|
|
ما هكذا يا سعد تورد الابل
بقلم : محمد عبدالرحمن الرحامنة العبادي
20-02-2019 06:21 AM
روي أن 'سعدا' كان له أخ يدعى 'مالك بن زيد مناة' وكان من حمقى العرب , فزوجه أخوه 'سعد' بابنة مالك بن نويرة, وفي صبيحة اليوم التالي انتظره أخوه 'سعد' ليخرج مع الابل الى المراعي , فهاجت وماجت وتفرقت عليه, فعاد الى أخيه 'مالك' غاضبا وأخذ يناديه يا مالك...ولكن 'مالك' لم يجبه (لأن الرجل عريس ومعذور وما هو فاضي لطراد الابل), فقال له أخوه 'سعد' متمثلا أبياتا من الشعر موجها الكلام لمالك: يظل يوم وردها مزعفرا وهي خناطيل تدوس الأخضرا ، فقالت له زوجته أجبه , فقال لها : بم أجيب؟ فقالت له: قل أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد الابل ..فكان 'سعد' هذا مشتمل بالكساء والنوم , ومتكاسل عن أداء واجبه ولم يحسن القيام على الابل والرفق بها , شأنه كشأن ما نراه اليوم ممن كلفوا بتحمل المسؤولية وقصروا بما أمروا به , بل على العكس خانوا الأمانة وأفسدوا في الأرض والبحر والجو , ولم يحسنوا ما كلفوا به رغم الثقة التي أولاها لهم جلالة الملك والشعب. وها هي الجماهير تهيج وتموج كما نرى اليوم ,كما هاجت تلك الابل نتيجة تقصير من رعاها, على أهل الفساد من القائمين على سير أمور الدولة مطالبين بحقوقهم ومحاكمة كل من يدان . فالاسم (سعد) في مقالي هذا يرمز لكل متقاعس فاسد أهدر أموال الدولة وعاث في الأرض فسادا لا يهمه الا نفسه والبحث عن مصالحه الخاصة دون كلل أو ملل أو حتى محاسبة الضمير, ولا يعامل الناس الا بالقسوة دون أن تأخذه رحمة أو شفقة بهم . فالأردن حقا بلد مبارك وأهلها كرماء ولديهم الطموح للعلو والارتقاء , وعندهم الأنفة دون مغالاة في التكبر المحرم , فلا يحبون أن يقسى عليهم , ولا يحبون أن تضيع حقوقهم , فهم يصبحون كالبحر الهائج عند شعورهم بالظلم , ولا يقبلون المهانة والذل . فلا عجب أن يكون الانسان طموحا وله كل الحق في تحسين أوضاعه الاقتصادية والمادية والمعنوية بانيا ذلك على قدراته ومؤهلاته وكفاءته بشرط أن يتوفر له التكافؤ في الفرص , فلا أحساب ولا أنساب بين أبناء الوطن , فالكل خادم لوطنه وأمته وما يميزه عن غيره الا مدى قوة اخلاصه وقدرة انتاجيته وعطائه ومخافته من الله. فالمعلم له الحق , والطبيب له الحق , والمهندس له الحق والعامل له الحق , وكل منا له الحق لأن الكل يعمل ويشقى في مجال عمله لخدمة وطنه. ولكنني أتساءل هل يرضى الفرد منا بأن يعتصم , وعلى سبيل المثال لا الحصر , الأطباء وهم يعلمون أن لكل منهم ومنا أبا أو أخا أو قريبا ما على سرير الطوارئ أو محتاجا الى عملية لانقاذ حياته ! وهل يرضى أن يعتصم عمال المصانع ليشل اقتصاد البلد وتتوقف مسيرة الحياة المعيشية من مأكل وملبس ومشرب وتدفئة وغيرها من الحاجات الانسانية ! وهل يرضى أن يعتصم المعلمون وأبناؤهم وابناؤنا خارج أسوار المدرسة يلعبون في الشوارع دون رقيب ! ألم يفكروا بالأمر بحكمة وتعقل وتعمق من أجل هذا الوطن الغالي الذي بناه أجدادنا بعرقهم وكدهم وكفاحهم المتواصل شهد له التاريخ حتى وصلنا الى سمعة سر بها الجميع ! وهل أصبحت الناس عرضة للمساومة والتنفيع السياسي ! ان 'سعدا' هذا الذي تخلى عن رعاية ابله , وما أكثرهم في هذه الأيام , فلم يسقها وأهمل في حقها وقصر في رعايتها ايثارا للراحة والاستجمام على المشقة والكد والسهر على أمن الوطن والمواطن , ولا هو أدرك حاجتها وما لبى مطالبها , بل جعلها تسير على غير هدى ودون راع يرعاها , هو الفاسد المقصر الذي لا يحس بأمانة المسؤولية ولا يستحق أن يتولى زمام الأمور في أي موقع من مواقع أجهزة الدولة المختلفة , وعلى القائد تنحيته وابعاده عن أي منصب . فهذا النوع من الطغاة الفاسدين الذين يستخفون بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم واعتمادهم المحاباة والمحاصصة كمعيار في اختيار المناصب القيادية التي تدير شؤون القطاعات المختلفة والتي يعول عليها الأمة لا حاجة للأمة بهم , لأنهم أحدثوا خللا كبيرا في الجهاز الوظيفي و شرخا كبيرا بين أبناء الشعب الواحد . فبادل البعض من هؤلاء القياديين سيد البلاد الذين منحهم الثقة وحملهم الأمانة للعمل الجاد والمخلص للوطن, لتصحيح الخلل في الأداء الحكومي السابق ومختلف الأجهزة الادارية والفنية , بنشر الفساد وممارسة الظلم الذي لا يصب في مصلحة الوطن والمواطن , وعدم احترام مبدأ المساواة علما أن ما يستلمه هؤلاء من مناصب يسيل له لعاب الآخرين المتنافسين عليها . ان ما شدني لكتابة هذا المقال هو ما أشاهده ويشاهده الجميع من كثرة ما يظهر في وسائل اعلامية مختلفة من تحويل لملفات الفساد المتنوعة التي أفقرت الأمة وجعلتها تتحمل المديونية الهائلة التي لا تطيقها , والتي أدهشت الجميع وجعلتهم في حيرة من أمرهم لا يدرون ما يفعلون نتيجة تقصير هذه الفئة الضالة المضللة عن أداء واجبها تاركة الرعية يتخبطون في فقرهم مما شجع الناس على القيام بالاعتصامات والاحتجاجات والمظاهرات لنيل حقوقهم التي اغتصبها الفاسدون مطالبين بالاصلاح لتعديل المسار . وحتى تعبر سفينة الاصلاح أمواج البحر المتلاطمة الى شاطئ الأمان فلا بد من محاسبة كل واحد أهمل وقصر في واجبه وخذل أمته بفساده اللامتناهي , ولا بد أن تحكم هذه السفينة بالأعمال الصالحة واتقانها لكي يضمن القائمون عليها الأجر, فلا يشعرون بالندم مستقبلا ولا يعدون انفسهم من الخاسرين , ومن هنا لابد ان يقبلوا كل منا بسمعونه وعقولهم وبصرهم وحتى بكل جوارحهم لما يحصل اليوم , وأن يتخيل كل منا ماذا سيصبح لهذه الأمة لو غرقت في هذا البحر العميق المظلم داخله ! ما أكثر الناس الذين يخلطون بين الانسانية والعلاقات الشخصية في هذه الأيام , فالعلاقات الشخصية المبنية على المصالح الآنية يجب أن تهمل وتلفظ خارج قواميس الأمة عندما يكون هناك اختلاف في وجهات النظر وخاصة عندما يكون الأمر مرتبطا بحقوق المواطن المظلوم , فلا مساومة على ضياع الحقوق وأكل أموال الناس بوجه غير مشروع , وكما تعلمون فان الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية . فهناك القلة من يعلمون كيف تورد الابل والقلة الذين لا يحسنون صنعا. وعند تأملي لقصة 'سعد' هذا , جال في خاطري مواقف كثيرة لأهل الفساد الذين يتلاعبون بقضايا الأمة ومصالح شعوبها وينهبون ويهدرون أموالها ابتغاء مرضاة أنفسهم وذويهم , وتراهم يعجبك كلامهم وهم ألد الخصام لهذا الشعب الذي منحهم ثقته , وتراهم ينشطون ويسهرون الليالي الطوال ليكيدوا لهذه الأمة من خلال التخطيط لنهب مقدراتها وجعل أهلها فقراء الى الأبد , وخدما لتأمين حاجاتهم وعيالهم وربائبهم وهم يدعون الحب لهذا لشعب , وأن همهم الوحيد هو الحفاظ على أمنهم وحقوقهم , وهكذا هانوا على أنفسهم وسقطوا من عيون أمتهم بعد أن كشفت أوراقهم. فهذا حقا هو حال ما نعيشه اليوم في غياب حكم الله , فيورد الابل من هو ليس أهلا لها . فليتق أي مسؤول الله في السراء والضراء وليحاسب كل نفسه قبل نومه عن المال الذي اكتسبه وفيما أنفقه والظلم الذي أوقعه بالناس , فيرد المظلمة ويعيد الحق الى صاحبه والا فان الزمان لا يرحم والعقاب الالهي آت لا محاله , وملك الموت لا يعصي أمر الله , فلا خير في مسؤول اذا لم يتقبلها. لقد كثرت الأصوات وتعالت في الآونة الأخيرة تنادي بالتغيير والاصلاح ففرح الجميع وقالوا نعم من أجل غد أفضل وتقدم ورقي وحفاظ على ما في القلوب , ولكن وجدنا أن التغيير هو عبارة فجة يدندن حولها الكثير وكل على همه سرى , فهل التغيير يكون باتباع الهوى وزيادة النعرات الطائفية والقبلية والرقص عليها ! فهذا هو حال 'سعد' الذي كان يواجه وضعا صعبا في كيفية ان يورد الابل الغلاظ العطشى لأن ورودها يتطلب منه جهدا كبيرا وحركات كثيرة لا تتناسب مع ما يلبسه من ثياب قد تكشف عورته أثناء قيامه بهذا العمل الشاق , ولهذا يضرب مثلا في كل من يعمل عملا بطريقة غير صائبة ولا مناسبة لأن ما يقوم به ليس هذا هو الوجه الصحيح لعمله حيث وضع في غير موضعه. وهكذا الحال ما نراه اليوم من بعض المسؤولين الذين يختبئون وراء عباءة فلان من الناس حتى لا يكتشف ما فيه من عيب أو خلل . ان من عرف الشعر وأسراره وخاض في غماره وأغواره لا يخفى عليه مشهور اصطلاحاته ومغمورها كالمعارضة والمساجلة والاجازة والاصطراف والاسترخاء والمواردة , ولكن 'سعدا' يزداد بعدا وقد أحسن من قال : يا سعد لو كنت امرءا مسعودا ما ذقت من بعد الوصال صدورا وهكذا نرى أمثال 'سعد' يميلون كل الميل الى الراحة ويحبون أن يشربوا الماء صافيا وليشرب غيرهم كدرا وطينا , وما أشبه حالهم بحال الناطح الذي يناطح الجبل كما قيل : يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل كناطح الصخرة يوما فما أضر بها ولكن أوهن قرنه الوعل فالوطن بقيادة جلالة الملك كالجبل الأشم الذي لا يسهل كسره وافتراسه , وسيحاسب الشعب يوما ما كل من كان أمثال 'سعد' فاسد مقصر . ولكني أتساءل هل يأمل ويتوقع الواحد منا في يوم ما أن يكون الضبع عفيفا ! وأن تكون الضفدع صادقة ! وأن يكون الثعلب بعيدا عن الغدر ! وأن لا يكون الذئب فاتكا ! فأين هؤلاء الذين ينتمون الى 'سعد' من الشفافية ! أمن المعقول أن يظل الفاسدون كابوسا يؤرق الشعب يعيشون على أكتافهم وصدورهم طوال العمر ويطبقون السيطرة عليهم ! سيندم الظلمة يوما ما حيث لا ينفع الندم , فهل يعقل أصحاب الفهم والألباب ! . فعلينا جميعا أن نخلص في العمل لأن الناقد بصير, أما سمعتم بقول رب العزة والعباد في الحديث القدسي 'أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل العمل يريد الأجر من غيري فهو لغيري' ! فلنحذر أن نقع في الهلاك ونكون بعدها من النادمين , ولنطلق الدنيا بكل مغرياتها, ولنحذر أن نفتن بالدنيا وأن ننقاد لزهرتها , ولنكن مع الذين فطنوا لحالها والتزموا بأوامر خالقها وباريها وكما قال لامام الشافعي ر حمه الله: إنَّ للَّهِ عِبَاداً فُطَنَا تَرَكُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا جعَلُوهَا لُجَّة ً وَاتَّخَذوا صالحَ الأعمالِ فيها سفنا...فلا بد من اتخاذ الحكمة سبيلا لنا , واستخدام العقل وعدم التسرع في اتخاذ القرارات واتباع الشياطين الذين يغرون الانسان بجمع المال الحرام والتقصير في العمل, وعلينا بالجد المتواصل والتفاني في العمل الخالص لوجه الله , فلو كل منا كان مثل 'سعد' لغرقت سفينتنا وغرقنا معها جميعا , ولهذا كان واجبا وحقا علينا أن نحفظ الوطن وحق المواطن.
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن
علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
|
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012
|
|