بقلم : د.محمد المناصير
20-12-2016 03:08 PM
فشل إعلامنا الرسمي خاصة التلفزيوني في نقل الصورة الحقيقية لما يجري في الكرك في ظل المعركة مع الإرهاب التي خاضتها قوات الأمن في قلعة الكرك وما حولها ، ويتساءل الناس : أين المهنية وأين الشفافية وأين إعلام الوطن وصوت الوطن وصورته وأين شاشتنا الوطنية ؟ لتنقل إلينا مجريات الأمور والصورة الحقيقية لما يجري بدلا من ترك الساحة للإعلام الدعائي وإعلام التهويش والأجندات ...
والجواب يكمن في حكوماتنا الرشيدة التي قتلت إعلامنا على نطع الواسطة والمحسوبية بعيدا عن المهنية .. ويعود الوضع المتردي لإعلامنا إلى ما تطالعنا به الحكومات الرشيدة بين الفينة والأخرى من تغييرات جديدة ومتواصلة في الإعلام خاصة الإذاعي والتلفزيوني ، فلا تكاد تبدأ تغييرات حتى تنتهي تغييرات ، ولا يكاد يأتي مدير حتى يذهب مدير ، والإعلام من سيء إلى أسوأ ، في ظل أسوأ ظرف يمر به الأردن.
ورغم أهمية هذا الجهاز الذي يشكل جيشا آخر وخطا ثانيا للدفاع عن الوطن، مع فارق أن الكلمة أقوى من الطلقة إلا انه يعاني من حالة التردي رغم أن الإعلام هو الصورة الواضحة للوطن ، فمن يعرف مكونات الوطن يستطيع أن يشكل عناصر الإعلام ، ليرتفع البناء الإعلامي الذي يعتبر جسما حيا ، بعينين يشكلان الصورة وشفتين يطلقان الكلمة الحية المعبرة.
ولذلك فان عمل حكوماتنا فيما يتعلق بالإعلام يشبه حراثة الجمال) - أي أن الجمل بعد أن يحرث الأرض يدوسها بخفه الكبير فتعود كما كانت قبل حراثتها ) ، وعادة ما تطال التغييرات والترويحات وسائل الإعلام الناجحة ، وحراس الإعلام الذين قام الإعلام الأردني على أكتافهم ، وهي خطوات تشكل محاولة لتحريك المياه الراكدة ، وتعكيرها بعد أن كانت صافية ، في وسائل إعلامنا التي تعيش حالة من الفوضى بغياب وزارة الإعلام ، ولعدم وجود مرجعية واحدة لإعلامنا ولعدم وجود إستراتيجية إعلامية ، ولكثرة المرجعيات ، وكثرة تغيير الإدارات.
فقد كانت وزارة الإعلام هي التي تحكم الفعل الإعلامي في المملكة ، لما له من دور فاعل في النهضة التي يشهدها الأردن ، وعلى الصعيد السياسي لتفسير مفردات جلالة الملك وتوجهات الوطن ، والدفاع عن الأردن أمام الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الأردن من وسائل إعلام عربية ومن الإعلام المعادي ، فقد بدأت حملات العداء للأردن من قبل الصهاينة منذ عام 1921 عندما أصبحت الأردن دولة ، وكان الأردن في مخططات الصهاينة ضمن إسرائيل الكبرى .
ولكن إعلامنا الذي ولد من رحم فكر الثورة العربية الكبرى بانطلاق جريدة (الحق) يعلو عام 1920 الناطقة بلسان الثورة وأميرها المحبوب عبد الله الأول في مخيمه بمدينة معان .. وانطلاق إعلامنا الإذاعي من رحم الحرب العربية الصهيونية عام 1948 عندما تمكن جنود الجيش العربي من نقل معدات إذاعة الشرق المقدسية التابعة للانتداب البريطاني إلى رام الله لينطلق الصوت الأردني الهاشمي لأول مرة من مدينة القدس التي تمكن جيشنا من المحافظة عليها ...
وكان إعلامنا قادرا على المواجهة، عصيا على الاختراق، قادرا على التصدي بالكلمة والصورة، قويا مقنعا يعرف توجهات جلالة الملك ومنطلقات الأردن.
أما اليوم فان إعلامنا عاجز عن الرد والمواجهة ودحض الفرية بالحقيقة، ورد التهمة بالحقيقة، والتحريف بالتعريف، والأكذوبة بالتفنيد ، ولذلك يتعرض الأردن لهذه الشرسة سواء من دول أو أشخاص أو محطات إعلامية مغرضة .
لقد واجهنا الإعلام الصهيوني لمدة 60 عاما ، ونحن الآن عاجزون حتى عن معرفة توجهات جلالة سيدنا ملك البلاد الذي يعمل المستحيل لتطوير البلد ، وقد أعطى الإعلام بعدا وقوة لم يشهدها من قبل ، وأعطى حرية للإعلام قل نظيرها في أنحاء العالم لان سقفها السماء ، ورغم ذلك فان وسائل إعلامنا لا تعرف استراتجيات وثوابت وطننا ، الذي اثبت موجودية أغاضت العدو قبل الصديق .
وقد ساهمت وسائل إعلامنا خاصة الإذاعة منذ فجر عهدها في النهضة العربية ، وحملت مشعل ومبادئ الثورة العربية الكبرى ، وخاضت غمار معارك الأمة إلى جانب الأشقاء في معارك التحرير والاستقلال وفي حروب الأمة المصيرية , حتى انه عندما أعطبت إذاعة القاهرة إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956انطلق صوت مصر من أثير عمان معلنا وحدة الهدف والمصير والوقوف في خندق الأمة وبقي كذلك دائما . وفي عام 1969 أعلن الحسين انطلاق التلفزيون ليعزز الصوت بالصورة . ليوضح صورة الأردن بعد أن حاز جيشنا الانتصار في معركة الكرامة عام 1968، واعد للأمة ثقتها بنفسها ، فرفع الحسين صوته الأبي ، قائلا للأمة العربية : اليوم ستسمعون عنا ، وليس منا ، ورفض جلالته وقف إطلاق النار إلى أن يتمكن الجيش الأردني من تحرير آخر ذرة تراب وقف عليها جيش العدو ، وحطم فيها أسطورة الجيش الذي لا يقهر .
نحن بحاجة لعودة مدرستنا الإعلامية العملاقة ، التي خاضت حروب 1948 و1967 و1956 و 1973 ، وحرب الخليج الأولى بعد 1980 و حرب الخليج الثانية 1990 ونجح فيها إعلامنا وآثار الدهشة حقا . ولكن أين نحن من الأمس ؟ ، أنني أعلن الموت البطيء لإعلامنا الرسمي ، وعجزه الكامل عن الرد والمواجهة ، وعدم قدرته الارتقاء إلى فكر
جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظم ، وإستراتيجية الوطن .
نعم كان إعلامنا الرسمي في بداية السبعينات منارة هدي ومدرسة إعلامية يعتد بها في العالم العربي ، خرجت الأفواج التي حملت مشعل الإعلام في مختلف أصقاع الأرض من شبابنا الذين امتهنوا حرفة استخدام المايكروفون وسحر الكلمة الصادقة . وفي 1974 كان التلفزيون الأردني أول تلفزيون ملون في المنطقة ، مما عزز صورته وأعطاه دفعة إلى الأمام . وكانت محطة الأقمار الأرضية في البقعة قد سبقت الإعلام العربي في الاستقبال الفضائي والنقل الحي ، فكان تلفزيوننا ينقل إلينا مباريات محمد على كلاي وسهرات كوكب الشرق ومختلف أحداث العالم على الهواء مباشرة ، مما جعل محطتنا تصبح محط الأنظار للعرب في كافة أقطارهم ، وحمل تلفزيوننا عبء الإنتاج لأروع الأعمال الدرامية العربية، والبرامج الوثائقية والمنوعة في الوطن العربي، فخرج جيشا من النجوم العرب انطلقوا في بدايتهم الفنية من عمان . وأصبح تلفزيوننا مركزا هاما من مراكز الإنتاج الإعلامي .
وقد ارتقى إعلامنا مع الزمن إلى أن أصبح محط أنظار العالم بأسره إبان الفترة،يج الثانية . وأصبح المصدر الوحيد الموثوق في العالم للأنباء بكافة أشكالها في تلك الفترة ، فقد كان إعلام دولة يتميز بحرفية خاصة ودقة وموضوعية قل نظيرها .
وفي حين أن إعلامنا كان مدرسة تخرج الإعلاميين المهنيين لكافة الفضائيات ، نحن اليوم بحاجة إلى إعلام وطني مهني ، قادر على الدفاع عن قضايانا ، ويحمل رسالتنا ، وتوجهات دولتنا ، ولتعرية الذين يصطادون بالماء العكر ، فالإعلام المعادي لوطننا يعرف كيف يحرف الحقائق ويحاول أن يقنع بها الآخرين ، ولكن إعلامنا وخاصة التلفزيوني عاجز تماما عن الرد والمواجهة رغم أن إعلامنا التلفزيوني كان إعلاما مهنيا ، قبل أن ينهار ويذبح على نطع الواسطات والمحسوبيات ، التي جاءت بمدراء إعلاميين ليسوا على قدر المهنة وتحمل المسؤولية ، وعدم القدرة على مواكبة نجاحات الوطن .
وإنني لا احمل مسؤولية هذا التردي الإعلامي في الرد على الهجمة الإعلامية المعادية المتزامنة بالضبط مع حملة تقودها بعض الفضائيات منذ أن خاطب جلالة الملك العالم في حالة اللا سلم واللا حرب، والطرح الموضوعي الذي طرحه جلالة سيدنا في الكونغرس الأمريكي عدة مرات ، خاصة خطابه الذي خاطب فيه العقل قبل القلب ، وتمكن من خلاله أن يحرك المياه الراكدة للسلام التي لا تريد إسرائيل تحريكها ، لتبقى كما هي لا حرب ولا سلام ، على أمل تحقيق طموحات وأفكار الكيان الإسرائيلي المحتل العالمية التي دعمها الغرب ، ولهذا فان الحقيقة مرة ، علينا أن نتجرع الحقيقة مهما كانت مرة لنرد على ترهات هؤلاء ، الذين كان خطاب جلالة الملك إحراجا لهم وللعالم المحب للسلام بأسره ، فأين إعلامنا ؟؟ والجواب هو أن مسؤولينا في الإعلام التلفزيوني الرسمي لا زالوا يغطون في نوم عميق وسبات دائم.
وقد وصف إعلامنا في ظل حالة التردي بالمرعوب، نعم فهو إعلام مرعوب خوفا على الكراسي والمنافع والمكتسبات ، فبعض المسؤولين الإعلاميين همهم المنافع والمكاسب الشخصية ، وهم بذلك عاجزون عن الارتقاء إلى مستوى أفكار وتطلعات جلالة الملك المفدى ، الذي علم العالم سحر الكلمة المنطوقة وقدرتها الهائلة على التغيير ، بقامة عالية لن يصل إلى مستواها إعلامنا الرسمي بهذه القيادات التي خلقت من رحم الواسطة والارتزاق والتنفيعات لجني المكاسب الشخصية ، على حساب الإعلام الوطني المسؤول .
إلا أن إذاعتنا وتلفزيوننا خاصة فقدا هذه الموضوعية والحرفية ، في خضم الاستقواء على هذه المؤسسة الإعلامية ، واستقدام مدراء من خارجها هبطوا بالمظلات إلى أرضية لم يألفوها وجو لم يعتادوا عليه . وقد جاء تشكيل مجلس إدارة لهذه المؤسسة ليصبح ' القشة التي قصمت ظهر البعير' ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، فمن أين لهؤلاء الذين عينوا من مختلف القطاعات أن يتعرفوا على خبايا العمل الحرفي في هذه المؤسسة ، وهم لا يدخلوها إلا يوم الاجتماع المسائي ، ولا يلتقوا إلا مع الإدارة التنفيذية ؟؟؟ .
لقد أصبح اهتمام مجلس إدارة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون منصبا على الشكليات والمتابعات الإدارية فقط ، ليكون مصيرها الحفظ والنسيان ، ما لم يتبناها المدير العام التنفيذي ، الذي أصبح يمارس ديكتاتورية قل نظيرها ، حتى أن احدهم استغنى عن ثلث الكادر الوظيفي المؤهل بإخراجهم من المؤسسة ، فأصبحت خاوية إلا من التعيينات التنفيعية على ما كان يسمى بالفئة الرابعة ، وأصبحت الهبات والعطايا هي السمة الغالبة في هذه المؤسسة ، فضاع الإعلام الحرفي وفقدت المصداقية ، وعجز إعلامنا التلفزيوني والإذاعي عن الإقناع ، لدخول طاقم من غير المحترفين في صلب العمل ، خاصة وان المسؤولين عجزوا عن إيجاد إستراتيجية إعلامية تنسجم مع فكر القائد ، ودور الوطن التاريخي ، ومتطلبات الثقافة والاقتصاد ، في ظل العالم المتغير، إبان انتهاء الحرب الباردة وانهيار النظام الثنائي القطبية ، والتحول نحو عالم الاستقطاب الأحادي والعولمة الثقافية والمعلوماتية ، فلم يستطع هذا الكادر المهني من فهم ما يدور حوله ، إلى أن جاء من يفكر ببيع محطاتنا التلفزيونية الثانية والثالثة ويؤجرها ، في غفلة من الزمن ، كما جاء من ألغى محطتنا وقناتنا العربية الأردنية التي كنا نعتز بها ، والتي لم يبق منها إلا اسمها المدون إلى اليوم على الباب الرئيسي للتلفزيون ، وكذلك الحال إذاعتنا المسماة ' البرامج العربية الموجهة من عمان ' ، التي كانت تربط الوطن بأبنائه في الخارج برابط الانتماء والتواصل مع الوطن ، والتواصل كذلك مع العرب في كل مكان والتي أمر جلالة الحسين طيب الله ثراه بإنشائها .
وقد تمكن الشرفاء في هذه المؤسسة من حمل مشعل استعادتها لدورها ، إلا أن سياسة الحكومات بقيت تعمل على استيراد الكفاءات الإدارية لمؤسسة الإذاعية والتلفزيون ، والذين لا ينقصهم شيء سوى المعرفة الحقة بهذه المهنة ، وزاد الطين بلة إلغاء وزارة الإعلام التي كان وزرائها يتسابقون لصنع إستراتيجية إعلامية فاعلة ، وسياسة إعلامية واضحة مبنية على التخطيط ، فأصبح إعلامنا بإلغاء الوزارة وتعدد المرجعيات إعلام بلا مرجعية ، تائها يترنح في عالم الفضائيات ، تحكمه عقلية المدراء وبعض رؤساء مجلس الإدارة الذين يعرفون كل شيء ما عدا كنه الإعلام وأسلوب إدارته
أن إعلامنا التلفزيوني بحاجة إلى حراس على قدر المسؤولية لإنقاذه من وضعه المتردي . حتى أن كثيرا من إعلاميينا في اعلي المراكز فشلوا في فهم مكنون فكر جلالة سيدنا ، وأتمنى أن نعود كما كنا مرجعا للخبر والمعلومة ودرعا يحمي الانجاز ويتصدى لكل متصيد ومتربص بالأردن. حمى الله الوطن من هذه الهجمات الإعلامية التي لعامين،ع إعلامنا أن يرد عليها بالحجة والإقناع ، بالمهنية لا بالتهويش ، وبالإقناع لا بالتهميش .
ونستطيع أن نجزم إن صناعة الإعلام مهنة أكثر منها وظيفة عابرة ، فصناعة الكلمة فن من فنون الفكر وشكل من أشكال الثقافة . والعمل الإعلامي اليوم أصبح أصعب بكثير في ظل فيض من المحطات التلفزيونية ، في هذا الفضاء الرحب وهذا التشابك الإعلامي، وهذا التفاوت في الاتجاهات والتلاقح الحضاري والتمازج الفكري والتنوع الإعلامي والمدارس الإعلامية المستحدثة .
والسؤال هو أين نحن في هذا البحر الذي لا ساحل له ؟؟ . فهل استعدت إذاعتنا وتلفزيوننا لمواجهة هذه الأمواج العاتية ؟؟ .
والآن ما زال إعلامنا، يراوح مكانه ، مكانك سر ، وسط جيش كبير من الموظفين ، المهنيون منهم قلة .
والآن 2016 أين نحن ؟؟؟ لقد أصيبت مؤسستنا الإذاعية والتلفزيونية بالجمود ، لا بل بالتراجع ، في ظل فقدان شخصيتنا الإعلامية الوطنية ، وعدم وجود إستراتيجية إعلامية بعيدة المدى . ترتكز على فكر مليكنا الشاب المتألق الذي سبق عصره في بعد النظر ، والذي أذهل العالم بقيادته الواعدة المتطلعة للغد المشرق ، وحيويته وحركته المستمرة ، التي أثمرت تقدما ورفعة لأردننا الحبيب ، إلى أن أصبح الأردن بفضل جلالته محج المستثمرين ، ومهوى أفئدة الزائرين ، والموطن الآمن والمستقر للباحثين عن الأمن والأمان ، في حمى أبي الحسين وعرين الهاشميين .