بقلم : موسى العدوان
22-04-2017 10:25 PM
{هذا هو نموذج العظماء في الكبرياء، وعزة النفس، والتواضع، والحفاظ على شرف العسكرية، الذي تميز به معالي المشير حابس المجالي. وعندما طُلب منه أن يكتب مذكراته رفض الطلب قائلا : ' دع الناس تكتب عني، ولا أرغب بالكتابة عن نفسي '}
في يوم السبت الموافق 22 / 4 / 2017 صادفت الذكرى السادسة عشرة لرحيل المشير حابس المجالي، ذلك الكوكب الذي سطع في سماء الأردن خلال منتصف القرن الماضي، وبقي متألقا في الأجواء لأكثر من خمسين عاما.
لقد كان حابس المجالي رمزا وطنيا، ونموذجا للرجولة والشهامة والإخلاص للوطن، أثبتها بأفعاله في حرب عام 1948 وأحداث عام 1970، وفي غيرها من الأحداث العسيرة التي مر بها الأردن. وأن خير ما نحيي به ذكراه في هذا اليوم، هو بعض ما نقدمه للجيل الذي لا يعرفه، عن مواقفه البطولية التي كان لها دور كبير في الحفاظ على هذا الوطن، عزيزا كريما لعدة عقود.
حابس المجالي الذي نذر نفسه للجندية، كان أول ضابط أردني يتولى قيادة كتيبة في الجيش العربي الأردني. وهو من واجه القوات اليهودية في ساحات القتال في فلسطين، وردهم على أعقابهم خاسرين في العديد من المعارك، التي جرت في اللطرون وباب الواد. تلك المعارك التي شهد العدو قبل الصديق ببسالة قادتها وشجاعة جنودها في الدفاع عن الأرض المقدسة.
وليسمح لي القراء الكرام بهذه المناسبة، أن أذكّر ببعض العمليات العسكرية، التي خاضها الراحل الكبير ضد القوات اليهودية، في حرب عام 1948 بصورة موجزة، نظرا لضيق المقام.
ففي الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم 25 أيار هاجمت قوات البلماخ الإسرائيلية مواقع الكتيبة الرابعة التي يقودها حابس المجالي في اللطرون. وتمكن جنود العدو من الوصول إلى مسافة 100 ياردة من الخطوط الأمامية للكتيبة، ولكن بتصميم وشجاعة رجال الكتيبة الرابعة جرى صُدّ ذلك الهجوم وأجبر العدو على التراجع .
ولكن في الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، كرر العدو هجومه واستمرت المعركة لمدة 15 ساعة متواصلة. وأمام شدة المقاومة اضطر العدو للانسحاب بعد أن خسر 800 قتيل عدا عن الجرحى.
لم يرضخ العدو لهذا الفشل والإخفاق في الهجوم، لأن بن غوريون الذي كان يوجه العمليات العسكرية، يعتقد أن مصير الحرب كان متوقفا على نتيجة القتال بين الجيش الإسرائيلي والجيش الأردني، إذ قال : ' إما أن يخترق الجيش العربي مثلثنا، أو نقوم نحن باختراق مواقعه. فإن نجحنا نكون قد أوشكنا أن نكسب الحرب. الجبهة الرئيسية هي المنطقة التي يتمركز فيها الجيش العربي : القدس وجبال القدس، وليس النقب أو الجليل. إنني احترم الجيش العربي إلى أقصى حد '.
وفي 28 أيار شكل بن غوريون أكبر قوة يهودية يقودها قائد واحد، هو العقيد الأمريكي دافيد ماركوس، مؤلفة من ثلاثة ألوية، وأمره بالاستيلاء على اللطرون وباب الواد وفتح الطريق إلى القدس. ولكن هذه القوة واجهت مقاومة عنيفة عند هجومها على مواقع الكتيبتين الثانية والرابعة، مما أدى إلى فشل الهجوم ووقوع خسائر كبيرة به.
في 1 حزيران قام الملك عبد الله الأول بزيارة تفقدية لموقع المعركة، واستمع إلى شرح لتفاصيلها، ثم التفت إلى حابس المجالي قائد الكتيبة الرابعة قائلا : ' إنك وجنودك تدافعون عن أرض سبقكم للدفاع عنها قادة عظام من أمثال عمرو بن العاص وصلاح الين، ومن سماك حابس ما أخطأ لأنك حبست العدو وحلت دون تقدمه. إن كتيبتك الرابعة هي الكتيبة الرابحة بإذن الله '.
في ليلة 8 / 9 حزيران زحفت قوات العدو تحت ستر الظلام وتمكنت بعد قتال عنيف من الوصول إلى مسافة 70 ياردة عن مركز قيادة الكتيبة الرابعة. فأمر قائد الكتيبة بتجميع آخر قوة متوفرة لديه، للقيام بهجوم معاكس على العدو وطرده من الموقع الذي وصل إليه. والموقع عبارة عن مرتفع إذا استطاع العدو أن يتثبت فيه على قمة الجبل وعلى موقع معاذ بن جبل، فإن مواقع الكتيبة تصبح تحت سيطرته وتحت تأثير نيران أسلحته، ويصبح الموقف حرجا، فإما الحياة أو الموت، وإما طرد العدو أو الهزيمة.
وعلى مسافة قريبة من قائد الكتيبة حابس المجالي، كان يقف طبيب الكتيبة الدكتور يعقوب أبو غوش، فسأله حابس: كم رصاصة في مسدسك ؟ أجاب الطبيب 6 رصاصات. فقال حابس : في مسدسي أيضا 6 رصاصات . . وصمت لحظة ثم قال : سنبقى هنا . . وإذا وصل جنود العدو إلينا . . سيطلق كل واحد منا 5 رصاصات عليهم . . أما السادسة فسنطلقها على أنفسنا..!
في هذه الأثناء فُرضت اتفاقية الهدنة الأولى بين العرب واليهود، ليسري مفعولها ابتداء من بتاريخ 11 حزيران 1948. فطلب كلوب رئيس أركان الجيش العربي من القوات الأردنية الموجودة في فلسطين، التقيد بالهدنة ووقف القتال في التاريخ المحدد. وكان الرد من حابس المجالي بهذه الأبيات الشعرية :
ما اريد أنا هدنــة يـــا كلوب * * خلي البواريــــد رجّادة
بيوم قيض بحر الشـــــوب * * والنار بالــــجو وقــــادة
خلـــهم يحسبوا لنـــا محسوب * * إنّا على الموت ورّادة
صهيون اترك لنا المغصوب * * وابعد عن القدس وبلاده
النصـــر لنــــا مكتــــــــوب * * والخوف ما هو لنا عادة
ومن الجدير بالذكر أنه في احتفال التوقيع على معاهدة وادي عربه في منطقة العقبة، طلب بعض القادة الإسرائيليين لقاء مع حابس المجالي، إلا أنه رفض مقابلتهم باعتبارهم ما زالوا أعداء للعرب رغم كل الاتفاقيات الرسمية المعقودة معهم.
حابس المجالي توفي وهو مدان لمؤسسة الإقراض الزراعي بمبلغ يقارب الخمسة عشر ألف دينار، ولكنه لم يطلب من أحد أن يسدها عنه، إلى أن عرف جلالة الملك حسين - طيب الله ثراه – بالموضوع، فأمر بسدادها دون علمه.
وفي عام 1977 عندما كنت أعمل في القيادة العامة جاءني مرافق المشير حابس المجالي، يبلغني بأن سيارة المشير متعطلة وأرسلها للتصليح ولا يوجد لديه سيارة يتنقل بها خلال تلك الفترة. فذهبت أبلغ رئيس الأركان بذلك ورجوته أن يخبر جلالة الملك لكي يهديه سيارة مناسبة، إلا أنه لم يستجب لطلبي وأمر بإرسال إحدى السيارات المخصصة لضيوف القيادة العامة إليه،
ليستخدمها مؤقتا إلى أن تصلح سيارته. كم حزنت على ذلك، وتمنيت لو أنني أستطيع إيصال تلك المعلومة إلى جلالته، لكي يتبدل الموقف بصورة أفضل.
بمثل تلك التضحيات من قبل حابس المجالي ورفاقه الضباط والجنود الأشاوس، المؤمنين بالله وبحقهم في الدفاع عن المقدسات، استطاع ذلك الرعيل الأول الحفاظ على جزء كبير من أرض فلسطين، وهو ما سمي لاحقا بالضفة الغربية. فأولئك الرجال لم يفكروا بمكسب دنيوي، أو مصلحة خاصة توفر لهم العقارات، والمشاريع التجارية والثراء. لقد كانوا مثالا للحفاظ عل شرف مهنة الجندية، والتضحية بالنفس، ونكران الذات، فلم تتلوث سمعتهم بخيانة المسئولية أو الاختلاس والمحسوبية، سواء خلال خدمتهم العسكرية أو ما بعدها.
هذا هو نموذج العظماء في الكبرياء، وعزة النفس، والتواضع، والحفاظ على شرف العسكرية، الذي تميز به معالي المشير حابس المجالي. وعندما طُلب منه أن يكتب مذكراته رفض الطلب قائلا : ' دع الناس تكتب عني، ولا أرغب بالكتابة عن نفسي '.
من المؤسف أن تمر ذكرى وفاة ذلك القائد العظيم، الذي ضحى من أجل الأردن وفلسطين، ومن أجل ديمومة النظام مظلة لهذا الحمى، دون أن تتذكره أو تشيد بمواقفه أية جهة مسئولة. رحم الله حابس المجالي ورفاقه الشرفاء، الذين خدموا الوطن بتفان وإخلاص، دون منّة أو انتظار لشكر أو جزاء، وأدخلهم جنات الخلد والنعيم.
التاريخ : 22 / 4 / 2017