وآخيرا وليس آخرا, هو ما عمل عليه المجتمع الساذج, وقاده الأحبار والرهبان في الإسلام, وهو اختصاص الدين برجال معينيين, هم أهل الدين, وهم مرجعه, وبالتالي, يستريح المسلم البسيط من عناء تشغيل عقله الذي أمره الله بتشغيله كي يكون مصدر قيادته في هذه الحياة, وبدل هذا, فتم اختصاص أمور الإسلام بفئة معينة, تقول للناس ما يفعلون, ويقولون بعدها "آمين" بغض النظر عن القول نفسه, وعندما تأتي لتناقش أحدهم, يقول, إذهب لتناقش "الشيخ الفلاني" فهو العالم بهكذا أمور, ونسوا قول الله "كل نفس بما كسبت رهينة" المدثر (38). أصول الإسلام (جليل الكلام) وخصوصا مسألتي التوحيد والعدل وما يتعلق بهما, هي مسؤولية كل مسلم يعتنق الإسلام أن يفهمها ويعيها ويقتنع بها ويكون له القدرة على النقاش بها والدفاع عنها وإقناع الغير بها ومسؤول عنها في الدنيا وأمام الله في الآخرة, والتخصص الدقيق في بعض المسائل (دقيق الكلام) كالفقه المتخصص والفيزياء الحديثة وعلوم الرياضيات المعاصرة والطب وما إلى ذلك, هو من خاصة البعض البحث به إن أراد...