أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


الاستقلال بين عبدالله الأول وعبدالله الثاني

بقلم : الدكتور بسام البطوش
26-05-2020 05:46 AM

عيد الاستقلال بالنسبة للأردن لا يمكن حصره في يوم أو حدث محدد؛ فمنشأ الاستقلال كان مرتبطا بمنشأ التأسيس، فبعيد انحسار الحكم العثماني التركي، تأسست حكومة عربية هاشمية في دمشق، شملت شرقي الأردن، وكانت تتوق الى توحيد بلاد الشام في دولة عربية مدنية مستقلة موحدة، لكن مصالح الاستعمار، ومتطلبات المشروع الصهيوني، وتعقيدات الواقع العربي، أجهضت هذه المحاولة العربية الهاشمية مبكرا. وهنا، واصلت شرقي الأردن تحولاتها من الزمن العثماني التركي، الى الزمن العربي الفيصلي الهاشمي، الى الزمن الأردني الهاشمي. وفي لحظة انتقالية بدت شرقي الأردن مجرد أرض متنازع عليها! تتنازعها أطماع إنتدابية بريطانية، وشهوة توسعية فرنسية، وأحلام صهيونية تلمودية، لكن العشائر الأردنية أنتجت في هذه اللحظة حكومات محلية في شمال البلاد ووسطها وجنوبها، برعاية بريطانية، كانت مجرد حالة مؤقتة، مكثت الى أن أنتجت تفاعلات الثورة العربية، ومصالح الشعب الأردني، فكرة البحث عن كيان سياسي في شرق الأردن متصل بمملكة الحجاز، وهذا الخيارأيدته سلطة الانتداب في القدس، كخيار مؤقت - أيضا- في حساباتها، بفعل مؤثرات صهيونية غير خافية. وهنا انطلقت جدلية التأسيس والاستقلال.

(1)
فجاء تأسيس إمارة الشرق العربي، وشرع الأمير عبدالله والشعب الأردني، بالصبر والكفاح في زرع واحة آمنة في بيداء عربية ملتهبة بالخلافات والتحولات، خرائطها لم تجف، ومصائرها لم تتحدد، وصراعاتها البينية عميقة، ومشروعها القومي مثخن بتآمرالغريب وأنانية القريب. وكان ووايزمان وصموئيل وأعوانهما يرقبون المشهد، ويتوقون لفشل التجربة العربية في شرقي الأردن، ويلومون تشرشل والحليفة بريطانيا، ويتطلعون للوثوب الى ما وراء النهر.

ومن يقرأ سيرة ويوميات الملك المؤسس والرجال من حوله، يدهش لعميق حكمتهم، ووافر صبرهم، وكامل وعيهم، بأن لا خيار سوى النجاح، ولا بديل سوى تمدد مشروع صهيون في الفراغ شرقا. أتيح لي مؤخرا الغوص في مداولات الندوة البرلمانية الأردنية الأولى (المجلس التشريعي الأردني الأول)، التي قاتل عبدالله الأول لانتزاعها من براثن البرود والعموض الانتدابي البريطاني، كما انتزع معاهدة الاستقلال الأولى 28، التي بالرغم من تساوقها مع نصوص صك الانتداب، ثبتّت الوجود السياسي للأردن على خريطة الشرق العربي الهلامية المتحركة! إن مداولات المجلس التشريعي الأردني الأول، وموقف رجالاته من الانتداب ومن المعاهدة ومن القبضة البريطانية، تمنح القاريء فهما عميقا لحركة التحرر الوطني الأردني اللاعنيفة، المتولدة في أتون قهر الواقع واختلال المعادلات! والمتوزعة بين زعامات في قلب الندوة البرلمانية، تعزز التأسيس وتنافح عن الاستقلال، وبين زعامات بقيت في المؤتمر الوطني وفي المعارضة تكافح قبضة الانتداب وأطماع الصهيونية، وتسند الأمير ورجالاته لمواصلة التأسيس، ولتعزيز الاستقلال، فكلما تجمد الموقف، وكلما جنحت سلطة الانتداب نحو مزيد وشديد من اللؤم، يهرع الرجال الى 'المقر' لبث وجعهم لسيد الصبر وأمير الحكمة وراعي الهدلا عبدالله الأول. فيحيل غضبهم الى عزم، ويصنع من إحباطهم مرجلا لتوليد الأمل، ومواصلة الكفاح لحماية بيضة الوطن، ولرد عاديات التآمر الصهيوني وغير الصهيوني!

وبعد أقل من عقدين حانت لحظة الاستقلال السياسي التام، مملكة أردنية هاشمية، ما أن تفتحت زهرة استقلالها شرقي النهر، حتى كان المشروع الصهيوني يعلن كيانه الغاصب غربي النهر، برعاية بريطانية ودولية، فوجدت المملكة الوليدة نفسها تخوض حربا كونية للدفاع عن فلسطين، بامكانات مادية شبه معدومة، وبترسانة هائلة من الشعور بالمسؤولية الثقيلة لحمل 'الرسالة العربية'.

كان عبدالله الأول وهو يوجه مملكته الوليدة وجيشه العربي الجنين، للدفاع عن فلسطين وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، حاضر الوعي، على دلالات الرابط بين مكة والقدس، مرورا بعواصم رفرفت عليها رايات النهضة العربية في دمشق وبغداد وعمان. وحين كان جيشه يحارب في اللطرون وباب الواد، كان يعي أي حلم عربي وحدوي قتل على يد التآمر الاستعماري-الصهيوني والأنانية العربية، فما كان للقدس أن تكون في قبضة الصهاينة لو أن حلم الحسين بن علي بوحدة عرب آسيا تحقق، أو لو تحقق مشروع وحدة الهلال الخصيب، الذي كابد عبدالله الأول في الثلاثينيات والأربعينيات، كل صنوف التنكر والبلاهة وقصر النظر العربية لتحقيقه، لكن 'إيدن' جاء بالترياق بدلا من وحدة حقيقية، فصنع جامعة عربية، تحفظ عبدالله بعميق بصيرته عليها بداية، ونبّه الى أنها لا ترسم طريقا للوحدة! لكنه ساير أمته يوم أصرت؛ فصار من مؤسسيها. وبعد أن نجح عبدالله الأول في حماية الضفة الغربية ودرتها القدس الشرقية، وصنع وحدة إندماجية معها، أنقذتها من التمدد الصهيوني، دفع الثمن شهيدا في رحاب الأقصى بعد عامين، أي بعد قريب من عقدين من دفن والده في حرم الأقصى! فمسيرة 'الرسالة العربية' المعاصرة بدأت بمكة وانتهت بالقدس، بدأت بالحسين من مكة ثائرا إلى القدس راقدا، وبعبدالله الأول من مكة ثائرا وفي القدس شهيدا! وهي مسيرة أمة تبحث عن مكان تحت سماءاتها الشاهدة على الميثاق الغليظ الرابط بين القبلتين، في المسرى والمعراج!

(2)
وأمضى طلال بن عبدالله عامين في الحكم، رسّخ فيهما بنيان الدولة والحكم، وكان دستور 52، قد أسس لزمن جديد تحددت قاعدته في المادة الدستورية الأولى 'المملكة الاردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة ملكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شيء منه، والشعب الاردني جزء من الامة العربية ونظام الحكم فيها نيابي ملكي وراثي'..
(3)

وفي زمن الحسين بن طلال، الزمن العربي العسير، ما من لحظة أو يوم الا واجه الأردن تحديات تهدد الوجود، لكنه الحسين، أمتهن الحكم والملك والسياسة، ولم تغب عن باله أجندات الصهاينة وداعميهم، كما لم تغب عنه ويلات العرب ومنافقيهم! يوم كانت اذاعات العرب وقنابلهم تضرب جهرة وخلسة في قلب عاصمته، وتفجر رئاسة حكومته، ليذهب هزّاع شهيدا، على درب عبدالله الأول، فدرب الشهادة ذاته، ويد الغدرهي ذاتها، التي خطفت لاحقا وصفي شهيداً. وبنى الحسين وأشاد وحمى الاستقلال وصانه، وأبحر بسفينة الأردن بضفتيه الشرقية والغربية، في نموذج متقدم للوحدة العربية الاندماجية الحقيقية. وفي الزمن الذي كان يرسم فيها مع رجالاته 'مخطط فلسطين'، نُكبت الأمة بالدجل والشعارات والاذاعات، وسيقت الى معارك خادعة هناك بعيدا في اليمن، وفي كل عاصمة عربية طالتها الانقلابات والصراعات وتدميرالعروش والجيوش. وكان على الحسين في صبيحة الخامس من حزيران أن يواجه وحيدا جيش العدو ومن خلفه الغرب والشرق! فمن حرّكوا الحرب، ونفخوا في نيرانها، وهيئوا بيئتها، واستدرجوا لها، خرجوا منها قبل أن تبدأ! وكان الحسين وجيشه على موعد مع فصل جديد من فصول الخذلان العربي، ولعل عبدالمنعم رياض كان شاهدا عدلا على ترك الأردن يواجه مصيرا لم يسع اليه، وكارثة لم يخطط لها. ولعله كان حزينا كحزن الحسين وحابس، لحظة قالت عاصمة العرب الكبرى للحسين في ختام اليوم الحزيراني الخامس الأسود، الآن الآن يمكنك أن تفعل ما تشاء لتنقذ ما يمكن إنقاذه!! وكان على الحسين أن يتحرف تارة وأن يتحيز لفئة تارة بالسياسة، التي عجم أعوادها، لاستعادة ما ضيعته صيف العرب في حزيران 67! وصمد في الكرامة، وقاتل قتال 'تخليص الأرواح' ونجح في صد العدوان الأسود، متأهبا لمواجهة أخرى تعيد التوازن لزمن الرابع من حزيران! فداهمته الغوغائية والانتهازية، من داخل الحدود ومن خارجها، فصمد بواسع حكمته، وبسلامة طويته، وببعد نظره، وسار بشعبه على دروب الأمن والبناء والتنمية والوحدة الوطنية.

وسكنت القدس وجدانه، وشكّلت محور سياساته وعلاقاته عبر العالم، ساعيا لاستعادتها بكل ما هو ممكن، بوصفها والضفة الغربية أرضا أردنية محتلة، بينما الاشقاء أرادوا إنتزاع ورقة التمثيل من يد الأردن، وساند العرب هذا المسار في قمة الرباط 74، لكن الشقيقة الكبرى التي دعمت مسار التمثيل الفلسطيني، ذهبت بعيدا في مسار الحل المنفرد، متجاهلة التمثيل الفلسطيني والحقوق الفلسطينية! أما الحسين فصمد في وجه ضغوط أمريكية ودولية هائلة ورفض الانخراط في مسار كامب ديفيد 78، وتمسّك بقرارات الشرعية الدولية، وبوجوب التمثيل الفلسطيني في أي مسار للحل! وسخّر كل الأوراق ليبقى الأردن مستقلا، واستثمر في هذه اللحظة الصراع الدولي بين الشرق والغرب. واستجاب بعد أربعة عشر عاما من قمة الرباط، لرغبة المنظمة في كونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؛ فكان قرار فك الارتباط بين الضفتين 88، مع استثناء المقدسات الاسلامية والمسيحية من مفاعيل هذا القرار. ولما تلاشت العرب بعد عامين في حرب الخليج الثانية، وذهبت الى مدريد، تجلت عبقرية الحسين في إدراكه أن رأس الأردن بات مطلوبا، فاستدار وتأهب وذهب الى مدريد، ووفر المظلة المشتركة، وفوجيء بأن مسارا سريا كان نشطا هناك في أوسلو! وهضم الحسين كعادته لقمة الأشقاء مهما كانت مرة!

وسلّم لعبدالله الثاني مملكة مصانة الجانب، مكتملة البنيان، استقلالها ليس في خطر، وحدودها معلومة مرسومة، تمتلك احتراما عالميا عز نظيره، تجلى في جنازة العصر 99.

(4)
تولى عبدالله الثاني دفة القيادة وأمامه مهمة حماية المنجزات، ومواصلة البناء، وصون الاستقلال، في زمن عربي ودولي بالغ التعقيد، تاهت فيه بوصلة الأمة، وطغت فيه القطرية، وانشغل كل بخاصة شؤونه. أما في الأردن فكانت 'الرسالة العربية' حاضرة لا تغيب، وكانت عينا عبدالله الثاني واحدة على الأردن، والثانية على فلسطين دفاعا عن حقوق شعبها، ووصاية على مقدساتها الاسلامية والمسيحية. وبرز عبدالله الثاني وهو يرسخ بنيان بلده ويصون استقلاله تارة، ويجوب العالم دفاعا عن فلسطين، وعن صورة العرب والاسلام، تارة أخرى، برز زعيما عربيا مسلما يحظى بالقبول والاحترام والمصداقية في المجتمع الدولي. ولعل باحثا لو تتبع عبر دراسة علمية جادة الصوت العربي الأقوى والأشد نفاذا والأكثراحتراما في العالم في العقدين الماضيين، لوجد صوت عبدالله الثاني هو الأبرز في حمل 'الرسالة العربية'.

ولما اشتعلت نيران الحروب بكل صنوفها من حولنا، نأى عبدالله الثاني بالأردن عن مخاطرها، ومنع إمتداد السنة لهبها الينا. ولما اختلت معادلات القوى الكونية، حافظ على ميراث الاستقلال ومنحه قيمة متجددة. وفي زمن 'الربيع العربي' لم يفرط بتراث الحكمة الهاشمية، وحفظ أمن وطنه وكرامة شعبه، وانحاز بالأردن بعيدا عن الفوضى الخلاقة وتفاعلاتها، وذهب في طريق الاصلاح السياسي، واحترام حريات شعبه، وحقوق مواطنيه في التعبير. وصان حدود وطنه من العبث والارهاب الأسود، ومن جنون الطوائف المتصارعة، وصنع مجالا حيويا يلف وطنه ويحمي استقلاله.

وفي كل الأحداث والظروف والمواقف، وبالرغم من حجم الاختلالات في الموازين الدولية والعربية، صمد عبدالله الثاني في دفاعه عن عروبة القدس، عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة. واحتفظ برباطة جأشه وبحكمته في مواجهة (صفقة القرن) ومخططات ونوايا اليمين الاسرائيلي المتطرف، مدركا المعادلات الكونية، والظروف العربية، والتحديات الأردنية؛ فكان يقبض في كفيه على جمرات التاريخ والحاضر والمستقبل. يقبض في كف على ميراث هاشمي تليد، وراية هاشمية صمدت خفاقة على تلال عمّان وتطل على مشارف القدس، ويقبض في أخرى على أمن الأردن وازدهاره واستقلاله.

*أستاذ تاريخ الفكر والحضارة في جامعة الحسين بن عبدالله الثاني التقنية.


التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012