بقلم : الدكتور سليمان الرطروط
25-09-2012 09:14 AM
شاركت في حلقة تلفزيونية عن الإسلام والعمل السياسي وحقوق الإنسان في سنة 1994م على ما أذكر ، وذكرت أنه لا خلاف في الجوهر الحقيقي للديموقراطية عن مفهوم الشورى في الإسلام. وتلقيت إتصالات غاضبة عدة تقول: إن الديموقراطية منشأها النظام الكافر، وأن الديموقراطية يمكن لها أن تخرج بالمجتمع المسلم للكفر بعد الأيمان ...الخ وأن الشورى غير ملزمة للحاكم، بينما الديموقراطية ملزمة ...الخ .
وكأن كل ما يتوصل إليه العقل البشري من تقدم وإبداعات في الإدارة أو العلوم الإنسانية خاصة إن جاءت من غير المسلمين؛ فلا قيمة لها، بل يذهب البعض لتحريمها، وما علموا أن نظام الدواوين والسجون التي أقرها عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه_ لم تكن من صنع المسلمين ولا من نتاج عقولهم. كما وأن نظم الإدارة التي تناسب عصراً لا تناسب العصر الآخر، كالسلاح فما كان مناسباً في عصر الرسول _ صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه لم يعد مناسباً الآن.
وللمرء أن يسأل؛ لماذا لم يستطع النجاشي تطبيق شرع الله ، وإقامة دولة سياسية للمسلمين، على الرغم من كونه مسلماً، مع أن الرسول _ صلى الله عليه وسلم_ أقام صلاة الجنازة للغائب على النجاشي ؟ والسبب يعود إلى أن الغالبية العظمى من أهل الحبشة لم يكونوا مسلمين، بل كانوا نصارى ، ولم يؤمنوا بالإسلام ولا بدينه، فكيف لهم إقامة دعوته، وإنشاء دولته. إنهم قبلوا بالمهاجرين للحبشة على أنهم لاجئون ( سياسيون) ولم يقبلوا بهم قادة. أما أهل المدينة فالأمر مختلف.
وأما كون الشورى غير ملزمة للحاكم ، فلم يثبت في سيرة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم_ ، أنه إستشار أصحابه، ثم خالف رأي أكثريتهم، ثم فرض رأيه عليهم. ولذا في غزوة أُحد عمل برأي الأكثرية، حيث خرج من المدينة لملاقاة كفار قريش، رغم أن رأيه كان بالمكوث في المدينة. وحتى من يدعي أن عمر _ رضي الله عنه _ كان الحاكم الفرد المستبد بالرأي ولكنه العادل، فهذا الادعاء باطل، فقد كان لعمر مجلس للشورى يتمثل فيه وجوه الناس وأكثرهم حكمة ، فمنهم كبير السن وصغيره، وكان لا يخرج عن رأيهم، فإن خالفوه يعمل على إقناعهم بوجهة نظره.
إن الديموقراطية بشرط تنظيم الانتخابات الحرة والنزيهة ، ثم ما يتبعها من تداول للسلطة ، لا يمكن إلا أن تأت بقيادات جديدة وفاعلة، وإدارة تخدم الناس. ولننظر إلى ما يسمى بدولة إسرائيل، والتي نشأت منذ عام 1948م وتعتمد وتطبق النظام الديموقراطي، وهي الآن أفضل من أي دولة عربية من حيث التقدم العلمي والتقني، والتعبئة والتجهيز العسكري، والفاعلية الدبلوماسية والسياسية، يضاف لذلك قوة الاقتصاد ومتانته. مع أن الكثير من الدول العربية نشأت قبلها، ولدى العرب من الإمكانات الاقتصادية، والقوة البشرية ، ما يزيد عنها، ويتغلب عليها. ولكن يبدو أن قوتها إنما تنبع أولاً من نظامها السياسي القائم على تداول السلطة، والمحاسبة والمراقبة الشديدة لأداء السلطة التنفيذية ، والفصل بين السلطات ، والشفافية في التقييم. ولكم أن تتصورا كم عدد القادة الصهاينة الذين تقلبوا على إدارة الدولة الإسرائيلة، فكان الفضل للديموقراطية وتداول السلطة، والتي تدفع بعدد كبير من القادة السياسيين للمقدمة، مما يجعلهم يكتسبون المهارات والخبرات الكثيرة، وفي كل الشؤون المختلفة أيضاً.
أما النظام السياسي العربي والذي يخشى من الديموقراطية وتبعاتها، فيعيش هاجس الخوف غير المبرر منها، فإن كان للخوف من الديموقراطية وتبعاتها ما يبررها في الدول العربية ذات النظام الجمهوري؛ إذ قد ينتج عنها تغيير رأس النظام، فتلك الحجة قد يكون لها ما يبررها لديهم. لأن الأنظمة الجمهورية العربية وقبل الربيع العربي بدأت تنحو إلى توريث الحكم للأبناء.
أما الديموقراطية المنشودة في الدول العربية ذات الحكم الوراثي فلا يقصد بها تغيير بنية النظام ، أو إجراء أي انتخابات تطال رأس أي نظام وراثي، فذلك ما ترفضه غالبية الناس؛ لأن تلك الأنظمة هي مما يتوافق عليه أغلب الناس ومنذ عقود طويلة، قد يربو بعضها على ثلاثة قرون ، فشرعية تلك الأنظمة تنبع من توافق النسيج ( العشائري) الاجتماعي للدولة، ويضاف لذلك الشرعية الدينية لآل البيت في الأردن.
والمراد بالديموقراطية في الدول ذات الحكم الوراثي الدفع بقيادات جديدة وفاعلة، لإدارة مؤسسات الدولة المختلفة، ورعاية مصالحها، وتنظيم شؤونها،سواء في السلطة التشريعية والتنفيذية. ولكن في ظل النظام الوراثي لتلك الدول فالديموقراطية المنشودة ما هي إلا لخدمة مؤسسة ونظام الحكم ، وكأن لسان حال المطالبين بتلك الديموقراطية يقول لصاحب القرار : نحن نستطيع أن نخدم النظام أكثر من الآخرين، وإن كانوا يدّعون حبهم للنظام ولرأسه بألسنتهم، وما إدعاءهم بالإخلاص للنظام ، ثم تخويفهم من الآخرين، إلا لتحقيق منافعهم ومصالحهم بالدرجة الأولى. أما نحن فالأقدر على الإدارة والنصح والسهر على رعاية مصلحة الناس، والمحافظة على نظام الحكم، قولاً وفعلاً. وقد شاهدنا أثناء حرب الخليج الأولى أن الإسلاميين في الكويت هم أكثر فئات الشعب مقاومة للعراق وجيشة، ومن أشد الناس تمسكاً بنظام الحكم والدفاع عنه.
ولذا يعمد المنتفعون من أنظمة الحكم الحالية على تشويه صورة الآخرين، وإبرازهم وكأنهم معارضون لأصل النظم الوراثية، ويسعون للتغيير الجذري، فيقدمون التقارير الكاذبة، والتحليلات الزائفة،والاستبانات غير الدقيقة، فيقلبون الحقائق، ويوهمون صاحب القرار بخطر المنادين بالديموقراطية، وكأن الدعوة للديموقراطية ما هي لاقتلاع الأنظمة وتغييرها. وأظن أن دعواهم تلك غير صحيحة في أغلب الحالات، وللحقيقة فإن الكثير منهم لا يعنيهم مصلحة النظام أو حقوق الناس،إذا تعارضت مع مصالحهم .
كما وتدعي تلك القيادات المنتفعة أنه لا يصلح لإدارة الناس ورعاية شأنهم إلا هم، لذا جاءت واستمرت نفس تلك الوجوه والشخصيات أو ما تولد عنه بيولوجياً في إدارة الدول لفترة زمنية طويلة جداً؛ مما نتج عنه ضمور في أداء المؤسسات ، وبرود في الهمم، وعجز عن ابتكار وإيجاد حلول عبقرية ومتطورة، ثم الاعتقاد أن مؤسسات الدولة وكأنها ملكيات خاصة لهم، فأدى ذلك إلى الفساد بكل ألوانه، وانعكس ذلك على بعض تلك الدول فأدى إلى حالة من الركود والركون للوضع القائم. وإزاء ذلك ورداً عليه برزت شعارات متطرفة عند بعض الناس من جهة أخرى.
وفي الأردن لدينا أمثلة محدودة وناجحة على تداول المسؤولية ولا أقول السلطة، وتتمثل تلك في الجامعات، حيث تتم الانتخابات للجمعيات العلمية الطلابية ، واتحادات الطلبة، مما يخرج لنا قيادات شابة تتعلم الإدارة والقيادة، وتأت بأفكار وأجندات لخدمة الطلبة لم تكن موجودة من قبل. والمثل الآخر النقابات المهنية، والتي تُجرى الانتخابات فيها غالباً على أسس حزبية ومهنية، وبحرية ونزاهة. فقد أسهمت تلك النقابات في بروز قيادات واعدة، حيث تقلّد العديد من النقباء وأعضاء مجلس النقابة_ أي كانت_ حقائب وزارية عدة ومناصب رفيعة عليا، ومقاعد برلمانية. كما وأبدعت أحياناً في إنتاج أفكار مبتكرة في العمل والإدارة ، وكذلك مراقبة حقيقية للأداء، ورقي في التعامل، وتنافس على خدمة الهيئة العامة ...الخ،
ومثل ذلك انتخابات مجالس غرف التجارة والصناعة، فلماذا لا نطور التجربة لمستويات ومناحي أعلى؟ وفي ظني لن تكون نتيجتها إلا إيجابية على الدولة.
وتركيا مثلاً ما انتقلت إلى الازدهار والتقدم إلا بالديموقراطية الحقيقية، والتي أفرزت قيادات حقيقية، وممثلة بصدق لضمير الشعب ، فكانت النهضة ، وانتقلت من وضع مزري إقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ...الخ، إلى وضع اقتصادي مريح، ونمو وازدهار صناعي، واستقرار سياسي، وفاعلية دبلوماسية، وفائض مالي، وتلاحم اجتماعي، وبطالة عن العمل تكاد تكون معدومة.
إن الديموقراطية هي الدواء السحري لنهضة الدول وتجددها وتطورها، وهي كالمياه الجديدة النقية والشابة التي تسري في أوردة الدول وعروقها ، فتجعلها دائماً متجددة ومتطورة، كما وأنها تبرز قيادات ووجوه سياسية جديدة، قادرة على إدارة الدولة، وحل مشاكلها، وتزيد أيضاً من التنافس لخدمة الناس، ولرعاية مصالحهم، وكل ذلك يعمل على تقوية بنية الدولة، وإظهار هيبتها وقوتها. فكما أن للبشر أعماراً ومراحل نمو تبدأ بالطفولة وتمر بالشباب والقوة وتنتهي بالشيخوخة والموت؛ فالدولة كما يقول ابن خلدون ، لها أعمار، ومراحل نمو . ولذا فالديموقراطية الحقيقية تطيل عمر الدولة، وتنفي عنها الترهل، وتخيف الفساد وأهله، وتجلب الوجوه الجديدة، والأفكار المبدعة والبناءة ، والعناصر الطموحة، لخدمة الدولة ونهضتها، واستمرار مؤسساتها وتطورها.
وانظروا مثلاً للمملكة المتحدة_ بريطانيا_ فهي من أكثر دول العالم استقراراً. لأن تدوال السلطة هنالك يأت برؤساء وزارات ووزراء جدد ، لديهم من الأفكار والمشاريع المبتكرة والبرامج الانتخابية ، ما يجعل الدولة ومؤسساتها في تطور ونمو وتنمية متجددة، مما يجعل للدولة مكانة عالمية، ولذا تتمسك بسيادتها الاسمية والمعنوية بعض الدول الأخرى والتي تعتبر نفسها تحت مظلة التاج البريطاني، وإن كانت منفصلة عنها سياسياً واقتصادياً مثل كندا واستراليا.
أما تجربة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية _ وإن كنا نختلف معها في سياستها المنحازة للصهاينة_ فهي زاخرة بالإنجازات ، وهي خلاصة تجارب إنسانية وبشرية عدة ، ومن أبرز مظاهرها تداول السلطة وإدارة الدولة، فلكل أربع سنوات إدارة جديدة، حتى وإن فاز الحزب نفسه، مما يؤدي إلى التطور والتجديد المستمر، والفاعلية المتقدة، والإدارة القائمة على الإبداع وخدمة الناس، وتحقيق مصالحهم.
إن الذين يخافون من الديموقراطية في الوطن العربي يظنون أن الله لم يخلق من الناس غيرهم للحكم والإدارة ، وإن لا أحد يستطيع أن يدير شأن الناس إلا هم. وهذا المفهوم غير صحيح، لأن قدرة الإنسان وتفوقه لا يمكن قياسها إلا بعد منحه الفرصة، فكيف لنا معرفة قدرة إنسان بالجري مثلاً إذا كان مكبلاً ؟!!!
وأخيراً أقول للذين لا يرغبون سماع لفظ الديموقراطية ، لنمارس تداول السلطة وإجراء الانتخابات الحرة والنزيهة، وليحكم الناس أنفسهم بأنفسهم، في ظل الحرية والعدالة ، ثم بعد ذلك سموها ما شئتم، فالمهم الجوهر وليس الأسماء والقشور.
sulaiman59@hotmail.com