بقلم : الدكتور سالم عبدالمجيد الحياري
31-07-2012 12:47 PM
خلال دراستي للطب في جامعة غرناطة في منطقة الاندلس بجنوب اسبانيا في منتصف الستينات , كان طريقي اليومي الى الكلية يقودني الى المرور في شارع (شارع(Oficios تقوم به بناية مهيبة يلاحظ فيها العراقة والفن المعماري النادر,عرفت حينها انها الجامعة الرئيسية لمملكة غرناطة العربية الاسلامية المفقودة, وانها افتتحت عام 1349م في عهد الملك يوسف النصري ملك غرناطة و لا تزال تتبع جامعة غرناطة الى يومنا هذا دون تغيير اسمها,حيث تسمى Almadrasa de Granada اي مدرسة غرناطة ,ولاقامتي 6 سنوات للدراسة لاحظت شوارع في المدينة لاتزال تحمل اسمائها العربية مع تحريف بسيط باللفظ كما ينطقها الاسبان, والامثلة كثيرة ,ولكن هنا بعضها : شارع الزعفرية Zafarraya, البيرة Alvira, زوبيا Lazobia ,المنصورةAlmanzora , البيضاء Albelda وفي ضواحي غرناطة, نجد ارجونا Arjona, البرج Alborg وقلعة ايوب Calatayud, الغربي Algarve وفي اسبانيا هناك منطقة الشرقية Axarquia, البشارات Alpujarra , وادي الرمانGuorroman ,الزيتونة Aceituno, الحمةAlhama , أزهار Azaharأو أسماء أنهار مثلا نهر الوادي الكبير Guadalquivir أو نهر الدر El Darro والامثلة لا تعد ولا تحصى ( للاستزادة راجع مؤلفات الاستاذ الدكتور محمد عبده حتامله, استاذ الشرف بالجامعة الاردنية وهو متخصص بالتاريخ الاندلسي , والمراجع بهذا الصدد غزيرة )
كانت ايزابل ملكة لقشتاله Castilla اكبر مملكة في شبه جزيرة ايبريا وهي ابنة ال 18 عاماَ وكانت مغرمة باحد الامراء ,بينما كان فرناندو ملكاَ على اراغون Aragon. ارسلت ايزابل سراَ, رسولاَ لفرناندو انها مستعدة للزواج منه,بعد ان حاول التقرب منها, بشرط توحيد المملكتين فوافق , بعد ان ضحت بفتى الاحلام, بعدها انطلق الملكان باحتلال (تحرير) الممالك العربية الواحدة تلو الاخرى, كان اخرها مملكة غرناطة ,ووحدوها تحت اسم مملكة اسبانيا الموجودة حالياَ وقبل انفصال البرتغال .
في 2 يناير 1492م استفاق سكان غرناطة العاصمة واذ بالعلم الاسباني يرفرف من فوق اعلى برج في القصرالملكي – قصر الحمراء – وقبل الظهيرة وفي احدى ساحات المدينة قام ملك غرناطة ابو عبدالله الصغير بتسليم مفاتيح القصر والمدينة الى الملوك الكاثوليك الزوجين ايزابل وفرناندو ( كان قد وقًع اتفاقية سرية معهم مقابل مليون قطعة ذهب ). كان الزهو والبهجة واضحتين على وجوه الملك والملكة وجيشهم,بينما كان اهل غرناطة يبكون وينوحون ويشتمون ملكهم على تفريطه وخيانته وبيعه للوطن , وعرفوا لحظتها ان مملكتهم قد ضاعت منهم .
تفرغت الملكة ايزابل بعد طرد الاعداء (العرب ) لتقوية الدولة ومزاحمة القوى العظمى آنذاك , فقامت بتمويل حملة كولومبوس لأكتشاف العالم الجديد ,اصبحت اسبانيا بعد اكتشاف امريكا وسيطرتها على معظم العالم الجديد دولة غنية وامبراطورية يحسب لها الحساب من دول العالم في ذلك الوقت .
بعد هذه الانجازات الهائلة للملكة ايزابل : توحيد البلاد, طرد الاعداء بالنسبة لهم واكتشاف امريكا اصبحت بالنسبة للاسبان القدوة والبطلة القومية, مما حذى ب بندكتوس السادس بابا الفاتيكان ( عام 1478م ) منحها لقب القديسة فأصبحت القديسة ايزابل Santa Isabel وهو تشريف عظيم لمن يحصل عليه بالنسبة للمسيحيين الروم الكاثوليك . المصادر:Camilo Alvarez De Morales استاذ تاريخ ' اسبانيا المسلمة' . Biografias Granadinas.
لم تقم الملكة ايزابيل بأطلاق اسمها على الجامعات العربية الاسلامية القائمة حينها ولا على الشوراع المهمة في المدن,او على او الضواحي التي استرجعتها من الاعداء , بل ابقتها على حالها من حيث التسمية , او اطلقت على بعضها اسماء وطنية لقادة عظام او قديسين من بلادها مع انها كانت قادرة على ذلك وهي محررة الوطن وبانية مجده وموحدته.
في 2 ايلول من عام 1962 اسست الجامعة الاردنية فوق اراضي ما كان يعرف بمستنبت الجبيهة وكان الشارع المحاذي له معروفاَ للعامة بنفس الاسم والذي اصبح ولحد الان يعرف بأسم شارع الجامعة الاردنية بالنسبة للناس رغم تغييره رسمياَ باسم شارع الملكة رانية العبد الله قبل 12 عاماَ .
اللافت لللانتباه بل ويدعو لاستغراب الشعب, ان مؤسسات كثيرة من مستشفيات ومعاهد ومدارس ومراكز بحث بالجامعات الرسمية في المملكة الاردنية الهاشمية تحمل نفس الاسم عدا عن الحدائق والقاعات في بعض المؤسسات الرسمية بل وصل التقليد الى بعض المؤسسات الخاصة !! وشوارع رئيسة في المدن وبعض البلدات واكثرها غُيِر اسمها كما حدث مع شارع الجامعة الاردنية , او وضع على مؤسسات جديدة !!! ولا يتسع المجال هنا لذكرها كلها وذلك لكثرتها.
عندما ذهبت إلى بريطانيا لدراسة الإختصاص أقمت في منطقة كليفلاند وزرت مدن أخرى أذكر منها ساوث هامبتون، كنت، أدنبره وطبعاً لندن، لاحظت أن اسم الملكة اليزابيث لا يوجد فوق المؤسسات أو الشوارع والبلدات بل أسماء أبطالهم من القادة العسكريين اللذين حققوا لبلادهم النصر، أو المشاهير من الرسامين والمخترعين....الخ
لا غرابة أن توضع أسماء أشخاص قد حققوا إنجازات مهمة لبلادهم أو تركوا بصماتهم في تاريخ الوطن. وهنا يأتي السؤال: ما هي الإنجازات التي تحققت عندنا ؟. إلا إذا اعتبر عمل شرخٍ عامودي بين المواطنيين إنجازاً، أو ملاحقة آخر صرعات الموضة واللباس إنجازاً، أو الظهور على صفحات المجلات العالمية إنجازاً، أو الإفتاء في برنامج تلفزيوني عالمي شهير بأن الحجاب هو عادةً وليس فرضاً في الشريعة الإسلامية إعتباره إنجازاً. !!!
إن إختزال تاريخ وطن وشعب عريق منذ الحارث الأول وعبادة، مروراً بأسماء شخصيات وطنية قارعت الإستعمار، وموجات الإحتلال وسنوات الإستبداد والقهر، وصولاً إلى أسماء قادة وطنيين حملوا لواء الرفض بل وقادوا ثورات نتيجة إقصائهم وشعبهم في الربع الأول من القرن الماضي وعند إقامة إمارة شرق الأردن، وقيام الآباء والأجداد ببناء المؤسسات الوطنية بجهودهم وكَدِهم وعرقهم في الربع الثاني من القرن الماضي ، ومواصلة أبنائهم وأحفادهم على نفس الدرب في النصف الثاني من القرن نفسه، أقول إن إختزال هذا التاريخ وأسماء صانعيه بإسم واحد أوحد، يجعل المواطن الطفل والشاب يعتقد أن هذه المؤسسات والتي تحمل نفس الإسم قد أنشئت فقط منذ عقد من الزمن أو يزيد. بل ويجعل القارىء الجديد لتاريخ الأردن يعتقد أن المملكة الأردنية الهاشمية قد أنشئت حديثاً ولم تكن شيئاً قبل هذا التاريخ.
إن العقل والمنطق والحقيقة تستوجب مراجعة هذا المسار ووضع أسماء أصحاب الإنجازات من أجل الوطن في مقدمة كل شيء. وإن من يحب مصلحة الوطن والشعب يجعل هذه من أولوياته.