بقلم : الدكتور سليمان الرطروط
18-09-2012 09:28 AM
في منتصف العقد الثامن من القرن المنصرم إلتقيت مع مجموعة من طلبة الإعلام أحد الصحافيين الأردنيين في الخارج، ولدى سؤالي له عن سبب هجرته، قال لي: إنه كان شاباً صغيراً سنة 1957م وصحفياً مغموراً، فأراد الشهرة فكتب مقالاً يتعرض به للدين الإسلامي وبعض رموزه في حينه ، وما هي إلا أيام حتى ثارت عليه المساجد والخطباء، فأصبح مشهوراً، والصحيفة التي كتبت مقالته زادت مبيعاتها، وإزاء ذلك تقدم بطلب للهجرة لأحدى الدول الأوروبية ، فما كان منها إلا أن وفرت له فرصة عمل ، وهاجر إليها، ومنح جنسيتها، وتزوج من أهلها.
وقد كتب سليمان رشدي عن رسول الله روايات هزيلة وتافهة، وشعر يشمئز الأطفال الرضع من سماعه، فأهدر الخميني دمه، فذاع اسم سليمان رشدي، ومنح الجنسية البريطانية والأوسمة الغربية. وفي مصر وجلباً للشهرة الكاذبة أخرج أستاذ جامعي بحثاً ناقض فيه الإسلام، فهب الناس، فاشتهر اسمه ومنح اللجوء السياسي في أوروبا. وفي الدنمارك قام رسام مغمور وفي صحيفة لايباع منها إلا أقل القليل، بنشر رسوم كاريكاتورية للرسول _ صلى الله عليه وسلم_ ، فثارت الثائرة لدى المسلمين، وحرقت المنتجات الدنماركية ...الخ، ولكن ذلك الدعيّ والصحيفة المغمورة أصبحا علمين عالميين.
وأخيراً وليس آخراً عرض الفلم المشؤوم عن حياة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ، وبسيناريو كاذب وآثم، وبإخراج سيء، ونص مبتذل، وتمثيل هابط المستوى؛ فاشتعلت العاطفة الشديدة عند المسلمين في كل مكان، غيرة على دين الله، ورسوله الكريم. هذا وقد ضاقت على البعض السبل في كيفية الردّ على ذلك، فهجم البعض على السفارات الغربية؛ فحرق بعضها، وقتل أحد السفراء، وبعض الحراس والموظفين، وأصيب العديد من المتظاهرين بسبب تصدي قوات الأمن لهم، واعتقل آخرون... ألخ.
والناظر لتلك الاحتجاجات يرى أن العاطفة الجياشة هي لنصرة الرسول الله_ صلى الله عليه وسلم _ وهي دلالة حب وإيمان، وتنزيه للرسول الكريم من كل بهتان، ورواية زور، ومقالة سوء. وأظهرت أن المسلمين رغم تباعد أماكنهم، وتنوع لغاتهم، وتصادم دولهم ومصالحهم، إلا أنهم جسد واحد، ومشاعر متلاحمة، أمام أي قدح وذم برسول الله_ صلى الله عليه وسلم_.
ولكن تاريخياً هل هي المرة الأولى التي تم بها النيل من الرسل جميعاً، وبالأخص من محمد _ عليه الصلاة والسلام_ ؟. من يرجع لكتب السيرة والأخبار يجد الكثير من التهم للرسول محمد _عليه السلام_، سواء من الكفار المشركين أم من المنافقين، وهؤلاء قد اتهموه بعرضه، وبما تقشعر منه الأبدان. وهذه التهم والتقول بالباطل ، وإلصاقها برسول الله لم ينقطع منذ بداية البعثة وحتى الآن.
وقد كتبت بحثاً مطولاً عن إتهامات الكفار للرسل والأنبياء _ عليهم السلام_ كما ذكرها القرآن الكريم، _ وليس هنا مجال لعرضه _ وإزاء ذلك كله كان القرآن يعرض تلك الأكاذيب والمقولات الفارغة بجمل بسيطة وشاملة، وإعجاز منقطع النظير ثم يرد عليها بعبارة قوية ، وحجة بليغة . فمثلا عندما أشاع كفار مكة أن القرآن من تعليم حداد رومي كان يضرب على العود ويغني في مكة، ويقول الأشعار ، قال الله: ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) وحتى في عهد رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ ظهر مسيلمة الكذاب، والذي أطلق كلاماً هزيلاً ممجوجاً لمعارضة القرآن الكريم، فكان رد المسلمين عليه شعراً. ولما جيّش الجيوش كانوا له أسوداً في ساحة الوغى.
ولكن لنعلم جميعاً أن النظام السياسي والإعلامي والاقتصادي ...الخ في دول الغرب مختلف عما إعتدنا عليه، فغالباً لدى دول العالم الثالث _ وكل دول العالم الإسلامي منها_ لا ينشر أو يعرض أي أمر إلا بموافقة الحاكم بأمر الله وأتباعه. ولذا نعتقد أنه في دول الغرب لا يعرض أو ينتج أي فلم، ولا تنشر أي صحيفة مقالاً ما إلا بعد المرور على مقص الرقيب، وفي هذا مجانبة الحقيقة. ونحن معذورون فلم نعش جو الحرية والتعبير؛ ولذا فلا ندرك حقيقتها ، وكيف هي في الغرب.
ولما حدثت وقائع 11 سبتمر في الولايات المتحدة، ومن باب رد الفعل قام البعض هنالك بمهاجمة المسلمين والمراكز الإسلامية ...الخ مما أحدث الذعر والرهبة في قلوب المسلمين، ولذا فقد وقع على المسلمين فعل ظالم ، عقاباوجزاء لما قام به آخرون، وهم لا علاقة لهم بذلك، ولم يستشاروا به ، والكثير منهم يرفضه ولا يؤمن به.
ولذا فإن مهاجمة السفارات والقنصليات لدول يتعمد بعض أفرادها الإساءة للإسلام ورسوله_ صلى الله عليه وسلم_ ليس من هدي الإسلام ونهجه. فما قام به ذلك الدعيّ والذي يقال أنه يهودي ويحمل الجنسية الإسرائيلية ، لم يستشر به أي حكومة غربية، أو اي مسؤول دبلوماسي غربي، وقد يكون البعض منهم غير راض عما فعله.
وعلى ما يبدو أن ذلك الفيلم الكاذب كانت له أهداف كثيرة؛ منها تشويه صورة العرب والمسلمين في دول الغرب وقطع أي تعاطف معهم ، أو مع أي قضية من قضاياهم. ثم إبقاء صورة ما يسمى بإسرائيل بالدولة الضعيفة أمام حقد المسلمين ووحشيتهم،مما يترتب عليه زيادة التسليح العسكري، والدعم السياسي والاقتصادي لها؛ لأنها حامية المصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
وتعمد تلك التصرفات ونشرها إلى تشوية صورة الثورات العربية الحديثة، والأنظمة الإسلامية الجديدة في المنطقة، وإقناع الغرب أن الإسلام المعتدل ذو النظرة الوسطية لا يختلف عن المجموعات الإسلامية المتشددة، وإن اختلفت الأسماء.
وكذلك تظهر وتبرز أن المسلمين لا يحترمون مشاعر الآخرين ، ولا يراعون الأعراف والقوانين الدولية، فالرسل والسفراء لا يقتلون في كل الشرائع الدينية والوضعية ، ورسولنا _عليه السلام_ نهى عن قتل النساء والأطفال والعجزة والمسالمين، والرهبان ورجال الدين، والأسرى. وحتى في القصاص ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة.
وأظن أن من هيّج المسلمين المخلصين في ليبيا ودفعهم لإحراق السفارة ،وقتل السفير الأمريكي كان من تخطيط وتدبير وتحريض الموساد الإسرائيلي من دون أن يعلموا. بل ومن صنع ذلك الفيلم الخبيث، ثم أظهره للعلن إنما هو من صنع يهود وحقدهم؛ ليزيدوا من حقد الغرب على المسلمين.
وقد بات من المعلوم لكل المتابعين للسياسة في الشرق الأوسط أن هنالك تعارضاً في الرؤى بين أوباما ونتنياهو، ولذا جاءت تلك الحادثة وكأنها لصب الزيت على النار ، وكأحد العوامل لإسقاط أوباما والحزب الديمقراطي الأمريكي، ولإظهار أمريكا والتي تغض الطرف عن الحركات الثورية العربية، وكأن ماحدث كان نتيجة سياستها المتساهلة، والعمل كذلك على إدخال أمريكا في حروب ضروس ومباشرة جديدة مع المسلمين، بالإضافة إلى حربها في أفغانستان وغيرها. ولا ننسى ما صنعه نتينياهو في الماضي مع الرئيس كلينتون عندما شهّر به في العلاقة مع الإسرائيلة مونيكا والتي تسكن في إحدى المغتصبات من أرض فلسطين ، وكان ذلك عندما حاول كلينتون الضغط السياسي على إسرائيل.
وقد أحسن صنعاً المسلمون في العديد من الدول الغربية عندما قاموا بتوزيع الكتب والإسطوانات الإلكترونية التي تتناول شرح حياة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، هذا وقد قابلت مدرساً جامعياً أمريكياً ، أخبرني أنه قرأ كتيباً صغراً عن حياة رسول الله وأخلاقه، فأعجب بتلك الشخصية، وبدأ بالمزيد من القراءة والبحث حتى هداه الله.
وخير ردّ على الذين يحاولون الإنتقاص من مكانة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، هي العمل على نشر الإسلام، وإتباع أوامر الله والاقتداء برسول الله.واجتناب مانهى الله عنه، ونهى عنه رسوله _عليه الصلاة والسلام_.
إن الغرب عموماً وفي العصر المعاصر ومنذ إسقاط الدولة العثمانية واحتلال كل العالم العربي تقريباً،لم يأل جهداً في الهجوم العسكري والإعلامي والاقتصادي ...الخ للنيل من الإسلام، ولكن الردّ على ذلك الهجوم الشرس يكون بكل السبل كذلك، مع مراعاة قيّم الإسلام وآدابه وأخلاقه، وأعراف المجتمعات البشرية المعتبرة شرعاً. ونحن نعامل الآخرين بديننا وأخلاقنا، وليس بأخلاقهم. فالقتال له ميدانه، والإعلام له مضماره، والسياسة والدبلوماسية لها طرقها.
ولكن من حق الناس التعبير عن رفضهم وسخطهم ، وإبلاغ رسائل واضحة للشعوب الأخرى والحكومات الرسمية عن إدانتها لذلك العمل الآثم، ولكن دون تدمير وتخريب . ولكم أن تتصورا لو أن سفارات العرب والمسلمين ، وكل مسلم أو عربي تعرض للأذى نتيجة مقال أو فيلم أساء لثقافة الغرب ورموزه، أو بسبب تفجير في إحدى الدول الغربية، فهل نرضى بذلك؟
إن الاندفاع وراء العاطفة الجارفة أحيانأ دون التفكر في العواقب قد يدفع بالأمة لمزالق ومخاطر هي في غنى عنها. حمى الله المسلمين من كل سوء وحفظ أعراضهم وأوطانهم ودماءهم، وصلى وسلم وبارك على رسوله، والله أكبر على من ظلم وتجبر.
sulaiman59@hotmail.com