أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


لولا دا سيلفا من السجن إلى رئاسة البرازيل للمرة الثالثة

بقلم : موسى العدوان
02-01-2023 08:44 PM

في الأيام الأولى من هذا العام، نُصّب لولا دا سلفيا رئيسا جديدا للبرازيل للمرة الثالثة، وسط ترحيب كبير من الشعب ومن العديد من رؤساء الدول في العالم. ولهذا الرجل قصة مع بلده البرازيل، تستحق العودة إلى التاريخ والكتابة عنها، لمعرفة كيف ينهض الوطن بجهود أحد أبنائه المخلصين.

فجمهورية البرازيل الاتحادية هي أكبر دولة في أمريكا الجنوبية، من حيث مساحتها البالغة حوالي 8,5 مليون كيلو متر مربع، وعدد سكانها حوالي 190 مليون نسمة، وعاصمتها برازيليا. يحدها من الشرق المحيط الأطلسي ومن الجهات الأخرى العديد من دول أمريكا اللاتينية. تمتلك البرازيل الكثير من الثروات التي جعلتها مطمعا للمستعمر البرتغالي، الذي حكمها حوالي ثلاثة قرون، ولم يرحل عنها بصورة كاملة إلا عام 1827، مخلفا وراءه جيشا من الفقراء والجياع.

خلال عهد الرئيس الأسبق ( كار دوزو ) وصلت البلاد عام 2002 إلى حد الإفلاس، حيث بلغ الدين الخارجي 250 مليار دولار، نتيجة لاعتماد رئيسها على سياسة السوق الحر، والاستدانة من البنك، وصندوق النقد الدوليين. وقد عانت تلك البلاد من قسوة الظروف، إذ كان سكانها يعيشون حياة بدائية يطغى عليها التخلف والفقر المدقع، لدرجة أنهم راحوا يخلّفون الكثير من الأطفال، ليبيعوا أعضاءهم البشرية ( كالكبد، والكِلا، والقرنيات، الخ . . . ) إلى دول أوروبا وأمريكا ببضع دولارات.

في أواخر عام 2002 انتخب البرازيليون ” لولا دا سيلفا ” رئيسا للجمهورية، وهو الذي كان عاملا بسيطا اشتغل كماسح أحذية، وبائع برتقال، وكاوي ملابس، قبل أن يصل إلى منصب رئيس النقابات العمالية. وبسبب فقره فإنه لم يكمل حتى دراسته الابتدائية.

تعهد سيلفا لأبناء الشعب البرازيلي، أنه سيحقق لهم أحلامهم التي انتظروها سنين طويلة. ولكنه وعدهم بأن لا يتكلم كثيرا ولا يسرح بعقول الناس، بل سينقطع عن الكلام تماما، ( وسيترك إنجازاته تتكلم عن نفسها ). فقد أدرك سيلفا أن البرازيل لا تنقصها الأموال أو الموارد، بل عرف أن المشكلة تكمن في ترتيب الأولويات، وتحويل طاقات الحكومات السابقة نحو الأثرياء، ظنا منها بأنهم رافعة الاقتصاد الوحيدة في البلاد.

وعلى العكس من ذلك، اعتقد سيلفا أن رافعة البلاد الحقيقية تكمن في فقرائها، إذ أن 95 مليون يد عاملة هي كنز البرازيل الحقيقي. فدعا للنهوض بالفقراء لكي ينهضوا باقتصاد البلاد، وقدم اقتراحات تدعم ذلك التوجه منها : الخروج من عباءة البنك والصندوق الدوليين، تشجيع الصناعة، زيادة الإنفاق على القطاعات الاقتصادية، فتح علاقات جديدة مع الاتحاد الأوروبي، تشجيع السياحة والزراعة، وتطوير قوانين الاستثمار وغير ذلك.

هذه الخطة أرعبت الأغنياء ظنا منهم أنها ستسلبهم أموالهم. لكن الرئيس كان مصمما على تنفيذ خطته، وأطلق برنامجه الرائد ” معاش الأسر الفقيرة “، وهو الذي يمنح الأسر الأكثر فقرا راتبا شهريا مقابل تعليم أطفالها. ثم بدأ برنامجا للتدريب المهني، فأنشأ المدارس المهنية، وجامعات التطوير التقني في مختلف أرجاء البلاد. وركز على صناعة السيارات والأسلحة والإلكترونيات، وزيادة الاستثمار في النفط والغاز والحديد، فوفر أكثر من 20 مليون فرصة عمل، أدخلت الفقراء إلى سوق العمل، فغطت حوالي 46 مليون شخص أي ما يعادل ربع سكان البلاد.

وهكذا تحسنت القوة الشرائية للفقراء، وازداد الطلب على السلع، وزادت الصادرات من 60 مليار دولار إلى 152 مليار دولار سنويا، وارتفعت الاستثمارات في الإسكان من 7 مليارات دولار إلى 63 مليار دولار سنويا، وحقق الإنتاج الإجمالي قفزة عمودية من نصف تريليون دولار إلى ما يزيد عن 2,5 تريليون دولار سنويا. فتحركت عجلة الاقتصاد بسرعة هائلة، وبدلا من حمل البلاد دينا لصندوق النقد الدولي بمبلغ 250 مليار دولار في عام 2002، أصبح الصندوق مدينا للبرازيل بمبلغ 14 مليار دولار في عام 2010.

في زيارة لسيلفا إلى الولايات المتحدة، طلب منه الرئيس بوش الابن أن يدخل الجيش البرازيلي في الحرب مع قوات التحالف ضد العراق. فكان جوابه بكل ثقة : ” إن قضيتي ليست في الحرب مع العراق، ولكن قضيتي هي الحرب مع الفقر والجوع اللذين يواجهان شعبي “.

انتهت ولاية سيلفا في منصب رئيس الجمهورية بعد فترتين متتاليتين، امتدت من عام 2003 إلى عام 2011، استطاع خلاها أن يحقق معجزة اقتصادية عظيمة لبلاده. وبالرغم من مطالبة الشعب كله تقريبا بتعديل الدستور، لكي يبقى رئيسا للبرازيل لفترة ثالثة، إلا أنه رفض ذلك وخرج على الشعب بخطاب رئاسي وعلى الهواء مباشرة، حيث بكى ثم قال كلمته المشهورة : ” أنا لا يمكن أن أعدل الدستور لمصلحتي مهما حصل، حتى لو كان فيه خير لبلادي، لأنه يمكن لأحد بعدي أن يعدل الدستور على مزاجه، وقد يكون في ذلك ضررا كبيرا على البرازيل “.

وهكذا في أقل من 8 سنوات حقق سيلفا ” معجزة النهضة البرازيلية “، ليقدم للعالم تجربة فريدة وملهِمة لشعوبها، حيث أصبحت البرازيل في عام 2010 تحتل المركز السابع عالميا من حيث قوة الاقتصاد، محققة نسبة نمو تبلغ 7,5 % . وحينما سئل كيف حققت هذا ؟ أجاب بتواضع شديد : ” اعتبرت أن معركتي الوحيدة هي في نهضة البرازيل “.

وخرجت البرازيل تلك الدولة القابعة في أدغال غابات الأمازون، من ركام التخلف والفقر والجهل، لتتسلق سلّم النجاح والنهضة وهي أكثر قوة وتماسكا، لتصبح دولة صناعية أطلق عليها لقب : ” اليابان الجديدة “. كما أصبحت عضوا في دول مجموعة البريكس الأكثر نموا في اقتصاد العالم.

انتخبت بعده نائبته السيدة ديلمار روسيف لقيادة البرازيل، ولكنها أهدرت أموالا كثيرة لاستضافة كاس العالم، فعمت المظاهرات مختلف مدن البرازيل ضد الرئيسة الجديدة، وأقيلت على وقع قضايا الفساد، وتولى الحكم الجنرالات المدعومين من النخبة، لتصبح تجربة سيلفا أبو الفقراء على مفترق طرق ثم تعود إلى الوراء، ويُودع سيلفا ظلما عام 2018 للسجن بتهمة الفساد وغسيل الأموال.

واليوم وبعد 12 عاما من مغادرته المنصب، يعود سيلفا البالغ من العمر 76 عاما للحكم، بانتخابات شعبية جديدة، وسط ترحيب كبير من شعبه ومن زعماء العالم، بعد أن قضى 14 شهرا من عامي 2018 و2019 في السجن بتهم زائفة، حيث حكمت المحكمة العليا ببطلان تلك التهم وإخلاء سبيله. وفي أول خطاب له مساء الأحد الماضي وعد الشعب البرازيلي بالوحدة وإعادة بناء الأمة، وجعْل البرازيل وطنا للجميع. ومن الجدير بالذكر أن الرئيس سيلفا يرتبط بعلاقات جيدة مع دول الشرق الأوسط، ومناصرة القضية الفلسطينية.

من المؤسف أننا عندما ننظر إلى الدول التي كانت في العقود الماضية، أكثر تخلفا من الأردن وبعضها بلا موارد طبيعية، سواء كانت في جنوب شرق آسيا أو في أفريقيا، أو في أمريكا اللاتينية، فنجدها قد تقدمت وأصبحت من أوائل الدول الصناعية، وطورت حياة شعوبها. ولكننا في هذا البلد ما زلنا نرزح تحت مظلة الدول المتخلفة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ننتظر المنح والمساعدات التي تتصدق بها الدول الغنية علينا.

رجل في أمريكا اللاتينية لم يكمل دراسته الابتدائية، اعتمد على نفسه دون وساطة من أحد، فوصل إلى رئاسة جمهورية البرازيل في العقد الأول من هذا القرن، ونهض بها إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة، ونحن لدينا من جهابذة الاقتصاد والسياسة حاملي الشهادات العالمية من هارفارد، وكيمبرج، والسوربورن وغيرها، ولكنهم فشلوا في إدارة الدولة، وتعهدوا بصنع أزمات متلاحقة، دون أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بل أغرقونا بالديون التي سينال أحفادنا نصيب منها، وأصبحنا لا نعرف طريق الخلاص ولا كيف ستكون النهاية؟

وطالما أن المناصب الحكومية لدينا منذ عقدين على الأقل هي حقل تجارب، خاضها أصحاب الشهادات العالمية، فكانت نتائجها الفشل الذريع، فلماذا لا نختار من أصحاب الشهادات الثانوية والمتوسطة من أبناء البلد، العارفين بقضايا الشعب واحتياجاته، ونجرّبهم في إدارة الدولة ؟ فقد يكون هؤلاء أكثر فهما لقضايا الوطن والمواطنين، وأحرص من غيرهم على مصلحة الدولة بشكل عام . . !

التاريخ : 2 / 1 / 2023



التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012