أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


الاستشراق الجديد

بقلم : د . فيصل الغويين
22-12-2019 07:08 PM

تمر الأمة العربية والاسلامية بمرحلة حرجةـ انتشرت فيها الفتن، وساد خلالها الجهل، وتوترت علاقات العرب بعضهم ببعض، وأصبح كل طرف يكفر الآخر، ولا يقبل به شريكًا في الملة والوطن، تتقدم الأمم في مجال العلم والمعرفة والتكنولوجيا، وتخطو أشواطا في مجال التنمية والنهوض، وما زالت أمتنا تشكو من صعوبات على مستوى التعليم والبحث العلمي والتنمية المستدامة.

لقد ظل الغرب – كما هو حال الشرق الاسلامي- منعزلا على ذاته طوال قرون من الزمن، سادت فيها الحروب الدينية، وعم فيها الكره والتباغض، ثم أدرك الأوروبيون أنّ المعرفة هي سبيل النهوض والازدهار، وعنوان الرقي والتقدم، فأسسوا الجامعات التي اعتمدت عليها الكنيسة في البداية كسلاح لمحاربة أعدائها، ولا غرابة أنّ جل الجامعات التي ظهرت منذ القرن الحادي عشر للميلاد، نشأت بمبادرة الكنيسة وتحت إشرافها.

ثم توسعت الدول الأوروبية منذ القرن السادس عشر في آسيا وأمريكا الجنوبية، وبالتوازي مع نشوء الجامعات ظهرت رغبة في معرفة الشرق ودراسة الحضارة العربية الإسلامية لغة وعقيدة. حيث أسهمت الكنيسة اسهاما بليغًا في تشويه صورة الاسلام ورموزه، ونشرت صورًا نمطية سلبية، قرن فيها الاسلام بالعنف والهمجية. وأسهمت هذه الصورة في تأجيج النفوس، ودفع مسيحيي الغرب لمحاربة المسلمين، وممارسة أبشع أنواع العنف ضدهم.

وفي هذا السياق ظهر الاستشراق وترعرع، وارتبط منذ بدايته بالتبشير، من خلال تشجيع طلبة المعاهد الدينية على تعلم العربية، والتشجيع على حركة الترجمة من العربية. حيث ساهم الاستشراق في تعريف النخب الأوروبية بلغات شرقية كانت مجهولة وحضارات لم يكن من السهل التعرف عليها، ورغم هيمنة البعد الديني وخلفياته التبشيرية فإن صورة الشرق النمطية بدأت تتهاوى، وأصبح بالإمكان الحصول على الكتب الاسلامية التي ترجمها المستشرقون وحققوها.

وسيمهد هذا التحول لظهور أجيال جديدة من المستشرقين، استفادوا من عصر الأنوار وأسهموا فيه، وحاول بعضهم تحرير الدراسات الغربية من قيود اللاهوت، والبحث عن مناهج علمية تنزع إلى الموضوعية، وتحاول أن تفهم الشرق من داخله. وتميزت هذه الحقبة بإقبال كبير على دراسة المخطوطات العربية وتحقيقها.

إلا أن هذه المرحلة لم تستمر طويلا، إذ عاد الاستشراق إلى دوره القديم، مع بداية مرحلة الاستعمار، بل أصبح أداة لتبرير الاستعمار، وأسس عدد كبير من المستشرقين لنظرية تقول بأنّ الشعوب العربية والاسلامية شعوب متخلفة ومتوحشة، ويجب على الدول المتقدمة تمدينها وتطويرها. ولم يكن هؤلاء المستشرقين إلا صدى لعدة أصوات استشراقية ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بررت الاستعمار وساعدته، فوفرت له بحوثا تعرف بالمسلمين وثقافتهم، مما ساعد الاستعمار على إدارة المستعمرات وإخضاع أهلها.

وتأثر عدد من المستشرقين بتداعيات الحرب العالمية الأول (1914 – 1918) فهاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وانتهت الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) بانتصار أمريكا، وبروزها قوة عظمى في المجالين العسكري والاقتصادي، وصاحب هذا التطور نشوء تجربة استشراقية في الولايات المتحدة، نشأ عنها ما عرف لاحقا بالاستشراق الجديد، وتأثرت هذه التجربة بسقوط الاتحاد السوفييتي، وأحداث 11 أيلول 2001.

وكما كان تطور الاستشراق الأكاديمي في القرن التاسع عشر مرتبطا بتوسع القوى الأوروبية في احتلال الأراضي العربية والاسلامية، كانت دراسة الشرق الأوسط والاستشراق الجديد عموما حقلا أكاديميا مرتبطا بشدة بظهور الولايات المتحدة بوصفها قوة عالمية عظمى، وتورطها بشكل أعمق في الهيمنة على الشرق الأوسط.

نزع رواد الاستشراق الجديد إلى القطع مع التجارب الاستشراقية السابقة، والظهور في صورة جديدة تتخذ من المعرفة الخالصة والدراسات المعمقة شعارا لها، وبدأ التفكير في نمط جديد من الدراسات الاستشراقية لا يعوّل على دراسة المواضيع بل دراسة المناطق. ويتمثل هذا الاتجاه الجديد في دراسة منطقة ما من زوايا مختلفة، باعتباره يساعد على فهم الجغرافيا وما يتعلق بها من أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، مع التركيز على منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. فمراكز التفكير الأوروبية والأمريكية تقسم المنطقة العربية والاسلامية إلى أجزاء صغيرة، تدرسها بدقة وعمق من حيث اللغة والفكر والدين والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية والمشاكل الفردية والجماعية، ثم تكتب تقارير تفصيلية وتوصيات عملية، لخدمة مشاريعهم واستراتيجياتهم.

وعلى هذا الأساس انتشرت مراكز الدراسات، وظهرت مراكز فكر قوية، مستقطبة كبار المستشرقين الجدد الذين تسلحوا بالعلوم الانسانية والانثروبولوجيا، وأصبحوا يقدمون تقارير عن شعوب المنطقة وثقافتهم. وظهر جيل من المستشرقين كرسوا حياتهم لتشويه صورة العرب والمسلمين، وتوجيه الرأي العام الأمريكي وجهة مخصوصة، تصنف المسلمين كإرهابيين ومتوحشين، وتبرر الهيمنة عليهم، وتدعّم هذا التوجه الاستشراقي بعد أحداث أيلول 2001، وما تبعها من أعمال ارهابية قامت بها جماعات تزعم أنها إسلامية المرجع والخلفية.

واضطلعت مراكز الفكر بوظائف أخرى من قبيل توفير المعلومات والمعطيات الضرورية، وتحليل الوقائع والمستجدات، ودراسة الواقع، واستشراف تداعياته، واقتراح السيناريوهات والحلول والبدائل. وقد أدركت الإدارات الأمريكية أنّ المعلومات في عالم السياسة لا تتحول إلى قوة إلا إذا قدمت بالشكل والوقت المناسبين، وهي الرؤية التي تختصر مهمة مراكز الفكر، ولذلك عوّل أصحاب القرار السياسي في البيت الأبيض على تقارير وتوصيات هذه المراكز.

وقد رافق ذلك هجرة مراكز الفكر والرأي عبر القارات وانتشارها في بعض الدول العربية والاسلامية، ملاقية التشجيع من قبل مجتمع المانحين الدوليين والمؤسسات الخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، وخصصت من أجل ذلك أموالا طائلة.
ومن القضايا التي اعتنى بها الاستشراق القديم، واهتم بها الاستشراق الجديد، وجعلتها مراكز التفكير مسألة محورية، إثارة النعرة الطائفية والتركيز على المذاهب والملل والنحل، وما دار بينها من صراعات، فاهتم الاستشراق بالأقليات الدينية والمذهبية والاثنية في الوطن العربي على وجه الخصوص.

وقد أثبتت الأحداث السياسية وتداعياتها الاجتماعية في مصر ولبنان وسوريا والعراق وغيرها من الدول العربية، أنّ إثارة النعرات الدينية والحساسيات العقدية تنتج صراعات قاتلة بين أبناء الوطن الواحد، وتثير فتنا تأتي على الأخضر واليابس. كما ركز الخطاب الاستشراقي على قضايا الأقليات العرقية ولغاتهم، وعلى اللهجات المحلية في صراعها مع اللغة العربية. مما يعني أنّ هذه المراكز تشتغل على زعزعة وحدة الأمة بطريقة ممنهجة لا يخفيها أصحابها، بل نجدها جلية في كتاباتهم وتوصياتهم. ولئن أخفى الاستشراق القديم أهدافه السياسية وخلفياته التوسعية، فإنّ مراكز الفكر ومن ورائها الاستشراق الجديد وخبرائه، تصرح دون تردد بأنّ إعادة تقسيم البلاد العربية والاسلامية أصبحت ضرورة سياسية وأمنية للولايات المتحدة واسرائيل.

ونؤكد هنا أنّ الاستشراق ما كان لينجح لولا وقوف مؤسسات كبرى وراءه، من الكنيسة في العصور الوسطى إلى شركات ومؤسسات كبرى، ودعمه ماديا ومعنويا. في حين لا نجد هذا الدعم في بلادنا، فقلما نجد مؤسسة تجارية خاصة أو حكومية تدعم البحث العلمي، وإذا وجد بعضها فهو دعم صوري. وفي هذا السياق لا بد من أعادة النظر في علاقة الجامعات بالبحث العلمي، فالجامعة ليست مكانا للتعليم والتدريب فحسب، بل هي كذلك فضاء للبحث العلمي المتواصل. كما نحتاج إلى التفكير بعمق في ترسيخ ثقافة مراكز الفكر والدراسات، وتحويلها إلى مؤسسات حيوية يعتمد عليها في فهم الواقع واقتراح حلول للمشاكل القائمة، واستشراف مستقبل الأمة والمخاطر المحدقة بها، والاستعمار الجديد الذي نرصد معالمه من خلال إعادة رسم جغرافيا المنطقة وتغيير الاستراتيجيات. مع وجود طاقات بشرية نوعية داخل البلاد وخارجها، ولكنها طاقات مهدورة غير مستغلة، يقتلها في أغلب الأحيان روتين الإدارة وبؤس السياسية.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012