أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


الموازنة العامة .. ما وراء الأرقام

بقلم : الدكتور محمد أبو حمور
15-02-2021 05:40 AM

فرغت اللجنة المالية في مجلس النواب من دراسة مشروع قانون الموازنة العامة للحكومة ومشروع قانون موازنات المؤسسات المستقلة، وتمثل هذه المشاريع أحدى اهم الاستحقاقات امام مجلس الامة، وتتميز بانها تدخل في نطاق الاختصاصين التشريعي والرقابي لهذا المجلس، لذلك لا بد من نظرة متأنية حول ما تعنيه الموازنة العامة واثرها على المجتمع والأداء الحكومي ومستوى الخدمات المقدمة للمواطنين والاقتصاد الوطني بشكل عام، خاصة واننا واجهنا خلال العام الماضي ولا زلنا ،كما هي سائر دول العالم، ظروفاً استثنائية لا زالت اثارها وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية تؤثر على مختلف مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

والتساؤل الذي يطرح هل سوف تتم مناقشات الموازنة في نفس الاطار التقليدي الذي اعتدنا عليه منذ سنوات ام ان الظروف الاستثنائية تتطلب النظر في هذه الموازنة بما تستدعيه المرحلة الراهنة من مسؤولية مشتركة تتمحور حول أهمية التعافي وتجاوز الاثار السلبية للجائحة وما خلفته من حمل ثقيل كالبطالة وتراجع النمو وتعطل العديد من الأنشطة الاقتصادية، وهل سوف تتواصل المطالبات الخدمية والمناطقية التي يعلم الجميع انها، بعد طرح الموازنة، دستوريا غير قابلة للتحقيق أم سيتم النظر للأمور من منطلق الحرص على المصالح الوطنية الكبرى باعتبار الموازنة لبنة في جهد إصلاحي وخطوة على طريق التعافي يتم من خلالها حشد الطاقات وتوحيد الجهود لتحقيق الأهداف الوطنية السامية.

لا شك بان الظروف الحالية ليست سهلة ولكن الأردن شهد ظروفاً أصعب واستطاع تجاوزها والتغلب على مصاعبها وهذا ما نأمل ان تحققه موازنة العام الحالي، بالرغم من ان المؤشرات الاوليةتشير الى استمرار تراكم المديونية وتفاقم العجز، ويحسب للحكومة، وبالرغم من تأخرها في اصدار بلاغ الموازنة والذي يمثل الوثيقة التي تحدد الاتجاهات العامة لإعداد الموازنة، انها أقرت الموازنة واحالتها لمجلس الامة قبل شهر من نهاية العام ووفقا لما ينص عليه الاستحقاق الدستوري.

من المهم ان تكون موازنة العام الحالي أداة لتجاوز الصعوبات الحالية وتقليص الخسائر لأدنى حد ممكن، وبالرغم من انه لا يمكن لموازنة العام الحالي ان تشكل أداة لمعالجة المصاعب التي عانت منها المالية العامة على مدى سنوات، ولكن من المهم ان لا تكون إضافة كبيرة لهذه المصاعب وان لا تساهم في تراكمها، وذلك بسبب افتراضات وتوقعات لا تستند الى معطيات واضحة وموثوقة، ومن المفهوم ان الحكومة واجهت صعوبات في التوصل الى تنبؤات وافتراضات وذلك بسبب الأثر المالي الذي رتبته الجائحة على مختلف القطاعات الاقتصادية.

في مجال التصدي للآثار المترتبة على جائحة كورونا قام البنك المركزي ومؤسسة الضمان الاجتماعي باتخاذ إجراءات وتدابير فاعلة، اما على صعيد السياسة المالية فقد كان دورها محدودا بشكل واضح واقتصر على تأجيل تقاضي بعض المستحقات وتحمل فوائد عن بعض الجهات، الا انه لا بد من الإشارة الى بعض الجوانب الإيجابية التي تضمنتها الموازنة بما في ذلك صرف علاوات الجهازين المدني والعسكري وشمول اعداد إضافية من الاسر للاستفادة من صندوق المعونة الوطنية مما سيؤدي الى تحسين القدرة الشرائية للمواطنين وضخ سيولة إضافية، علماً بان استمرار تصاعد النفقات الجارية يتطلب البدء في محاولة تصويبها.

يؤدي مجلس النواب دوراً هاماً عبر الوظيفة التشريعية وذلك بإقراره لقانون الموازنة العامة وقانون موازنات الوحدات الحكومية اضافة الى القوانين الاخرى المتعلقة بالشأن المالي ، واخر لا يقل أهمية عبر الرقابة على اداء الحكومة في هذا الجانب، كما تتيح النصوص الدستورية والتشريعية المجال واسعا امام مجلس الامة ليقوم بدور فاعل لضمان التخصيص الاكفأ للموارد وتجنب الهدر وتوفير الظروف الملائمة لضمان حسن انفاق الموارد المالية وكفاءة تحصيل ايرادات الدولة، بما في ذلك التأكد من كيفية انفاق المال العام وما مدى فعالية ونتائج ذلك الإنفاق، وهل تم تحقيق الاستفادة المثلى من الاموال المنفقة، وكيف يمكن القيام بالإجراءات التصحيحية الملائمة كل هذا يساهم في الحد من الفساد وإساءة استخدام المال العام ومن خلال التكامل في اداء هذه الادوار يستطيع مجلس النواب ان يقوم بخطوات ملموسة وعلى قدر كبير من الاهمية تساهم في تحسين الاداء الاقتصادي، ومنع الهدر والاسراف في النفقات المختلفة، ليس هذا فقط وانما يمكن لمجلس النواب ايضاً ان يعمل على تحديد الاولويات التنموية عبر التعاون مع السلطة التنفيذية، كما يمكن للمجلس ايضاً ان يساهم في تصويب الاداء المالي عبر ذراعه الرقابي المتمثل في ديوان المحاسبة، وهكذا فبدلاً من ان يتحول اقرار الموازنة العامة الى موسم للخطابات لا بد ان يفكر اعضاء مجلس الامة جدياً في تحويله الى فرصة لمناقشة قضايا الاصلاح المالي والاقتصادي وسبل النهوض بالاقتصاد الوطني ومواجهة المصاعب التي نعاني منها.

هناك جهود كبيرة تبذل في مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة، وقد يكون من المهم العمل وعلى مدار العام بالتعاون مع ديوان المحاسبة للتأكد من ان تنفيذ الموازنة انجز بالشكل المطلوب، إضافة الى الاهتمام بالحساب الختامي للتأكد مما طرأ على الموازنة من تعديلات وما تم تغييره من بنود وفصول فيها ومناقلات، فالحساب الختامي يبين النفقات والإيرادات الفعلية للموازنة ومدى واقعية التقدير في كلا الجانبين، ولا شك بان هذا يتطلب جهوداً كبيرة ما يعني ضرورة ان تقوم الحكومة بواجبها في تقديم الخدمات الملائمة للمواطنين لإزاحة عبء المطالب الخدماتية عن كاهل مجلس الامة، وقد يكون من المناسب تنظيم مراجعة دورية ربع سنوية لأرقام الموازنة المقدرة والمتحققة فعلاً.

من المهم ان ندرك بان الموازنة العامة ليست مجرد جداول وأرقام للنفقات والايرادات ومصادر التمويل، فهي بمكوناتها المختلفة احدى اهم أدوات السياسة المالية وتشير الى مجموعة من الخيارات والسياسات والإجراءات المؤثرة ليس على القطاعين العام والخاص فحسب بل ايضاً على مستوى معيشة المواطنين ونوعية الخدمات المقدمة لهم يضاف لذلك الأثر على النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل، كما انها الخطة المالية السنوية للحكومة التي تعكس الفلسفة الاقتصادية والمالية للدولة من خلال ترجمة الأولويات وكيفية مواجهة التحديات والمستجدات،إضافة الى تعزيز قيم النزاهة والإصلاح، لذلك فالموازنة كخطة عمل يفترض ان تكون موجهة لتحقيق اهداف اقتصادية ومالية واجتماعية، وان تشمل إجراءات للتعامل مع المصاعب الأساسية التي يعاني منها المجتمع كالبطالة وكيف سوف تساهم الموازنة العامة في تخفيف حدتها خاصة وان استحداثات الوظائف محدودة كما ان القطاع الخاص والذي لم تستطع بعض قطاعاته الحفاظ على العاملين لديها يعاني محدودية قدرته على توليد وظائف جديدة، ما يعني حاجتنا لرسم معالم طريق للتعامل مع هذا الامر بما يستحقه من اهتمام.

ومن المهم تعزيز إجراءات مكافحة التهرب والتجنب الضريبي والسعي لتوسيع القاعدة الضريبية بدلا من اللجوء لزيادة الضرائب، بل على العكس من الممكن التفكير بجدية حول موضوع تخفيض العبء الضريبي على المواطنين وبما يخفض كلفة الإنتاج على المستثمرين ويرفع من قدرة السلع المصنعة محلياً على المنافسة في الأسواق الخارجية والمحلية، وفي هذا الإطار من المهم دعم الجهود التي شهدناها خلال الفترة الأخيرة والمتمثلة في إجراءات مكافحة التهرب الضريبي والتي حققت نتائج إيجابية، ولعل ذلك يشكل عاملا مساعدا على تحقيق قدر معقول من الإيرادات المتوقعة.

الانفاق الرأسمالي في الموازنة يحتاج الى وقفة لنرى هل سوف يساهم فعلا في تحقيق او تعزيز معاملات النمو، خاصة في ضوء قلة الموارد المخصصة للمشاريع الجديدة، وكيف سيتم التعامل مع القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة باعتبارها من الأركان الأساسية لتحقيق الاعتماد على الذات، وهناك شكوك تراود البعض حول ما سيتم انفاقه فعلا من المخصصات الرأسمالية خاصة وان التجارب السابقة تشير الى انه يتم عادة الغاء العديد من المشاريع لعدم توفر التمويل او لعدم القدرة الفنية لبعض الأجهزة الحكومية، كما ان التساؤلات تثار حول المخصصات المرصودة لمشاريع الشراكة وهل سيتم الالتزام بإنفاقها فعلا ام انها ستبقى مجرد ارقام يعاد تدويرها خلال السنوات اللاحقة، علما بان القدرة على استخدام هذه المخصصات يمكن ان يشكل مساهمة حقيقية في رفع نسبة النمو وتوليد مزيد من فرص العمل خاصة اذا ترافق ذلك مع استخدام رشيد لمخصصات تحفيز الاستثمار.

لدى التوقف عند موضوع الدين العام لا بد من الالتفات الى بعض الجوانب التي تحمل في طياتها ابعاداً استراتيجية، فأولا لا بد من توفر استراتيجيات مدروسة لإدارة الدين بشقيه الداخلي والخارجي، وقبل تحديد النسب والأرقام من المهم ان ندرك الأثر على الأداء الاقتصادي ومدى توفر السيولة لأنشطة القطاع الخاص، هذا من جانب ومن جانب اخر من المهم ان نأخذ في اعتبارنا كلفة خدمة الدين والقدرة على الوفاء بالالتزامات المترتبة على المديونية والملاءة الائتمانية للدولة « التصنيف الائتماني» ومدى قدرتها على مواصلة الاقتراض وتوفير المصادر التمويلية خلال السنوات اللاحقة.

وفي ذات الاطار لا بد من مراقبة سلوك المالية العامة ويكفي ان نراقب التصاعد اللافت للدين العام خلال السنوات العشر الأخيرة لنستنتج اننا امام مسؤولية وطنية تفرض علينا التوقف امام ظاهرة الاستدانة المفرطة وما قد يترتب عليها من نتائج، لذلك من المهم التفكير جدياً حول استخدامات الدين وهل تساهم في تحفيز النمو ام انها تذهب لتمويل نفقات جارية، وهل نسب نمو الدين متناسبة مع نسب النمو الاقتصادي ام اننا نسير نحو خانة الخروج عن السيطرة، ومن المفهوم ان المرحلة الراهنة تتطلب من الحكومة اتخاذ إجراءات تساعد على تعافي الأنشطة الاقتصادية ما يعني التغاضي مؤقتاً عن ارتفاع المديونية الا ان ذلك لا يعني عدم توفر رؤية حول الاتجاهات المستقبلية للتعامل مع موضوع المديونية كأولوية تتطلب حلولا استراتيجية وبرامج واضحة لتخفيض نسبتها من الناتج وتقليص أعباء خدمتها، التي تقلص الحيز المالي المتاح للإنفاق الرأسمالي، وفق تدرج زمني مناسب ولتحسين استخدامات الدين وتوظيفه لتحقيق نمو مستدام.

نظراً لان الموازنة العامة تبين التوجهات الاقتصادية للسلطة التنفيذية ورؤاها المستقبلية، وتحدد دورها التنموي وأسلوب تمويله، لذلك فان الالتزام بمعايير الشفافية والنزاهة يتيح فرصة ثمينة لتعزيز الثقة بين المواطن والحكومة، وذلك من خلال القناعة التي تتولد بان السلطة التنفيذية تقوم بدورها بعدالة وتوازن بين مختلف الفئات الاجتماعية وفيما بين القطاعات الاقتصادية، وهنا لا بد من الإشارة الى أهمية تعزيز دور مجالس اللامركزية لتحديد الاحتياجات المحلية للمواطنين والاولويات المتعلقة بحياتهم اليومية، وهذا الامر يخدم الحكومة والمواطن في ان معاً فهو يساهم في تشخيص نقاط الضعف ويعمل على ترشيد الانفاق من خلال التخصيص الرشيد والكفؤ للموارد، كما يساهم في تقليص الفساد المالي والإداري ويشجع المواطنين على العمل بإيجابية لتحقيق مصالح مجتمعهم.

ولكي نتأكد ان الموازنة العامة تؤدي فعلاً الدور المنوط بها اقتصادياً واجتماعياً لا بد من العودة للأرقام الواردة فيها ومناقشتها بهدوء وروية وبما يخدم الوطن والمواطن، وهذا ما سوف يتم تناوله في مقال قادم.

* وزير مالية سابق

الدستور

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012