أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


المقاطعة .. سُلطة المستهلك

بقلم : سوار الصبيحي
22-05-2021 10:36 PM

غالبا ما يأتي مصطلح الاستهلاكية في أذهاننا ملتصقاً بالسلبية أو التخبط والإفراط في ظل صعود الرأسمالية، وهو كذلك في أحيان كثيرة، أما اليوم فيبرز لنا جانبه المشرق حين يؤثر على منتجات وعلامات تجارية تتعارض بأهدافها الإمبريالية مع القضايا الإنسانية والوطنية والدينية، وحتى البيئية، وتختل به صورة شركات وتطبيقات عالمية، كالهجوم الأخير الذي تعرض له كل من انستغرام وفيسبوك على أيدي الداعمين للقضية الفلسطينية من شتى بقاع العالم اعتراضا على سياستيهما الرقابية المنحازة. ناتجا عن ذلك انخفاض حقيقي لتقييمات هذه المنصات في المتاجر الإلكترونية، وبالتالي لفت الانتباه للقضية كغاية أساسية، وتقليل عدد المستخدمين وتأثُّر الإعلانات كنتائج جانبية لهذه التغذية الراجعة السلبية. وقد بدأ البعض فعلا خلال أيام بالترويج لفكرة الانضمام إلى منصات أخرى لا تفرض قيوداً على المستخدم وآرائه.

فهل لحملات المستهلكين الاحتجاجية أثر حقيقي على أرض الواقع؟

لطالما كان التاريخ زاخرا بالحروب الاقتصادية، وفي الشارع العربي بالتحديد تفاوتت حملات المقاطعة منذ العشرينيات وبداية الانتداب البريطاني، منها ما نجح ومنها ما تشتتت أهدافه وفشل لأسباب عدة، ومما لا شك فيه أن سلاح المال كان وما زال الأشد تأثيرا في ميزان القوى الدولية، ما المانع إذن من المحاولة مرارا وتكرارا واستغلال المقاطعة الاستهلاكية كحركة تحررية للتعبير عن المقاومة، والمبدأ، ومناهضة الظلم.. ولو لم تتعد آثارها لفت الانتباه.

إلا أن الأمثلة على نتائجها المثيرة للاهتمام كثيرة في السنوات الأخيرة منها الحملات المكثفة التي شهدناها عام ٢٠٢٠ لمقاطعة البضائع الفرنسية اعتراضا على الإساءات المتكررة للإسلام، وعلى إثرها سجّل الاقتصاد الفرنسي ركودًا كبيرًا في نهاية العام، مع تراجع للاستثمار بنسبة ٩% ولإجمالي الناتج المحلي بنسبة ٨.٣% بحسب المعهد الوطني للإحصاء. (١)

كما تراجعت الصادرات الفرنسية إلى دول الخليج بشكل ملحوظ في الفترة التي تلت حملة المقاطعة، الأمر الذي يثبت أنها لم تكن مجرد رد فعل جماهيري عاطفي، وحسبَ تعبير العديد من النشطاء في مختلف الدول أن الأمر _بعد مرور أشهر_ أصبح عادة روتينية، محوّلا هذا السلوك الاحتجاجي على قضية بدت مؤقتة في حينها إلى موقف أيديولوجي مستمر.

ومن الأمثلة التاريخية الشاهدة على مدى قوة الجماعات والأفراد بتحدي الجهات الاقتصادية الكبرى في مواجهة الظلم والتعسف، واحدة من القصص المؤثرة ببساطتها والمذكورة في كتاب «حركات ثورية: قصص شعوب غيرت مصيرها» للكاتب البريطاني ستيف كروشو، إذ حدث في ثمانينيات القرن العشرين أنْ قامت مجموعة من الطلبة في مدينة أكسفورد بحملة احتجاجية على تورُّط بنك باركليز العلني في دعم حكومة جنوب أفريقيا وسياساتها في الفصل العنصري، فقرر الطلاب كتابة لفظ 'للسود' فوق بعض آلات الصراف الآلي، و'للبيض فقط' على أخرى تابعة للبنك ذاته، مما ساهم في إرباك مستخدمي الصرّاف الذين حاروا في مكان الوقوف وهم ينظرون للتصنيفات المكتوبة فوق آلات الصرافة. وحسب ما جاء في الكتاب، تسببت تلك الحملة بتأجيج مشاعر النفور لدى عملاء البنك تدريجيا، حتى انخفضت حصة باركليز السوقية من ٢٧% إلى ١٥%!

واليوم، تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بدعوات لمقاطعة البضائع والعلامات التجارية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي (مجدداً) تضامنا مع غزة وحي الشيخ جراح خاصةً، ونصرةً لفلسطين وقضيتها عامةً، ليتجاوب الآلاف معها خلال أسبوع بالقبول والمشاركة تحت وسم #مقاطعة_المنتجات_الإسرائيلية على تويتر وفيسبوك،

مؤكدة على حقيقة أن المستهلك الواعي اليوم، اتساقا مع مقولة 'المدرسة الحقيقية للقيادة هي الثقافة العامة' بلا قادرا على التحكم بهذه الأسواق التي تختل فيها أي غاية ربحية تعاكس سير العرض والطلب على أرض الواقع.

وأن سيف الاستهلاك ثنائي الحد _الذي حول الإنسان الحديث إلى إنسان أحادي البُعد؛ منشغل بالمنافع والملذات على حساب القضايا الإنسانية أو متفاعل معها بحيادية _ هو بذاته من سينتصر لها، جاعلاً من القرارات الاستهلاكية شكلاً من أشكال المشاركة السياسية الفعّالة، ومن السوق سبيلا من سبل الحرية.

ومن زاوية أخرى فإن هذا الاستهلاك الانتقائي المدروس سياسيا واقتصاديا _كما يُفترض_ لا بد أن يخدم البدائل المحلية أو تلك المستوردة من بلدان غير خاضعة لسياسات التطبيع، فيدمج المبدأ الأخلاقي لدى الفرد بالعملية التجارية من جهة، ويضاعف النتيجة المنشودة في تقوية اقتصادنا الوطني وإضعاف اقتصاد العدو من جهة أخرى.

ولطرح أكثر واقعيةً.. التصديق بأن المقاطعة الحالية ستهدم الاقتصاد الصهيو-أمريكي ما هو إلا ضرب من ضروب السذاجة، ولكن على أقل تقدير، ستتراجع أرباح الشركات والمؤسسات الداعمة للاحتلال شيئا فشيئا، مما سيشكل أداة ضغط عليها لإعادة النظر في موقفها حسب ما يتلاءم مع مصالحها المادية، وسمعتها التجارية، وستفكر أي مؤسسة ألف مرة قبل الإقدام على الخطوة ذاتها، وكلما كانت العملية تراكمية ومتواصلة، وذات تكتيكات مرحلية أثبتت نجاعتها.

ولكن، يجدر التنويه إلى أن الكثيرين من مناصري مبدأ المقاطعة يقعون مع كل حملة جديدة في مغالطة تتسبب بمفعول عكسي وخلق شعور بالعجز والإحباط أمام هذا الكم الهائل من العلامات التجارية والمنتجات التي غدت أساسية للكثيرين؛ وهي مناشدة الجميع لمقاطعة كل شيء، في وقت واحد.

وهذا غير ممكن لعدة أسباب أهمها تفاوت شكل ومصدر البضائع المستهدفة، فهنالك البضائع الإسرائيلية التي يتم استيرادها وضخها في السوق بشكل صريح، وهنالك بضائع لشركات مُطبّعة من داخل السوق المحلي، أو شركات وطنية مع شركاء صهاينة، وأخيرا وليس آخرا، شركات عالمية تدعم الكيان المحتل بشكل أو بآخر.

إذن ماذا نقاطع وكيف يكون للمقاطعة جدوى؟

لا يمكن حقيقة إلقاء اللوم كله على المشككين بفعالية المقاطعة بحجة أنها غير مجدية نظرا لمقدار التضحية الفردية والجماعية التي تتطلبها في ظل العشوائية التامة للمطالب، وهنا أستشهد بمنهجية تتبعها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ‏BDS (حركة فلسطينية المنشأ عالمية الامتداد تسعى لمقاومة الاستعمار الاستيطاني، وعزل النظام أكاديمياً وثقافياً وسياسياً، واقتصادياً) (٢) تفيد بأنه لكي يكون هنالك أثر عملي ملموس لا بد من الاستمرار في توجيه حملات المقاطعة الفردية نحو أهداف واضحة وضد عدد معين من الشركات المتورطة بعمق في جرائم الاحتلال، لا أن تستهدف كل الشركات المتواطئة دفعة واحدة. وذلك ضمن أولويات تجعل المقاطعة قابلة للتحقيق ثم التأثير.

فعلى سبيل المثال، شركة أمريكية شهيرة مختصة بصناعة شرائح تشغيل الحواسيب، تستثمر مليارات الدولارات في الاقتصاد الإسرائيلي، إلا أنها ليست واحدة من الشركات المستهدفة من قبل حركة المقاطعة BDS

والسبب أن الشركة تحتكر تقريباً هذا المجال في قطاع الحواسيب، ما يجعل أفق النجاح لأي حملة ضدها ضيقا جداً في الوقت الراهن.. على عكس الاعتقاد السائد بأن الشركة كلما كانت أضخم وأكثر انتشارا وجب تركيز الأنظار عليها بهدف المقاطعة.

وهنا تكمن أهمية القوائم الموحدة للمنتجات أولا، والمتفق على خطورتها المباشرة أكثر من غيرها بانتشار معقول وواضح في السوق كهدف قابل للتحقيق ضمن حملات ممنهجة ومثابرة لرؤية نتائج ملموسة وإن كانت بسيطة، فستظل أفضل بمراحل من استهداف أعداد كبيرة من الشركات الضخمة لفترات قصيرة.

ومعظم هذه المنتجات والعلامات التجارية موجودة على الموقع الرسمي لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات، إلى جانب تلك إلى تراجعت عن موقفها وانسحبت من خطة الدعم الصهيوني، حيث شكلت الحركة عاملًا رئيسيا في انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة ٤٦% سنة ٢٠١٤ مقارنة بسنة ٢٠١٣ وفقا لتقرير الأمم المتحدة. (٣)

لا بد من التذكير ثانيةً ومع كل حملة جديدة بأن نجاح أي مقاطعة أو احتجاج لا يعتمد على شكله وانتشاره فحسب، بل على استمراريته أيضا كما ذكر الكاتب الأكاديمي د.جيلين في كتابه «القوة السياسية للاحتجاج» وعلى تجاوز 'موسمية' المواقف ما دام الصراع قائما.
وبالمحصلة فلا يمكن النظر إلى النمط الاستهلاكي الذكي والانتقائي الواعي في هذه الظروف وهذا التوقيت إلا كسلاح حداثي وعصيان يصعب السيطرة عليه، وقد بدأ يؤتي أكله.

في ظروف قد لا تتكرر كهذه، تنقلب المعادلة ويأتي اعتماد العالم علينا (كمستهلكين) في صالحنا أولا حين نفهم قوانين لعبة المثابرة، وندرك قوة الوعي الجمعي الذي نشهده حالياً.

يبقى السؤال: هل تكسب الفئة الشبابية الحرب الاقتصادية اليوم كما كسبت الحرب الرقمية لصالح فلسطين بتوحيد الجهد والمواصلة؟

المراجع
١. TRTArabi, https://bit.ly/3v7EX22
٢. BDSM, https://bdsmovement.net/a
٣. YNET, https://bit.ly/3yuPZ3a

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012