أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


تكحيل" الصوابة"!!!!

بقلم : هاشم الزيادات العبادي
03-07-2018 04:14 PM



أتذكّر أنني كنت طفلاً فيما مضى ولفترة وجيزة جداً ، انقطع طمث طفولتي ـ كما غيري من سكان القرى النائية البائسة ـ عند انقطاع تبولي اللارادي ، في تلك اللحظة تصبح رجلا كاملا حتى بدون شعر شوارب او حتى بدون زغب ، وتنتظم فورا كعامل منتج وعملك يدخل ضمن ' الناتج القومي الاجمالي ' ، يبدأ عندما تجر بصعوبة جذع ' سدر' باشواكه خلف محراث والدك بعد ان رش ' سكب الهيشي' ومهمتك هو دمل هذا البذار المتناهي في الصغر بواسطة اشواك السدر ، وتتدرج برجولتك وانتاجك حسب مقاس ' سندلك البلاستيكي' الذي لا تعرف نمرته فلقد اشتراه الاب بعد قياس طول قدمك بواسطة ' خيط مصيص' ولو انه زاد بالقياس بعرض اصبع او اصبعين تحسبا لنموك البطيء وأمله ان لايهترئ السندل قبل سنتين ، التدرج هذا يجب ان يمر على رعي ' السخال المفطومة' ، وربط الحمار والفرس وتعليفهما بتبن وشعير ، وجلب حشيش للبقرة ، وتعشيب الدخان الهيشي الذي جررت السدر عليه سابقا ، ولقاطا من وراء الحصادين ، وشبه حصاد ، وقاطع هيشي بجدارة ، وعامل باطون وهمر وبلدوزر ان تطلب الامر بناء خشة اضافية .

بعد معركة الكرامة ، ونزوح معظم اهالي القرية عنها ، صدر فرمان من حكومة اظنها كانت حكيمة ووزير تربية اظنه كان مستقيما ، بهذا الفرمان منع انتقال الطلاب من مدارسهم خشية افراغ القرى الامامية من سكانها ، فكنّا نحن الاطفال الرجال بمثابة الاوتاد التي تربط السكان لإوطانهم ، مع ذلك وحرصا على الحياة وصراع بقاء داروين فلقد نزحنا الي البراري والي ' بطحا' تحديدا وهي بمحاذاة وادي شعيب ونسيت ان اقول انني من ' عيرا' اخر قرية في الضفة الشرقية من جهة الغرب على حافة الحفرة اياها.

هذا الوضع كان يحتم ان نمشي يوميا اكثر من 14 كم في البراري وسط اشواك ' الزيييّتا' و ' الصفيرا' و ' المرار' مبتعدين عن الطريق المعبد بحصمة بيضاء ذلك ان الطريق المعبد طويل جدا فلقد رسم مخططاته حمار يسير على اربعة ارجل ، هذا الطريق تم حفره وتمهيده بفؤوس اهل القرية وما جاورها يتبعون في حفرهم طريق الدواب والحمير وحتى لو واجهتهم صخرة بحجم سيارة فوكس فاجن فستدور الطريق حولها

واذكر انه مرّ علينا مسؤول من مديرية التربية ومعه كتب كثيرة وقالوا انها مكتبة متنقلة ، فاستعرت كتابين احدهما ' ديوان الياس فرحات' والاخر مترجم واظن اسمه ' عشر قصص خالدة' قصصها تدور حول احداث لخالدين في الادب والموسيقى والرسم ـ وللان ابحث عن ذلك الكتاب ولم اجده في اي مكتبة او انترنت ـ حفظت معظم شعر الياس فرحات وابكتني العشرة قصص ، وانتهى العام الدراسي بمشاويره اليومية ذات ال 28 كم من الاشواك ، لتبدأ مرحلة جديدة من الرجولة فلقد انهيت الصف الخامس الابتدائي واختى الاصغر مني انهت الصف الثالث الابتدائي ووجدنا الاب ينتظرنا بفارغ الصبر ليلقي تكليفه السامي علينا والتنفيذ محدد توقيته وهو فجر اليوم الثاني اما باقي اليوم بين العصر والمغرب فهي استراحة طفولة لم تتم.

الديباجة الطويلة اعلاه لا تعدو عن كونها مقدمة لخاتمة قصيرة هي بيت قصيدي ، المهمة المناطة بنا ان نذهب فجرا انا وشقيقتي الي القرية عيرا حيث جدي وجدتي هناك ، فالانباء تؤكد ان دخان الهيشي في ' عصفور' وعصفور هذه منطقة في حمرة عيرا في وديانها المنحدرة بشدة باتجاه الاغوار أن هذا الدخان ' هاجم على حاله' وهوتعبير عن نضوجه بل وتجاوزه النضوج.

نصل الي بيت جدي ، وجدي عليه رحمه الله له النهار عنده يبدأ بعد منتصف الليل وقبل السحر يأتي صوت المنبه على شاكلة اعلى صوت ممكن يالله قوموا النهار راح يالله ويعلو الصراخ ، ونفرك العيون التي لا زالت تحمل اشواقا للنوم ، أحضر الحمار واضع الحلس والشليف الذي سيوضع به الدخان المقصوص وهنا لا بد ان يشرف بذاته على طقوس الربط والكرب فالعقفة يجب ان توضع باتجاه معين وعلى الجانب اليمين من الحمار وحبل الليف يجب ان يلف بطريقة معينة وعلى مؤخرة الحمار وتغدو جريمة شرف ان كان الحبل تحت الذيل مباشرة وازدراء ان تعدى الحبل مفرق الفخذين ، اقوم بهذه الطقوس وهو يراقب الاخطاء القاتلة ، ولك مش هيك يا ولد ، جدي انا لا اعرف اكثر من هيك ، انت لا تعرف؟ ولك انت تكحّل ' الصوابة' والصوابة هي بيضة القمل وهي بيضاء بيضوية لا تكاد ترى بالعين المجردة ، مع ان الصوت هو تقريع وتعنيف الا انه يحمل بطياته مديحا لا يطاله مديح فأذن ما أذاني تصغي للتعنيف والاخرى تشرئب للمديح فانا حسب خبرته وحكمته قادر على تكحيل الصوابة ، وهكذا اتخيل نفسي امام جلال صوابة جالسة على كرسي وبيدي مكحلة ومرود وتغمز لي بعينها وانا دقيق بتحديد الرمش وابتعد عن حدقة عينها وبؤبؤها ، واتخيلها تختال بعيونها المكحلة السود رغم بياض جسمها

اسير انا وشقيقتي بهذه الظلمة بوديان موحشة لا تخلو من الضباع شعر الرأس يتوقف ان شاهدنا نفس الحجر الاسود في المشنق ، نغفو نضع الشليف فوقنا نتنفس بهدوء خوفا من ان يسمعنا ضاري ، الي ان يبزغ الفجر ونبدأ بقص الدخان ونتغلب بالتحميل ولا بد من ابتكار طرق جديدة للتحميل ، ننهي عصفور خلال اسبوعين وننتقل لدخان سعوديات عيرا وهي في نفس البلد ، وهنا تحدث اكثر من حكاية ولكل حكاية قصة ، اقلها هو عرس عبدالرزاق العواد والاعراس كانت تقاس بعدد اطلاق الاعيرة النارية غير ان هذا العرس ضرب رقما قياسيا فلقد شاركت الفانتوم والسكاي هوك والمدفعية السادسة والتاسعة ومضادات الميشيغان ورباعيات ال 500 في الاحتفال.

كنت صاحب شعر اجعد يلتف على بعضه ليشكل ' كشّة' غريبة ، في تلك الليلة وعند المغرب وبعد اصرار الجدة ان انزل العشاء لجدي الذي ينام عند المسطاح في سعوديات ، واثناء تناوله العشاء وكان الظلام قد حل اغارت احدى الطائرات والقت وابلا من لهب عرفنا لاحقا ان اسمه نابالام احرق كل شيء اخضر كانت القذائف قريبة جدا ومحيطة بنا انتهت الغارة ووجدت نفسي غير قادر على التنفس والادهى انني تخلصت من ' الكشة' فلقد احترقت ورائحة شواطها في انفي

ما اريده متى سنكحل الصوابة؟

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012