أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


بــِلادُ النـُـصّ

بقلم : راتب المرعي الدبوش
21-06-2018 05:05 PM

(النُّـصِّـيّـةُ) في اللّهْجَةِ العَامـيّةِ الأردنيّة، بلْ وفي مُعظمِ اللّهَجَاتِ العربيّةِ المَشْرقيّة، هي النِّسْبةُ إلى 'الـنُّـص'، بضمِّ النون، وهو (النِّصْفُ) في اللّغةِ العربيةِ الفَصيحة، فالـنُّصِّيـّـةُ ،إذنْ ، هي (النِّصْفيّة). وأكثرُ مَا تُسْتَعْمَلُ صِيغتُها الفَصيحةُ في وصْفِ الصُّوَرِ والتّماثيلِ، بأنّها صورٌ أو تماثيلُ نِـصْـفِـيّة.

أما (النـُّصُّ والنُّـصِّـيّـةُ) فَلَنا مَعَهما حكايةٌ طريفةٌ بدأتْ ذاتَ زمان، وظلّتْ عابرةً للأجْيالِ حتّى اليَوم، وأظـنُّها ستتواصَلُ وتستمرّ، مَادامَ ( النُّـصُّ نُـصّا، والكبيرُ كبيرا).

لقد شَاعتْ لفظةُ (النُّصِّـيـّة) في السّياقِ اللّهَجيّ الأردنيّ؛ لتحملَ عددا من الدّلالاتِ والمَعاني، منها (نُصِّـيةُ الحَلاوةِ الطحينيّة). وهي نصفُ الصّفيحةِ ذاتِ سَعَةِ العشرينَ لترا.

وكانتْ (نُصيّةُ الحلاوة) تَحتلُّ مكانةً رفيعةً في الثّقافةِ الغذائيّةِ للأسرةِ الأردنيّة في عُقودٍ ماضيات، وبخاصةٍ لدى الطبقاتِ الفقيرة،عندما كانتْ الحَلاوةُ وجبةَ غذاءٍ، يتناولُها الفردُ فَطورًا وغَداءً وعَشاءً. وهذا لا يعني أنّها كانتْ مُتوافرةً للجميعِ وباستمرار؛ بدليلِ أنّ أحدَهم قالَ ذاتَ يوم ؛ مُـتَـوَهِّـمًا أنّ الفرقَ بينَه وبينَ (السُّلطانِ) هو كَـمّيةُ الحَلاوةِ الْمُـتَاحَة لكلٍّ منهما : 'لو كنت بمكان السلطان لأظل آكـــل حلاوة لمّا أنـْسطح) !!.

هذا ما كانَ من أمْرِ (نُـصِّيـّةِ الحَلاوة)؛ الطّعامِ والحَلْوى، الواقعِ المُتاحِ حينًا، والحُلُمِ الْمُـتَـخَيـّلِ الجَميلِ أحيانا.

أما الـنُّصيةُ الأخرى ، والتي قدْ لا يتذكّرُها ،الآنَ، سوى قلّةٍ قليلةٍ من النّاس ، فهي (النُّـصِّـيـّةُ اللِّـباس) .

والـنُّـصِّيةُ ،هذه، هي (نِصْفُ جاكيت) ، أو فَلْنقُلْ إنّها (سويتر) بلغةِ هذهِ الأيام . وكانوا يَجْمعُونَها على ' نَصَاصي'، كانوا يَشترونَها من (البالة) التي كانتْ تُعْرَفُ بدُكّانِ 'الشّمّاشير'، أيْ محلّ الملابسِ المُسْتعملَة.

وكانتْ هذه (النُّـصِّيةُ) تحملُ قيمةً مُضافَةً، تَـتَمثّلُ في كوْنـِها تدخلُ في منَاهجِ التعليمِ والأحَاجي والألغازِ والفَوازيرِ الشّعبية؛ حيثُ كانتْ الجَدّاتُ ، قبلَ ظُهور التلفزيون، يطرحْنَ هذا السؤالَ على الصِّغار المُتجمّعينَ حولَهُنّ في أمْسياتِ الشّتاء.. يقولُ السؤال: 'بنت السُّلطان لها سبع نصاصي، في كل نصية سبع جيوب، في كل جيب سبع تفاحات. فكم تفاحة معها' ؟؟.

طبعًا الجَدّةُ، بِحُكْمِ خِبْرةِ السّنين، تُدركُ أنّ ابنةَ (السلطانِ) الثريةَ لا تكْتفي بِـنُصّيةٍ واحدة؛بل تمتلكُ سَبْعَ نصاصي؛ بحُكْمِ ثراءِ والدِها. كما تدركُ الجدّةُ، أيضا، أنّ جُيوبَ بنتِ السُّلطانِ لا تَحْتوي على ' الْقَشَل ' كجُيوبِ بناتِ الفقراء، بل هي مليئةٌ بالتفّاح، الفاكهةِ السّحْريةِ التي كانت 'تناغش' أخيلةَ الفُقراءِ في ذلك الزمان، وتُـراودُ أحلامَ (الأقلِّ حظّا) في هذه الأيام، حتى وصلَ الأمرُ بطفلٍ في هذا الزّمانِ ، أنْ سألَ مُعَلّمَهُ في المَدرسة: أستاذ، شو يعني تفاح؟؟!!

مَا عَليْنا!! سنتركُ الصغارَ، وهمْ يَجْمعونَ ويَضْربونَ؛ للإجابةِ على سُؤالٍ، من المُؤكّدِ أنّ الجدّةَ نفسَها لم تكنْ تعرفُ الإجابةَ عليه؛ لنقول: إنّ (النُّصِّيةَ) كانت غِذاءً وكِساءً، ومِنْهاجا تعليميّا، ومادّةً للمُسابقاتِ التي كانتْ تُقدّمُها الجدّاتُ الأميّاتُ في زمَانِ الشُّحِّ والْقِـلّة، بصورةٍ أفضلَ ممّا تفعلُه، اليومَ، بعضُ مَنْ يَظْهَرْنَ على الشّاشَات؛ مُتَسَلّحاتٍ بالْـكَمِّ الوَفيرِ من السّذاجَةِ والسّطْحيّة، والكثيرِ الكثيرِ من الجَهلِ والفَهاهَةِ والأميّـة.

كَما أنّ (النُّصِّيـّةَ) حَمَلَتْ ، أيضا ، دَلالةً أخرى ، في حِقْبـَةٍ من الزّمنِ أخرى ،بضمِّ الهمزةِ، وفَـتْحِها أيضا.

وإذا كانَ كثيرٌ من الفَلّاحينَ الأردنيينَ قد تناولوا ما تيسّرَ لهم من نُصِّـيّات؛ سَدّا لِلْجُوعِ تارةً، ولنسْيانِ الجوعِ تارةً أخرى- فإنّ النُّصيّةَ قد أكلتْهم أيضا، أعنى أنّها قد جرّدتْ الكثيرينَ منهمْ من أمْلاكِهمْ وأراضيهمْ لصالحِ تُجّارِ النُّصيّة، سواءٌ كانتْ نُصيةَ الطّعامِ، أو نصيةَ الشّرابِ التي كان البائعُ يَغُلّفُها للمُشتري بِكيسٍ من (الورقِ الكَدَش) الذي لا يَشِفُّ؛ مُراعاةً للذّوْقِ العَـام، وَحَيَاءً من المَلائكةِ التي تَمْشي في الشّوارعِ والأسْواق !!

ترى ، هلْ انتهى عَصْرُ النصيّة؟. لَسْتُ أجْزِم .. ولكنْ جَاءَ بعدَه، وربّما زامَـنَه، عَهْدُ (النُّص)؛ بَدْءا من قَميصِ (النُّص كُمْ)؛ الذي بَدأ في بدايةِ أمْرهِ يَمْشي على اسْتِحياء، مُرورا بِـنُصِّ ما يُسمّى بـ (بابا سمح لي) الذي تجلّى بصورةٍ أكثرَ جُرْأةً وثقةً إلى أنْ أصْبحَ (النُّصُّ) ثقافَـةً سائدةً، وسِمَةً من سِماتِ كُلِّ ما هو عربيٌّ في هذا الزّمان.

إنّ أخْشَى مَا نَخْشَاهُ، هو أنْ ننْظُرَ، ذاتَ صَحْوَةٍ، إلى الوطَنِ العربيِّ من أقْصَاهُ إلى أقْصَاهُ، مُرورا بأقْصَاه؛ لنجدَ أنّ الأمّةَ قد أصبحَتْ (نُصّ أمّة)، وأن ّالدّوْلةَ الـعـربيـةَ أصبحتْ (نُصّ دولة) بـِنُصّ اسْتِقْلال، ونـُصّ ديمقراطية، ونُصّ قانون، ونُصّ شَفافيّـة؛لأنّ (بابا سمح لي)، ونُصّ نَـزاهَة، ونُصّ موْقِـف، ونُـصّ كَرامَـة ، ونـُـصّ مَـْوت، ونُـصّ حَـياة .... إلخ .

وعندئذ، سَيُصْبحُ الوجودُ العَربيُّ كُـلّهُ (نُص وُجُود، بنص كيان)؛ لتتأكّـدَ النّظريّـةُ الكونيّة (النُّص نص،والكبير كبير).

فإذا وَصَلْنا إلى تِلكَ الْحَال، فإنّ أمّةَ (النُّص) مَدْعوةٌ لتغييرِ نَشيدِها القَديم؛ ليكونَ أكثرَ تَـطَابُـقا معَ الواقِع، ولتـُصْبحَ كلماتُه التي سَتَصْدَحُ بها الجَماهير :

بــلادُ (الـنُّــصِّ) أوْطَــانـي مِــن الـبَـصْـرةْ .. لِـــتَـطْـوانِ

وَمِــنْ قَـهْــرٍ إلـى جَـهْــلٍ إلـى مَــرْضَـى و(فُــقْــرَانِ)

وَمِـنْ صَرعَى إلى جَـوْعَـى إلَــى مِــلْيـارِ ( طَــفْــرانِ).

بـِلادُ النـُّـصِّ أوْطَــانـي.

فَــلَا دَمٌّ يُـــوَحِّـــدُنـَـا وَلَا هَـــمٌّ يُـــجَـمِّــعُــنَـا

وَإمّــا سَالَ مَـدْمَـعُـنَـا صَرَخْـنا : الشّــرُّ بـَـرّانِـي

بـِلادُ النُّــصِّ أوْطَـانـي.

وَكُـنـّـا شُعْـلَـةً سَطَـعَـتْ لِــمَـنْ ضَـلّــوا وَمَــنْ تَـاهــوا

وَصِرْنا الْيَــومَ (مَلْـطَـشَةً) لِـيـَـلْــعَـبـَها... نِــتِــنْــيَـاهـــو

بِـلادُ الـنُّـصِّ أوْطَـانـي.

شُـعُـوبُ الأرْضِ قَدْ رَبـحَتْ سِوَى (ربْـعـي) بِـخُـسْرانِ

فَــلا عِـلْــمٌ .... وَلَا عَـمَـلٌ (وَلَا كَـانِــيْ وَلَا مَـــانِـيْ).

بِـلادُ النُّـصِّ أوْطَـانـي.

وَصِــرْنـَا مِـثـْـلَـمَا قَـالــوا وَكُــلُّ الْـعِــلْــمِ أمْــثَــالُ

فَـلَا لَـحْـمٌ مَـعَ الطّـبـْـخِ وَلَا جـِلْــدٌ مَــعَ السّلْــخِ

بِـلادُ النُّـصِّ أوْطَـانـي.

ومعَ ذلك،فإنّ الذينَ ما يَـزالونَ يَـقُصُّونَ الْأكْمَام، ويأكلونَ بِـعُقولِ النّاسِ حَلاوةً، فإنّما هُمْ يَقُصُّونَ الْحَلاوةَ عَلى قَدْرِ أسْنانِهم. وهيَ أسْنانٌ لمْ تأكلْها الحَلاوةُ، بَعْد، كَما أكَلَتْ أسْنانَ الذينَ خَـلَـوْا مِنْ قَـبْل.. وللهِ عَـاقِـبَـةُ الأمـــور.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012