أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


تعريب قيادة الجيش العربي الاردني ... بقلم : الدكتور محمد المناصير

بقلم : د.محمد المناصير
01-03-2019 07:06 PM

كان تعريب قيادة الجيش العربي الاردني قرارا سياديا اتخذه الملك الحسين بن طلال بشكل فاجأ العالم وخاصة بريطانيا ، فقد كان القرار نموذجا حيا للاستقلال الوطني التام والاعتماد على الذات في احلك الظروف التي كانت تمر بها الامتان العربية والاسلامية والظروف السياسية التي كان يمر بها الاردن ، وفترة التكتلات والاحلاف وحرب الاقطاب الدولية وفترة العدوان الثلاثي على مصر .
ففي الاول من اذار عام 1956 قام الحسين بطرد الجنرال كلوب باشا قائد الجيش العربي الذي تولى قيادته في عام 1930، كما قام الحسين بإعفاء كافة الضباط الإنجليز من مهاهم التي منحت لهم في اتفاقية عام 1946وهو قرار جريء اتخذه الملك الشاب الحسين بن طلال بالتنسيق مع حركة الضباط الأحرار الأردنيين في ظل ظروف سياسية دقيقة كانت تعيشها المنطقة .
لقد كان الاردن ضمن مملكة سورية برئاسة الملك فيصل الاول بعد ان حررتها قوات الثورة العربية الكبرى من الحكم العثماني بعد ان عاث حزب الاتحاد والترقي ويهود الدونمة فسادا في الدولة العثمانية وتحويل السلطنة إلى ملكية دستورية وتقليص سلطات السلطان آنذاك عبد الحميد الثاني في انقلاب 27 أبريل 1909. فوُضع السلطان عبد الحميد رهن الإقامة الجبريَّة حتّى وفاته في 10 فبراير 1918م. اذ خلفه أخوه السلطان محمد الخامس. ونفي السلطان عبد الحميد إلى مدينة سالونيك ووضع تحت الحراسة المشددة .
وقرر حزب الاتحاد والترقي والحكام الجدد تتريك البلاد العربية ، مما جعل العرب يستنجدون بالشريف الحسين بن علي الذي كان يشاطرهم نفس المشاعر بعد تحويل السلطنة الى مملكة دستورية واستلام سدة الحكم المباشر وتعليق العرب على اعواد المشانق في دمشق وبيروت ممن يملكون الحس القومي العربي والحمية الاسلامية وتنبه الحلفاء لهذه المسألة فتواصلوا مع الشريف الحسين لاكتساب الشرعية لجعل العرب يقومون بثورة ضد الحكم التركي الجديد ووعد الحلفاء العرب وعلى راسهم الشريف الحسين بن علي بتوحيد البلاد العربية وتحقيق استقلالها في المشرق العربي بقيادة الشريف حسين .
وكان الاتحاديون قد عارضوا اسناد الشرافة للحسين بن علي عام 1908 وحاولوا اسنادها للشريف علي حيدر لولا دعم السلطان للشريف حسين والصدر الاعظم . فقد كتب السلطان للشريف كتابا قال فيه : ' اسأل الله ان يجازي من حال بيني وبينك والاستفادة من مواهبك الهاشمية وانني لست بالأمين على الدولة والملك من هذه الفئة المتقلبة ' .
وقد ضيق الحلفاء على الشريف حسين بفصل المدينة المنورة عن ولاية الحجاز وفرضوا الضرائب والتجنيد الاجباري على اهل الحجاز . وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الاولى على دول المحور بما فيها تركيا غدر الحلفاء بالشريف حسين بن علي وقسموا الشرق العربي وخاصة بلاد الشام والعراق وفلسطين لتصبح الاردن تحت النفوذ البريطاني غير المباشر بعد ان احتلت القوات الفرنسية سورية وهزمت قوات الملك فيصل بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة فخرج الاردن من المملكة السورية لتدخل فترة الحكومات المحلية التي اسسها الاردنيون في الكرك والسلط واربد في ظل غياب السلطة المركزية ، واستغل الانجليز الفرصة فارسلوا ضباطا لمساعدة اهالي شرق الاردن مع تكريس الفرقة .
ولما جاء الامير عبد الله بن الحسين الى بلاد الشام لاسترجاع سورية من السيطرة الفرنسية لم تسمح له بريطانيا بوصول سورية وطلبت منه اما العودة الى الحجاز او البقاء في شرق الاردن التي تتبع للنفوذ البريطاني ، واملا في اعادة توحيد سورية اقام الامير عبد الله بن الحسين امارة في شرقي الاردن اطلق عليها امارة الشرق العربي عام 1921 وفي عام 1923 استقلت الامارة باسم امارة شرق الاردن ، وفي عام 1946 وبعد نضال طويل لنيل الاستقلال التام تمكنت الامارة من انتزاع استقلالها في عام 1946 فأصبحت مملكة واصبح الامير عبد الله ملكا.
وبعد الاستقلال عام 1946، وقعت اتفاقية مع الأردن تقضي بسيطرة الإنجليز على المناصب العليا في الجيش وفي خمسينيات القرن العشرين زاد التوتر بين العاهل الأردني الحسين بن طلال وكلوب باشا بالإضافة إلى زيادة الكراهية للوجود الأجنبي في البلاد.
وفي فجر يوم الأول من آذار، اتخذ الملك حسين قراره بتعريب قيادة الجيش العربي من الوجود الأجنبي وأصدر أمره إلى حكومة سمير الرفاعي لتنفيذ مغادرة كلوب باشا البلاد فوراً. ومنذ ذلك الحين تسلم الضباط الأردنيون كافة مواقع الجيش العربي الأردني.
لم يكن قرار الملك الحسين بتعريب قيادة الجيش العربي الاردني في الاول من اذار من عام 1956 من فراغ وليس وليد لحظته مطلقا، ولكن تم بعد تطورات وظروف كان الاردن ليس عضوا في المجتمع الدولي وغير معترف به كدولة لها اعتبارها الدولي، رغم اعلان استقلال الدولة في 25 ايار 1946م، ذلك ان الاردن كان يصطدم بحق النقض الفيتو الذي رفعه الاتحاد السوفييتي في وجه الاردن كلما تقدم بطلب الانضمام الى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بسبب وجود قانون محاربة الشيوعية في الاردن .اضافة الى اسباب عربية تكمن في طبيعة العلاقات غير المريحة مع الشقيقتين سورية ومصر المتحالفتين مع روسيا ومحاولة الدولتين دائما النيل من الاردن والتخطيط لقلب نظام الحكم فيه . فقام الحسين بالتعاون بشكل خفي مع حركة الضباط الاحرار في الجيش الاردني التي كانت تطالب بتطهير الجيش من الاجانب، ورافق ذلك اجتماعات سورية مصرية اردنية قادها الحسين للتخلص من القيادة الاجنبية للجيش العقبة الوحيدة في تطوير العلاقات العربية - العربية، وتم وضع خطة لتعويض الاردن عن المساعدات التي كان يتلقاها من بريطانيا والتي ستنقطع حتما مع اعلان قرار التعريب، واعرب الاردن عن نيته لتقديم طلب الانضمام للجمعية العامة وابدت مصر استعدادها للوساطة لدى روسيا لتفادي اللجوء لحق النقض ضد الاردن، وقبلت الجمعية العامة الاردن كعضو كامل فيها وفي منظماتها بتاريخ 15 كانون الاول 1955، وسار الاردن قدما بالوفاء بما التزم به ليعلن الملك الحسين طيب الله ثراه قرار التعريب في الاول من اذار 1956.
وهكذا نجح الحسين بوضع الاردن على خارطة العالم كدولة كاملة العضوية في المجتمع الدولي، وتحدث العالم الحر عن شجاعة الحسين وبجرأة هذا القرار، وبادرت الولايات المتحدة الاميركية لاستغلال الفرصة بتقديم مساعدات عاجلة للأردن بعد ان احجمت الدول العربية عن الالتزام بتعهداتها للأردن باستثناء السعودية فقدمت اميركا المساعدات بهدف منع التغلغل الشيوعي الذي كانت تريده مصر وسورية ، ودخل الاردن في مرحلة اضطراب سياسي وعسكري بعد سلسلة احداث دراماتيكية ودخل الاردن مرحلة تناقضات صعبة في علاقاته مع سورية ومصر والعراق استمرت حتى الى قبل ايام من قمة القاهرة الطارئة بين الحسين وعبد الناصر ونور الدين الاتاسي التي نجم عنها الاتفاق العسكري الذي سبق حرب حزيران 1967.
وخاطب الحسين جنود الجيش العربي البواسل في يوم التعريب حيث قال: ' أيها الضباط والجنود البواسل أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم ضباطا وحرساً وجنوداً ، وبعد فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمةً لبلدنا ووطننا أن نجري بعضاً من الإجراءات الضرورية في مناصب الجيش فنفذناها متكلين على الله العلي القدير، ومتوخين مصلحة أُمتنا وإعلاء كلمتها وإنني آمل فيكم كما هو عهدي بكم، النظام والطاعة ...' .
ويذكر الحسين في كتاب ' مهنتي كملك ' حول هذه المناسبة فيقول: تعود اولى تجاربي كملك للأردن إلى عام 1956 فإنهاء خدمات الجنرال كلوب بعد خدمة في الأردن بلغت ستة وعشرين عاماً كانت حدثاً هاماً جداً وينبغي أن يكون المرء أردنياً او أن يعرف مشاكل بلاده معرفة عميقة ليتسنى له ادراك اهمية هذا الحدث اذ توجد دوماً في تاريخ البلدان الصغيرة لحظات حاسمة يتوجب على المرء فيها أن يكبح جماح عواطفه الشخصية وأن يطلق العنان للموضوعية، وكثير من الناس من اخذ علي بمرارة هذا الحل المتطرف، ولقد أوْل موقفي تأويلاً خاطئاً جداً على انه اهانة متعمدة اصيب بها الحلفاء الغربيون وهذا التأويل ما هو الا محض اختلاق .
اما عن الخطوات العملية لتنفيذ قرار التعريب فقد وصل الحسين صباح يوم 29 شباط 1956 إلى الديوان الملكي في ساعة مبكرة مرتدياً بزته العسكرية وفي عينيه تأهب وتحفز وتحدٍ للزمن ليلتقي يومها رئيس الأركان كلوب باشا وبدأ جلالته حديثه مستوضحاً منه عن رأيه في تعريب قيادة الجيش العربي الأردني وكان رد ( كلوب) أن هذه المسألة ليست بالسهولة. ويقول جلالته في كتابه مهنتي كملك: ولما كنت خادماً للشعب فقد كان علي أن أعطي الأردنيين مزيداً من المسؤوليات وكان واجبي ايضاً أن أُقوي ثقتهم بأنفسهم وان أرسخ في أذهانهم روح الكرامة والكبرياء القومي لتعزز قناعتهم بمستقبل الأردن وبدوره ازاء الوطن العربي الكبير، فالظروف والشروط كانت ملائمة لإعطائهم مكاناً أكثر أهمية في تدبير وإدارة شؤون بلادهم لا سيما الجيش ، ولكن على الرغم من أن كلوب باشا كان قائداً عاماً للجيش فلم يكن بمقدوره أن ينسى اخلاصه وولاءه لإنجلترا وهذا يفسر سيطرة لندن فيما يختص بشؤوننا العسكرية وقد طلبت مراراً من الإنجليز ان يدربوا مزيداً من الضباط الأردنيين القادرين على الارتقاء إلى الرتب العليا وكان البريطانيون يتجاهلون مطالبي.
وقد أثارت هذه التراكمات حفيظة جلالة الملك وزادت من إصراره على إنهاء خدمات القيادة الإنجليزية بأي شكل وأن هذا الأمر يجب أن يتحقق مهما كلف الثمن وبأقرب وقت وبلا تراجع ، فجلالته كان على علم تام بما تخطط له القيادة الانجليزية حول التخلي عن هذا الأمر للضباط الأردنيين ومتى يمكن أن تفكر بهذا الموضوع أو تطرحه للنقاش .
وجاء رد الإنجليز بان سلاح الهندسة الملكي في الجيش العربي سوف لن يستطيع أن يتولى قيادته ضابط عربي حتى عام 1985 وهذا هو رد كلوب حين عبر بالقول أن المسألة ليست بالسهولة. عندها ابتسم جلالته رحمه الله ابتسامة سرعان ما زالت عن شفتيه وأخذ يسأل عن احتياطي الذخائر لدى الجيش ومدى كفايته اذا ما نشبت الحرب بين الأردن وإسرائيل فجاءت إجابات كلوب باشا غير واضحة وان الاحتياطي قليل ومدة الاعتماد عليه ضعيفة. وبقي السؤال يدور في خلد جلالة الملك وتتراكم فوقه أسئلة كثيرة وكلها تقود إلى وضوح الخطوة التي يجب الإقدام عليها , وفي ذلك يقول جلالته: كنت أرى انه علينا في حالة نشوب حرب أن نؤمن دفاعنا عن طول الحدود الاسرائيلية الأردنية وأن نصمد مهما كلف الأمر حتى الموت.. لقد كنت من انصار الرد الفوري وعبثا أبنت وشرحت كل ذلك لكلوب . فقد كان الجنرال كلوب يواصل النصح بمراعاة جانب الحكمة والحذر وكان يحبّذ تراجع قواتنا إلى الضفة الشرقية في حالة قيام هجوم اسرائيلي... وهذا يعني احتلالاً اسرائيلياً ... كان ذلك غير معقول، لقد ناقشنا أنا وكلوب هذه النظريات الدفاعية خاصة واننا علمنا بأن الذخائر كانت تنقصنا وقلت عندئذ لكلوب لماذا لا نستطيع ان نحصل على مزيد من كميات السلاح.
لقد كان جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه يعرف ان جواب كلوب باشا سوف يكون متسماً بالحيرة والارتباك والضيق لأنه سبق له أن طلب ذخيرة من لندن وتعللت بضرورة توازن القوى. ويزداد انفعال جلالته من هذا الموقف، حيث حاول مراراً وتكراراً أن يسلح الأردن بقوة جوية خاصة ، وكما يقول الحسين : ' اذ لا يعقل أن نكون تابعين لبلد اجنبي من اجل تأمين الدفاع الجوي لسمائنا ضد عدو كإسرائيل مجهزة بقوة عسكرية جوية هامة إن وضعاً كهذا لا معنى له فما دام الجنرال كلوب عاجزاً عن تغيير الواقع فانه سيشجع الضباط العرب والبريطانيين على قبول فكرة التخلي عن جزء من التراب القومي في حالة الهجوم لقد كان يؤكد اكثر من مرة في المحاضرات التي كان يلقيها على الضباط بأن إسرائيل بحكم أنها أقوى من العرب فإن من الوهم أن نقاتل على الحدود '.
وبادر جلالة الملك طيب الله ثراه رئيس الأركان بسؤال أخير عن رأيه في فصل الشرطة والدرك عن الجيش، فجاء رد كلوب باستحالة ذلك وإن هذا يتعارض مع الصالح العام. ولكن الحسين رحمه الله كان ينظر الى موضوع التعريب بغير ما يفكر به الجنرال كلوب اذ كان الحسين يتطلع الى التعريب أنه الخطوة التي لا بد منها مهما كان الثمن ، فلا يعقل بأي شكل أن ينعم وطن بكامل استقلاله وقيادة جيشه الذي يحمي الاستقلال ويصونه بيد غير أبنائه، فأبناؤه يدركون أن بناء الأوطان وحريتها تهون دونه المهج والأرواح. مرت لحظات صمت وجلالة الملك الحسين مقطب الجبين وفي داخله أشياء وأشياء... بعدها عبَّر رئيس الأركان عن نيته إخراج عدد من الضباط من صفوف الجيش... ووقف جلالته فجأة اشعاراً منه بانتهاء المقابلة ثم قال: على كل حال سنتحدث في هذا الموضوع مرة قادمة.
أجوبة خطيرة أرادها الحسين أن تكون الأخيرة وفي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم اتصل برئيس الديوان الملكي وأمره ان يذهب لمقابلة رئيس الوزراء وينقل اليه رغبة جلالته في فصل الشرطة والدرك عن الجيش واتخاذ الاجراءات اللازمة لتحقيق ذلك. وعقد الحسين رحمه الله العزم تجاه بريطانيا التي كانت تريد أن تتصرف بمقدرات الأردن حسب ميولها ونزعاتها، فكان القرار وهو الأمر الذي فكر فيه جلالة المغفور له منذ كان طالباً وقرر ان يضع حداً لكلوب وتدخلاته بإنهاء خدماته، وكان يفكر ملياً أن عليه أن يعطي الأردنيين مزيداً من المسؤوليات لكي يقوي ثقتهم بأنفسهم وأن يرسخ في أذهانهم روح الكرامة والكبرياء القومي لتعزيز قناعتهم بمستقبل الأردن وبدورهم ازاء الوطن العربي الكبير.
ومع صباح يوم الخميس الأول من آذار عام 1956 أصدر جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه أمره لرئيس الديوان الملكي ورغبته في عقد جلسة لمجلس الوزراء يرأسها بنفسه ونفذ الأمر الملكي في الحال لتنتهي جلسة مجلس الوزراء بإصدار قرار يحمل الرقم (198) حيث تقرر فيه إنهاء خدمة الفريق كلوب من منصب رئاسة أركان حرب الجيش العربي الأردني وترفيع الزعيم راضي حسن عناب من أبناء الجيش العربي الأردني لرتبة أمير لواء وتعيينه في منصب رئاسة أركان حرب الجيش العربي الأردني.
وهكذا ابلغ الحسين قراره لمجلس الوزراء حيث اخبر مجلس الوزراء قراره بإنهاء خدمات الفريق كلوب وتسفيره إلى بلاده حالاً، وعند الساعة الثانية والنصف من ظهر يوم الأول من آذار عام 1956، وتنفيذاً للرغبة الملكية السامية، حمل رئيس الديوان الملكي القرار إلى جلالته فوشحه بالتوقيع الملكي السامي حيث نص القرار على ما يلي : ' بناءً على الرغبة الملكية السامية قرر مجلس الوزراء ما يلي: أولاً: إنهاء خدمة الفريق كلوب من منصب رئاسة أركان الجيش العربي الأردني. ثانياً: ترفيع الزعيم راضي عناب إلى رتبة لواء وتعيينه رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني. ثالثاً: إنهاء خدمات القائمقام باترك كوجهل مدير الاستخبارات. رابعاً: إنهاء خدمات الزعيم هاتون مدير العمليات العسكرية.
وفي يوم الجمعة الثاني من آذار وبناءً على أوامر جلالة المغفور له الملك الحسين رحمه الله، غادر الفريق كلوب الأردن من مطار عمان. ويقول جلالة المغفور له في رده على رسالة رئيس الوزراء البريطاني التي جاء فيها أن الملك يتحمل المسؤولية ونتائج هذا القرار: 'أنا أقدمت على هذا العمل وأعرف نتائجه وهذا حقي وأنا مارست هذا الحق ولا رجعة فيه مطلقاً'.
وفي الساعة السابعة والنصف نقلت الإذاعة الأردنية من مدينة القدس، القرار الذي لم يكن يتوقعه أو يخطر على بال أحد، وحمل الأثير صوت الراحل العظيم يزف البشرى للشعب الأردني بنبراته القوية الواضحة قائلا: ' أيها الضباط والجنود البواسل، أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم، ضباطاً وحرساً وجنوداً وبعد، فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمة لبلدنا ووطننا، أن نجري بعضاً من الإجراءات الضرورية في مناصب الجيش، فنفذناها متكلين على الله العلي القدير، ومتوخين مصلحة أمتنا وإعلاء كلمتها، وإنني آمل منكم كما هو عهدي بكم النظام والطاعة، وأنت أيها الشعب الوفي هنيئاً لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه في سبيل الوطن، ونذر روحه لدفع العاديات عنك مستمداً من تاريخنا، روح التضحية والفداء، مترسماً نهج الأُلى في جعل كلمة الله هي العليا، إن ينصركم الله فلا غالب لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته'.
ووجه جلالة الراحل العظيم بصفته قائداً أعلى للقوات المسلحة اهتمامه ورعايته لبناء الجيش الذي أسسه جده الملك المؤسس، ليجدد جيش الثورة العربية الكبرى، ويجعله قوياً في الإرادة قادراً على تحمل أعباء مسؤولياته الوطنية والقومية الشاملة، إعداداً وتدريباً وتسليحا، وتأهيله وفق أحدث الأساليب العسكرية، وكان يرحمه الله عندما أقدم على هذه الخطوة الشجاعة الجريئة يتمثل وصية جده الملك المؤسس المغفور له عبد الله بن الحسين حيث قال له: 'تذكر يا بُني أن أهم شيء في الحياة هو أن يكون لدى المرء العزم والتصميم على العمل، وأن يكون مستعداً لأن يعطي خير ما في نفسه على الرغم من العوائق، ومهما كانت الصعوبات، وعندها فقط تستطيع أن تعيش مطمئن النفس مع الله ومع ضميرك'.
لقد كان لقرار التعريب أبعاد سياسية وعسكرية كثيرة، نجملها في هذا المقام على سبيل المثال لا الحصر: 1. استكمال القرار السيادي العسكري. حيث شكل إقصاء الجنرال كلوب وتسليم قيادة الجيش إلى ضابط عربي أردني، هو اللواء راضي عناب، استكمالاً للقرار السيادي الأردني، واستكمالا لمعنى الاستقلال الحقيقي للمملكة الأردنية الهاشمية، الذي تم في الخامس والعشرين من أيار لعام 1946، حيث مثّل فصلا من فصول كتاب المجد الأردني، وكان إلغاء المعاهدة البريطانية عام 1957 فصلاً آخر من فصولها المشرفة . 2. التعاون العسكري. حيث تم عقد اتفاقيات للتعاون العسكري المشترك مع الدول العربية الشقيقة، مثل مصر وسورية والعراق ولبنان والمملكة العربية السعودية، وتم تقديم معونة سنوية مقدارها (36) مليون دولار بدلاً من المعونة البريطانية، وذلك بموجب اتفاقية التضامن العربي التي وقعت في مصر في 19 كانون الثاني 1957. 3. إنهاء الوجود العسكري الأجنبي. حيث شكل قرار جلالته بتعريب قيادة الجيش العربي بداية لنهاية النفوذ البريطاني في الأردن، وجلاء الوجود العسكري البريطاني عن الأردن نهائياً. 4. الجيش العربي جيش للوطن والأمة.
بعد قرار تعريب قيادة الجيش العربي وحرية القرار العسكري الأردني، أصبح الجيش العربي الأردني جيشاً للوطن والأمة، ودليل ذلك وقوفه مع الأشقاء العرب في أزماتهم كوقوفه إلى جانب الشقيقة مصر أثناء العدوان الثلاثي عليها عام 1956م، وكذلك مواقفه المشرفة تجاه الأشقاء العرب في كل بقاع الوطن العربي الكبير في المحن والكوارث التي تعرضوا لها، واستطاع الأردن التعامل مع الأحداث الجسام التي كانت تعصف بالمنطقة وتجاوزها بسلام. 5. تعبئة الموارد البشرية. حيث قام جلالة الملك الحسين بإصدار توجيهاته لتطبيق تجربة فريدة من نوعها عام 1962م بتشكيل معسكرات لطلاب المدارس الثانوية خلال العطل الصيفية، بإشراف وزارة الدفاع والتربية والتعليم والداخلية (معسكرات الحسين)، وذلك لتدريب الطلاب فيها على الحركات العسكرية، واستعمال الأسلحة الخفيفة، وقدمت القوات المسلحة المدربين من الضباط وضباط الصف، وقد اشترك في أول معسكرات أقيمت في عام 1962م (3920) طالباً قُسِّموا على (12) معسكراً . 6. فصل الشرطة والدرك عن الجيش العربي. حيث صدر قانون بفصل الشرطة والدرك عن الجيش العربي اعتباراً من 14 تموز، وإنشاء مديرية للأمن العام وجعلها مسؤولة عن رجال الشرطة والدرك، وعُيِّن الزعيم بهجت طباره مديراً للأمن العام.
ومجمل القول أن قرار تعريب قيادة الجيش العربي الذي اتخذه المغفور له الملك الحسين في الأول من آذار 1956، كان قراراً استراتيجياً على المستويين السياسي والعسكري، وكان جريئاً وهاماً على الصعيدين الوطني والقومي وكذلك الدولي، ونابعاً من فكر جلالة الملك الحسين عليه رحمة الله، ويهدف إلى النهوض بالأمة وقواتها المسلحة، وخدمة قضايا الأمة، وقد جنى الجيش العربي ثمار هذا القرار، وتمكن بتوجيهات من جلالة الملك الحسين وإشرافه ومتابعته من الاعتماد على نفسه قبل الوقت الذي حدده الانجليز، وعلى رأسهم الجنرال كلوب بثلاثين عاماً، وتبوأت القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي مكانة عربية ودولية متميزة، وقامت بواجباتها تجاه قضايا أمتها ووطنها، وساندها في تحقيق ذلك رجولة وتضحيات أبنائها وحكمة وشجاعة قيادتها. تداعيات قرار تعريب الجيش العربي على المستوى الدولي في بريطانيا جاء ذلك على لسان جيمس لنت في كتابه ' الحسين حياة ومسيرة ' حيث يقول: 'كانت ردة الفعل في بريطانيا على طرد كلوب صاخبة وهو ما أدهش الحسين الذي مارس حقاً من حقوقه الدستورية '. وكتبت جريدة (نيوز كرونيكل) عن هذا الحدث واعتبرته فشلاً نتيجة تجاهل بريطانيا لطموح شعوب الشرق الأوسط. وفي الولايات المتحدة قال الرئيس الأميركي آيزنهاور لجلالة الملك رحمه الله ' إنك بطل والبطولة ليست ملك شعبك بل هي للعالم'. وفي الاتحاد السوفيتي وصفت جريدة البرافدا السوفيتية نبأ عزل كلوب بأنه 'انتصار كبير للشعب الأردني في نضاله من أجل التحرر من السيطرة الأجنبية'. وكتبت جريدة الشعب الصينية بأنه 'بمثابة نصر جديد للأردنيين في نضالهم ضد ميثاق بغداد وان إقصاء كلوب كان أمراً لا بد منه ليتاح للأردن الدفاع عن سيادته'.
أما على المستوى العربي فقد جاءت ردود الفعل مؤيدة ومشجعة تحمل الفرح والسرور بقرار الملك الشاب الذي حير العالم كله، حيث كتبت جريدة الجمهورية المصرية يوم 4 آذار 1956 مقالاً تحت عنوان: (سلمت يداك يا حسين) جاء فيه ' لقد خفقت قلوب العرب جميعاً لقرارك بالأمس يا حسين، الذي بعث القوة في وطن العرب من مشرقه إلى مغربه، فليس سراً أن كل عربي كان يتأذى من هذا الوضع الذي يجعل قيادة جيش عربي في يد غير عربي، في الوقت الذي نؤمن فيه جميعاً نحن العرب بإخلاص هذا الجيش وثقافته في عروبته، ونؤمن أيضاً بكفاءته وغيرته، لقد أرضى قرارك يا حسين كبرياء العرب وطموحاتهم، وحقق آمالهم وأمانيهم، إن خمسة وأربعين مليون عربي يشدون على يديك يا حسين عملاً وقولاً.. فسر على بركة الله أيها الملك وسيؤيدك الله بنصره'. أما جريدة المنار، فقد نشرت في عددها الصادر يوم 6 آذار 1956 مقالاً تحت عنوان (حول إقالة كلوب) قالت فيه: 'اهتزت دنيا العروبة والإسلام لنبأ إقالة الجنرال كلوب رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني وصفقت كثيراً فرحاً وسروراً رغم تخرص المتخرصين وتقوّل الأفاكين'.
لقد فتح قرار تعريب قيادة الجيش العربي الباب على مصراعيه لسلسلة من الأحداث المهمة جرت بنفس العام، وكأن العرب كانوا ينتظرون مثل هذا القرار الجبار بفارغ الصبر منها: 1. في الثاني عشر من آذار 1956، بعث رؤساء دول السعودية ومصر وسورية رسالة مشتركة الى جلالة الملك الحسين، يؤكدون فيها استعداد دولهم تقديم معونة مادية للأردن بدلاً من المعونة البريطانية. 2. في أوائل شهر نيسان 1956، زار جلالته دمشق تلبية لدعوة من الرئيس شكري القوتلي، فاستقبل استقبالاً منقطع النظير في سورية، وتضمن البيان المشترك بعد المحادثات اتفاق سورية والأردن على تنسيق خطط الدفاع والتعاون العسكري بينهما وعلى عدم الانضمام إلى أية أحلاف. 3. قام الرئيس شكري القوتلي بزيارة إلى الأردن في أواخر شهر أيار 1956، رداً على زيارة جلالته صدر على أثرها بيان مشترك جاء فيه: 'إقرار اتفاقية عسكرية لمواجهة الخطر الصهيوني ورفع درجة التمثيل الدبلوماسي معها إلى رتبة سفير، وإقرار مبادئ الوحدة الاقتصادية والجمركية بين البلدين.. '. 4. قام جلالته بإيفاد البعثات العسكرية الى جميع البلاد العربية المجاورة، سعياً منه إلى عقد اتفاقيات لتوثيق التعاون العسكري بين الأردن وتلك الدول وكانت نتيجة هذه المساعي عقد اتفاقيات عسكرية مع لبنان والعراق، السعودية ومصر.
وهكذا كان قرار الحسين هذا، خطوة على المسار الصحيح لاستقلال الأردن من النفوذ الأجنبي، ونقطة تحول هامة في تاريخ العرب الحديث، ودافعاً قوياً للأردن للدفاع عن استقلاله وكرامته وحريته، وقد أتاح هذا القرار للأردن بسط سيادته السياسية على كل إقليم الدولة ومؤسساتها، وأعاد الهيبة للجيش والأمة بامتلاك حريتها وصنع قرارها بعيداً عن التهديدات والضغوطات التي كانت تمارس بحقها، وأعطى الفرصة لأبناء الوطن لتولي المسؤولية والتدرب على القيادة العسكرية وخلق القادة من أبناء الأردن. كما أدت خطوة تعريب قيادة الجيش، إلى توظيف كافة قدرات الجيش وإمكانياته لخدمة أمن الوطن، وصون حقوقه والمحافظة على ترابه ومكتسباته، كما مكن القرار صانعه جلالة المغفور له الملك الحسين من بناء مؤسسة عسكرية حديثة، امتازت بالانضباط ومشاركة القوات المسلحة- الجيش العربي بالخطط التنموية وبناء الوطن، والمشاركة الفاعلة لجيشه في رفد مسيرة البناء والعطاء. هذا الجيش الذي ساهم في استقرار الكثير من الدول العربية، وتمكن من بناء الروابط القوية مع جيوش المنطقة من خلال تبادل الخبرات، وفتح مدارس التدريب لكافة الصنوف والمعاهد العسكرية العليا التي أهلت ضباط وأفراد هذا الجيش ليكونوا في الطليعة كما أرادهم الحسين يرحمه الله.
واليوم وبعد مضي ثلاثة وستين عاما على هذا القرار التاريخي، يمضي مليكنا المفدى جلالة الملك عبدالله الثاني على خطى الملك الباني يرحمه الله، في تأهيل وتدريب وتسليح القوات المسلحة، حتى غدت نموذجا في المنطقة والعالم، ومثالاً بين جيوش العالم في احترافيتها وانضباطها وقوتها، تحمل رسالة الثورة العربية الكبرى، وتدفع العاديات عن وطننا وتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه المساس بأمنها وأمانها، وسكن هذا الجيش في قلوب الأردنيين وكل أرض حل عليها وارتحل، يرسم الابتسامة على وجوه من شردتهم الكوارث والحروب، وقدم مواكب الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنالوا إحدى الحسنيين، ورووا بنجيع دمائهم الزكية أرض فلسطين، وها هم اليوم يسجلون للعرب مسلمين ومسيحيين صدق قوميتهم وعروبتهم ورسالة إسلامهم السمحة، في التعامل مع الأشقاء الذين ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت من تشريد وتدمير وقتل ودماء تراق وبيوت تتهدم، فكانوا الأيادي التي تمتد لنصرة إخوة لهم، بعدت المسافات بينهم أم قربت، وكانوا البواسل الحاملين لنبض الوطن في قلوبهم وعشقه المتجذر في وجدانهم. ' .

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012