أضف إلى المفضلة
الجمعة , 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
الجمعة , 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


ابن الثلاثة مخيمات !

بقلم : رشاد ابو داود
28-08-2023 12:57 AM

لم أكن يوماً يسارياً ولا يمينياً لكني كنت على الدوام سياسيا ً. ففي طفولتي كنت أنا نفسي نتاج حالة سياسية هي الأخطر في القرن العشرين وتحديداً في بداية نصفه الثاني . تولد في خيمة ، ترى أمك تكنس حوش الخيمة بمكنسة من ناعم الحطب . تطبخ على بابور الكاز ما تيسر من خبيزة و بقلة ومجدرة عدس ورز من ' كرم' وكالة غوث اللاجئين .
تنام مع اخوتك وأبيك و أمك على فرشات ' شرايط' تصنعها ماكينة ذاك الرجل الذي كان يمر موسمياً على المخيم فيتهافت الناس عليه حاملين ما اهترى من ملابس ولم يعد يجدي معها الترقيع . كانت هي الأخرى من مكرمات الوكالة اياها التي كانت توزع ' البُقج' على اللاجئين . يضع الرجل الملابس في ماكينته فتطحنها ليخرج ما يشبه القطن أو الصوف ، حسب قماش تلك الملابس .
تخيط الأم ما يشبه الكيس من قماش جديد ، تحشوها فيه ثم بابرة كبيرة و خيط متين تصنع خطوطاً طولية متوازية ثم عرضية فتثبت الحشوة في 'الكيس' و ... ينام الكل كالسمك في علبة السردين ، ثلاثة على فرشتين و أحياناً أربعة .
الحاجة كانت أم 'اعادة التدوير ' في مطحنة الشرايط !
كنت طفلاً لا أعرف ما الذي أسكننا في خيمة . صيف حار وشتاء بارد . ثلج يكاد يهدم الخيمة و خيبة في عيون الأب يطفئها صبر وصدرالأم الحنون ' معلش بكرا بنرجع ، حكولنا كلها كم يوم وبنرجعكم ' . لم تكن تعلم أن القصة كبيرة ، أكبر من كم يوم وأطول من سبعين سنة . وأنهم اقتلعوا بمؤامرة دولية من بيوتهم و أرضهم ليأتوا بغيرهم من شذاذ الآفاق وشتات العالم الذي ضاق ذرعاً بخبثهم و نجاستهم ليحلوا محلهم ، فيسكنوا بيوتهم ويغيروا أسماء مدنهم و قراهم ويسرقوا تراثهم وأزياءهم وفلافلهم و حمصهم و..اسم بلادهم !
لم أكن أعرف أن 'كرت المؤن' مجرد تعويض عن وطن . وأن ما يتصدقون به على اللاجئين من رز و سمنة و عدس وطحين ما هو الا بديلاً هزيلاً لقمح البلاد وبرتقالها ،الذي كان يصدر الى أوروبا ، و ليمونها و بياراتها وخضرواتها ولبنها وعنبها وعسلها .
في مخيم عسكر القريب من نابلس حيث توزع اللاجئون في مخيمات حول و قريباً من كل المدن في ما تبقى من فلسطين ومنها تنطلق أغلب عمليات المقاومة الأن ، درست الصف الأول . ولم أزل أتذكر خيام المدرسة ومقاعدها و أساتذتها وتلاميذها وكيف كان أبي يتفاخر أن ابنه جاب الأول على الصف . وأتذكر كيف حلقوا لنا على الصفر كمتلب للنظافة وكيف كان لون الزي المدرسي بنطلون كاكي و قميصاً أبيض .
المخيم الثاني كان في عمان حيث وجدنا في الأردن وطناً . مخيم الحسين لكنه كان بدون خيم. بيوت مكومة ملتصقة ببعضها يفصل بينها شارع وحيد على جانبيه دكاكين صغيرة ، خضار ولحام و وسمكري وبقالة وبائع فول وحمص يملأ الصحن بقرش وعشرة أقراص فلافل أيضاً بقرش . بين كل عشرة صفوف صف عريض يسمى شارع الحنفيات . خمس حنفيات يقابلها خمس أخرى . تذهب النساء كل معها سطل وبيدها جلن صغير و..على الدور لأن الماء كان يتوفر مرتين أو ثلاث في الأسبوع ولساعات محدودة .
انتقال أهلي من مخيم عسكر الى مخيم الحسين العام 1957 جاء متاخراً . فلم يعد ثمة بيوت توزع . فاتخذوا من سفح جبل النزهة الملاصق للمخيم ، وكان السفح مجرد جبل لم تنبت فيه البيوت و العمارات بعد ، بيوتاً من الزينكو يفصل بينهم وبين أسفل المخيم سيل كان عنيفاً هادراً في أيام المطر و عطشاناً ناشفاً في الصيف .
عشنا في مخيم الحسين سنتين ثم انتقلنا الى مصدر رزق آخر في منطقة جناعة الملحقة بمخيم الزرقاء .
وبقيت 'حالة سياسية' دون أن أكون سياسياً ، لا يسارياً ولا يمينياً !
وتلك حكاية أخرى....

' الدستور'

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012