أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


من لم يقرأ التاريخ لا يرسم المستقبل- د. هشام أحمد فرارجة

بقلم : د. هشام أحمد فرارجة
27-06-2018 03:23 PM

د. هشام أحمد فرارجة
خطير جدا ما قاله جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الامريكي، دونالد ترامب وصهره، لما يسمى بعملية السلام في الشرق الاوسط، في المقابلة التي أجرتها معه مؤخرا صحيفة القدس الفلسطينية. ورغم أن السياسة الخارجية الامريكية تجاه الشعب الفلسطيني قد اتسمت دائما بالانكار والانتهاك لحقه في تقرير مصيره في وطنه التاريخي، على مدى أكثر من قرن من الزمن، اّلا أن ما ميّز القائمين على هذه السياسة، حتى مجيء ترامب الى الحكم، هو أنهم ينحدرون من خلفيات مؤسساتية تدرجوا فيها، وان بخبرات مدّعاة في معظم الاحيان. ورغم تفاوت حجم وعمق وسعة هذه الخبرات المفترضة، اّلا أنها، في غالبها، بقيت ، الى حد كبير، تخضع لاطار العمل المؤسساتي الامريكي المعروف والمعلن بمناوءته للحق الفلسطيني.
وأما بالنسبة لترامب، فان ما يصبغ عمله، ولا سيما سياسته تجاه فلسطين، هو الارتكاز على الاعتبارات الشخصية، وليس بالضرورة، على معايير المعرفة والدراية والتجربة المهنية. وهذا ينطبق على جميع من يضطلعون بسياسات الشرق الاوسط، وخاصة القضية الفلسطينية، بمن فيهم مستشاره ومبعوثه وسفيره لاسرائيل. ولا أدل على ذلك من تعيين ترامب لصهره، كوشنر مستشارا لشؤون الشرق الاوسط، في الوقت الذي لا يحمل فيه أية مؤهلات لتولّي هذا المنصب، سوى أنه زوج ابنة ترامب، بخلفيته الاسرائيلية المتطرفة جدا، والتي تشكل مرآة لما يفكر ويحلم به نتنياهو نفسه، وأيضا كونه يحمل نفس عقلية صاحب المقاولات، كمن عينه.
فبالنسبة لكوشنر، ان ما يقوم به من عمل يتعلق بالصراع الفلسطيني-الاسرائيلي لا يعكس منطلقات أمريكية مؤسساتية، وانما اعتبارات شخصية عقائدية، بحكم علاقته العضوية الوطيدة مع مؤسسات الاحتلال الاسرائيلي، أيديولجيا، وسياسيا، وماليا، قبل تسلمه منصبه. ولذلك، فان من الطبيعي بمكان أن يعتبر كوشنر منصبه فرصة ذهبية لا تعوّض، وقد لا تتكرر، من أجل وضع معتقداته الصهيونية موضع التنفيذ في أسرع وقت ممكن. ولكن حالة الغرور والصلف التي تغلّف عقليته، كما استمدها من رئيسه، لا يمكن أن تؤهله لقراءة المشهد الفلسطيني، ولو حتى بضبابية ما. وعليه، فان اجتراره لمحاولات التطويع الاقتصادي، كما اتضح من خلال ما قاله في مقابلته مع صحيفة القدس، لا يدلل على عبقرية فذة في طرح الحلول لما استعصى من قضايا على من سبقوه، كما يدعي، وانما يؤشر على حجم المخاطر والمكائد التي يقوم بنصبها للشعب الفلسطيني وقياداته وقواه فيما هو قادم من أيام.
ان تحليلا مضمونيا مقتضبا لما قاله كوشنر يبيّن بما لا يدع مجالا للشك بأنه ينصّب نفسه وصيا على الشعب الفلسطيني، وحتى على طموحاته المستقبلية. يستهل كوشنر مقابلته بالحديث عن انطباعاته بعد جولته في المنطقة ولقائه عددا من القادة العرب. ومن أول المقابلة حتى آخرها، يطغى حديثه الاقتصادي على كل ما قال، وكأنه يريد أن يبدأ المقابلة وينهيها بعرض الاغراءات المالية والاستثمارية، من ناحية، والتلويح بالعقوبات الهائلة في حالة عدم رضوخ الشعب الفلسطيني لاملاءته، من ناحية اخرى. وحتى يوجِد نوعا من التشويق عند من يقرأ ما يقول، فهو لا يفصح عن تفاصيل كثيرة بخصوص ما يريد هو ورئيسه أن يعتبروه صفقة القرن.
وعند حديثه عن ايجاد “حل واقعي للامور التي اختُلِف عليها لعقود”، وان كان ينطق بذلك على لسان القادة العرب، فانما، ولربما من حيث لا يدري، يستحضر تجارب آخرين سبقوه بمحاولاتهم لتضليل الشعب الفلسطيني وثنيه عن تحقيق أهدافه في التحرر الوطني، والاستقلال، وتقرير المصير، والعودة. ويتضح أن كوشنر لم يقرأ تجارب هؤلاء المجربين الفاشلين جيدا، ليتّعظ من اخفاقاتهم. فكم كان ملفتا للانتباه أن شخصية اخرى، جيروم سيغال، الذي يحمل ميزات مشابهة لشخصية كوشنر، الى حد ما، من حيث محاولات التذاكي والخداع، كان قد أجرى مقابلة في مطلع التسعينات من القرن الماضي، أيضا في صحيفة القدس الفلسطينية، والتي حاول فيها تسويق نفسه كالاب الروحي للدولة الفلسطينية، بشرط تذويب منظمة التحرير الفلسطينية، وتحويلها الى آثار تاريخية، كما كان يقول ويكتب دائما. ذلك الاستاذ للفلسفة في جامعة ماريلاند الامريكية، آنئذ، كان صهيونيا عريقا يؤمن بفاعلية الاغراءات الاقتصادية والنفسية والسياسية، حتى وان كانت فارغة من كل مضمون ومحتوى. ورغم أن سيغال قد نجح في تحقيق قدر لا بأس به من التضليل بين بعض الفلسطينيين في بادئ الامر، اّلا أنه سرعان ما تكشفت مقاصده ونواياه، بحيث تحول هو وأفكاره الى آثار تاريخية دون أن يستذكره وأياها أحد.
وكثيرة هي الافكار والمشاريع الامريكية التي طرحت من أجل القفز على الحقوق الوطنية والسياسية والقانونية الفلسطينية بوعود اقتصادية واهية، لا سيما ما رسم من جنات عدن وسينغافورا العرب للفلسطينيين عند التوقيع على اتفاقيات أوسلو. ولو كانت لدى كوشنر الدراية والمعرفة الكافية، لأدرك أنه الاقل أهلية لمحاولة دس السم في العسل للشعب الفلسطيني، كما يحاول أن يفعل.
ولو كان كوشنر قام بالاصغاء لكثيرين من الشعب الفلسطيني، كما يدعي، لما كان له أن يتلفظ بعباراته الملتوية المخادعة عن امكانية توفير المزيد من فرص العمل والحياة الكريمة، بدلا من التأكيد على الحقوق الوطنية والسياسية والقانونية المقرة دوليا.
بالفعل، يبدو أن كوشنر، تماما كما ترامب، يحمل عقلية لم تغادر بدايات القرن الماضي عندما تم طرح “الحقوق المدنية والدينية” “للطوائف غير اليهودية” التي تقيم في فلسطين، كما جاء في وعد بلفور . واذا ما كان يعتبر اسرائيل السيليكون فالي (silicon valley) للتكنلوجيا في المنطقة، فانه يجب أن يعرف ويعترف أنها تفعل ذلك كله كقوة احتلال غير مشروع على الارض الفلسطينية. فمحاولاته لشق الصف الفلسطيني بوضع شرخ بين القيادة والشعب محاولات مكشوفة. ليس طوعا، وانما اقرارا منه بفشله حتى الآن، يعترف كوشنر بأن الشعب الفلسطيني ذكي وخلاق ولديه عمق في التجربة. ولكن يبدو أن هذا الاقرار لم يوصل كوشنر بعد للنتيجة الحتمية المحتومة، والتي مفادها أن محاولاته لن تنطلي على أحد، وأن جهوده ستذهب أدراج الرياح. لن يستجيب الشعب الفلسطيني لرغبات كوشنر ليقع في شراك المحذور.
كان الاحرى بكوشنر أن يتذكر أنه عندما عبّر الرئيس الفلسطيني، السيد محمود عباس عن رفضه لصفقة القرن، فانه كان ينطق باسم كل الشعب الفلسطيني.كل فلسطيني اعتبر نفسه حينها محمود عباس. وبذات المقدار، فان مجرد التفكير بالنيل من أي قائد فلسطيني يقف في وجه تصفية القضية الفلسطينية يشكل نيلا من كل فلسطيني. غريب أن كوشنر لم يسمع مثل هذه البديهيات، ما دام استمع للكثيرين من الشعب الفلسطيني عما يدور في المنطقة.
وتأكيدا منه على أن جوهر صفقة القرن يتمثل في محاولة مقايضة الحقوق الوطنية الفلسطينية باستثمارات اقتصادية، لا يتوانى كوشنر في أن يعلن بأن ادارة ترامب تخطط لرشوة الاردنيين والمصريين أيضا، لكي يساعدوا في تمرير هذه الصفقة. وكأنه صاحب قلب دامع على المعاناة غير المسبوقة في قطاع غزة، يعكف كوشنر، كالكثيرين من الساسة الامريكيين، على الخلط بين السبب والنتيجة. هو يعزو الحالة المزرية التي وصل اليها القطاع لما حفر من أنفاق ولما طُوّر من مقاومة، في الوقت الذي يعرف فيه العالم أجمع أن الاحتلال الاسرائيلي هو مصدر العلات والازمات ومسببها.
وحقيقة، فان شر البلية ما يضحك! فكوشنر يبدو وكأنه المدافع عن حقوق المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة بخصوص دفع الرواتب ودخول السلع وسواه. فهل يستغبي كوشنر شعبا تمرّس طويلا في ادراكه لطبيعة المنطق الامريكي المقلوب رأسا على عقب عندما تطرح القضية الفلسطينية؟ فامّا أن يكون كوشنر يحاول الالتفاف على الامور بألفاظه وعباراته المعسولة المضللة، أو أن يكون حقّا جاهلا في أساسيات الصراع وبديهياته.
وما دام كوشنر لم يقرأ التاريخ جيدا، فهو لن يستطيع أن يكون صانعا للمستقبل أو راسما له. كثيرة هي القيادات الغازية والطامعة التي تحطم كبرياؤها عبر العصور على أعتاب فلسطين وبواباتها. فلا صفقة القرن ولا الالفية كفيلة بحل الصراع الفلسطيني—الاسرائيلي، أو انهائه، دونما اقرار واحقاق كامل بجميع الحقوق الفلسطينية، دون قيد أو شرط، وبشكل غير منقوص.
قد يستغرب القارئ أن يسمع أن كاتب هذه المقالة يشارك كوشنر في حلمه بأن يأتي يوم يقف فيه الشعب الفلسطيني والاسرائيليون صفا واحدا معا في محاربة الارهاب ومواجهته، ولكن شريطة أن يدرك كوشنر أن الاحتلال الاسرائيلي، بمؤسساته وأجهزته وعناصره وممارساته ضد الشعب الفلسطيني، هو أبشع وأخطر أشكال الارهاب التي يجب محاربتها والتخلص منها.
واضح تماما أن كوشنر يبشّر بعرض وجبة تبدو دسمة في ظاهرها، ولكنها ستقتل آكلها لما تحويه من سموم. ولكن الاوضح هو أن هذه الخطة المعروفة بصفقة القرن، والتي سيعلنها ترامب قريبا، على ما يبدو، تحتاج الى استراتيجية عمل فلسطينية حقيقية من أجل التصدي لها، واسقاطها، ومن ثم، تحويلها الى خسارة سياسية مدوية لمطلقها. وذلك ليس بالامر المستحيل.
استاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية.رأي اليوم

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012