أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


لا هذا اليسار يسارنا ولا هذا اليمين يميننا

بقلم : محمد البدارين
06-08-2023 11:06 PM

اللواء محمد البدارين

في تلك الأيام العصيبة ، كنا نراقب فلول اليمينيين الهاربين عبر كل المعابر طلبا للسلامة ، وفي الوقت نفسه ، كنا نتابع خطابات اليساريين الهائجة في ردهات فندق الأردن بجبل عمّان ، الذين انتصروا توا على الركاب المدنيين وفجروا الطائرات المخطوفة في (مطار الثورة ) بمنطقة قيعان خنّا ، واقتادوا الركاب رهائن واخفوهم في أماكن متفرقة ، فيما شعارات اسقاط النظام العميل ، وكل السلطة للمقاومة ، تسد الافق في شوارع المدن الأردنية ، ويتردد صداها عبر اثير الإذاعات ، وسلطة الدولة آخذة في التلاشي يوما بعد يوم ، الى الحد الذي اصبح فيه عاديا ان توجه للملك أسئلة صحفية علنية مثل ( هل انت فعلا سيد الأردن ، هل انت مستعد لتغيير اسم بلادك ، هل انت مستعد للتنازل عن العرش ).

لكن المشير حابس المجالي العائد توا للخدمة قائدا للجيش ، والمعيّن من قبل الحكومة العسكرية حاكما عسكريا عاما للبلاد ، كان يحتفظ بكل هدوئه ، ولم تتشوش فطنته في معرفة الأوزان الحقيقية للأشياء والأشخاص وكل الأمور ، حتى استغرب المراقبون ، قلة قيمة الجائزة المالية التي خصصها لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض على الزعيمين اليساريين البارزين ، جورج حبش ونايف حواتمه ، البالغة 500 دينار اردني فقط ، دون توضيح فيما اذا كانت الجائزة على أي منهما ام على الرجلين معا.

وفيما بعد ، سيتضح ان المشير كان اعرف بكل اليسار وكل اليمين ، فهذا نايف حواتمه الذي يطلق على جبهته اسم الديمقراطية ، لا يزال يتربع على عرشها كحاكم ابدي منذ انشقاقه عن رفيقه حبش ، الذي ظل هو الاخر يترأس الجبهة الشعبية حتى قبل وفاته بقليل ، ولأن الحال من بعضه ، كانت تلك هي حالات الامتدادات اليسارية واليمينية والقومية والإسلامية والعشائرية في الأردن والعالم العربي عموما ، فكما يرث الأولاد دكاكين ابائهم ، بات من المألوف ان يرث الأبناء في المشرق ، وفي المغرب أيضا ، دول ابائهم والأحزاب والمنظمات والوزارات والثروات ، ومن بين الأمثلة الكثيرة التي يعرفها كل الأردنيين وكل الفلسطينيين وكل العرب ، يحلو لنا ان نشير الى ابن الرفيق احمد جبريل الذي يتزعم الان جبهة والده بكل ثقة واقتدار ، واضعا جبهته في قلب محور المقاومة والممانعة لاستمرار الكفاح ضد الامبريالية والصهيونية والمؤامرات الكونية ، انها قصص معروفة للصغير والكبير ، وبات الكلام فيها مملا ، لولا ان السيدة رغد كسرت الرتابة والملل ، بنشرها خارطة نسبها الشريف ، وهي تتحفز لخدمة العراق وشعبه ، العراق الذي استولى على حكمه والدها ورفاقه عام 1968 ، كدولة مستقلة ذات سيادة ومزدهرة ، ثم تركوه قاعا صفصفا.

ومن بين كل العواصف ، كانت المدرسة السياسية الأردنية الطالعة منتصف القرن الماضي ، تزدهر بالأفكار والرجال والقادة ، بالتزامن مع كل الانحطاطات السياسية المعدية التي كانت تستشري كوباء في الجسم العربي ، حيث تفوق وصفي التل بفكره التقدمي العميق وقوة بصيرته وسلامة اختياراته ، على كل الاتجاهات اليمينية واليسارية الهائجة ، وكرس نهجا اقتصاديا اسكندنافيا بروافع فكرية متصلة بالواقع الحقيقي ، في سياق فهم متكامل لطبيعة النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الأردني والمجتمعات العربية ، بوصفها مجتمعات تعاني من التخلف ، وتنتمي لما تسميه المؤسسات الدولية تلطفا وتشجيعا ، مجموعة الدولة النامية.

وحين هبت رياح العولمة ، أصيب يسار الساحة الأردنية بلوثة الليبرالية الجديدة تحت غطاء التيار المدني ، واختلطت بقايا اليسار مع ما يسمى اليمين مع عشائريين متزايدين ، واسلاميين اخوانيين وغير اخوانيين ، مع ما يمكن تسميته متفرقة ، في مشهد وطني عام ، لا نملك اية ادلة ، تثبت انه وطني او انه عام ، لكنه هكذا يوصف في ادبياتنا العشوائية المنتشرة من اقصى اليسار الى اقصى اليمين ، وتعبر عن نفسها بشكل فلسفي باذخ في الجاهات التي يقودها عادة رجالات النخب من كل الاتجاهات.

وسنة بعد أخرى ، كانت المدرسة الأردنية تتوسع في ما يسمى سياسات الاحتواء والاستقطاب ، الى حد المبالغة الزائدة عن الحد ، بشكل أدى لمزيد من الاضرار في بنية مؤسسات الدولة وأجهزتها وسلطاتها ، وتحت عناوين خادعة ، صار ممكنا تسويق الأفكار والأشخاص والقرارات وبيع زيت الزيتون بزجاجات كالعطور ، وعرض البترول المكتشف بزجاجة أيضا وبيد ناعمة ، وتراجعت الى حد كبير قدرة الدولة العميقة على معرفة الاوزان الحقيقية للأشياء والأشخاص والتدقيق في فحوى الأمور ، وعلى اكثر من صعيد كان هناك اكثر من دليل على مظاهر التقصير ونتائجه وانعدام القدرة على الاتصال والمواجهة ، وشيوع لغة التبرير والتسطيح في الخطاب الرسمي وشبه الرسمي ، فلا يزال المسؤول الأردني يدعو مستمعيه لمقارنة الوضع بالمحيط لا بالمدينة الفاضلة ، وكأنه لا يزال هناك دول في المحيط للمقارنة معها ، او كأن واحدا من الناس يطالب بالمدينة الفاضلة ، والحقيقة ان اللغة الرسمية باتت مصابة بداء الفقر وانعدام المنطق المتصل بالواقع ، وهي تكرر منذ سنين طويلة ، عبارات فاقدة للمعنى ، مثل ، العقل السليم في الجسم السليم ، لا توجد عصا سحرية ، العدالة المطلقة في السماء ، وتدعو أحيانا لمزج الطبخات لتعزيز الوحدة الوطنية ، يقولون كل ذلك ، وكأن ستيفين هوكنغ كان سليم الجسم ، او كأن هناك اردنيا واحدا يطالب بالعدالة المطلقة لا العدالة النسبية ، او كأن هناك من يعتقد بوجود عصا سحرية فعلا ، او كأن الانقسامات في المجتمعات بسبب أنواع الأطعمة والمشروبات ، انها حالة محزنة ان تصل ادبيات المدرسة السياسية الأردنية الى كل هذا المستوى من التسطيح.

يطول الشرح ، لكن الحلول السهلة هي تلك التي باتت الدولة تجنح لها ، بالمبالغة بتغليظ العقوبات في قوانين معينة ، في حين ان قوانين كثيرة ذات أهمية اكبر لا تجد من يطبقها او ربما من يعلم بوجودها ، فليس هناك شيء اسهل من الاجبار والارغام وفرض الغرامات والعقوبات لدى الدولة صاحبة القوة القاهرة ، لكننا نتوقع من الأردن ان لا يخشى الحلول الصعبة الأكثر نجاحا وعمقا وفاعلية ، ولم يعد مقبولا او منطقيا مقارنة الأردن ببلدان مثل لبنان وسوريا والعراق ، فهذه بلدان كانت دول سابقا ، ولا داعي ان نظل نردد عبارات المرحوم محمد امين في تقريره التلفزيوني الشهير ، قارنوا أنفسكم بالصومال والسودان ، فبمثل هذه المقارنات سنتراجع الى نقطة الصفر ونحن مسرورين باحتفاظنا بالمرتبة الأولى في ما يسمى المحيط.

اننا ونحن من جملة المؤمنين حقا بقدرة الأردن على احراز التقدم الحقيقي ، لن نستسلم لخطابات المرتدين والمؤلفة قلوبهم والضائعين ، وسنظل نؤمن بأن الأردن وطن لا شبيه له بين الأوطان.





التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012