بقلم : علي السنيد
30-09-2012 09:22 AM
عبدالرحيم ملحس الذي يغادر دنيانا للتو، ويخلف رصيدا وطنيا رائعا، وقصة شجاعة نادرة في زمن مضى من الخوف والخضوع. كان رجلا من طراز فريد في الصدق مع الذات، وفي اعتماد الجرأة، والمجاهرة في قول الحق دونما انتظار مقابل.
كان فارسا اردنيا مغوارا قضى نحبه - وهو من السادة الكبار- دون اثارة كما هي مواقفه دائما كبيرة، ولا تستهدف الاثارة، وانما مصلحة الناس، وحقوقهم وحرياتهم.
زرع الامل في النفوس الباحثة عن الحقيقية، وهو يقدم نموذجا للسياسي الذي لا يلجؤه المنصب الى الصمت، وشهادة الزور على امتهان حقوق شعبه، وانما يقاتل من اجل حق البسطاء في حياة كريمة.
كان عف اللسان، ومن خير من استخدم الكلمة، صاحب الجمل القصار التي تختزن الحكمة، وحل القضية ، ويضحي بمصالحه الخاصة، ولا يرهبه دفع الثمن.
يتورع عن الاساءة للغير، لكنه لا تنقصه الشجاعة لاعتى المواجهات، ويصدق مع نفسه، ولا يخادع في السياسة، ولا يتقمص البطولات، وينتحل المواقف، وكان ديمقراطيا قولا، وسلوكا.
جمعتنا معه القضية الوطنية، وفرقتنا ظروف العمل، وهو يعبر اليوم عن حالة الغياب الحتمي، والنهايات التي تستدعينا على وجل، ودونما استنذان بالرحيل.
اذكر انه في ذات مساء ربيعي، وكنا نعود سوية من موعد في اربد اخذنا شجون الحديث الى مواجهة الغذاء والدواء الفاسد التي اثارها ابان توليه وزارة الصحة، وشغلت الرأي العام في حينه، حيث اقدم وزير في حكومة اردنية على انتقاد نوعية الغذاء والدواء المقدمة للمواطنين، والتي تمر من تحت اعين وبصر الحكومات الاردنية، ودوائر الرقابة المعنية.
قال- رحمه الله- ' كان الملك الحسين مسافرا، وولي العهد الامير الحسن- والذي اسر لمقربين منه بعد تفجر الازمة ان سوء الطالع بات يلازمه كلما استلم السلطات الدستورية في ظل غياب اخيه الملك- حيث طلب مني التريث في تقديم الاستقالة التي لوحت بها الى ما بعد عودة الملك الحسين ، والذي كان في زيارة رسمية لامريكا، ويؤكد انه في سبيل مواجهة الثورة الرسمية التي ووجه بها لم يكن هنالك من خيار سوى الاستقالة، وذلك لوضع نهاية لهذا الفصل المريع من الصمت على التلاعب بقوت الناس وغذائهم.
ويضيف : ان اتصالا هاتفيا ورده، وهو في احدى مهام عمله بعد ذلك بأن مجلس الوزراء يجتمع على عجل، وسيرأسه الملك الحسين الذي عاد للتو من رحلته في الخارج، وقد جرى استدعائه لحضور الاجتماع بصفته الوظيفية، يقول ' وصلت مجلس الوزراء، وكان اخواني الوزراء في حالة مقاطعة لي، ولا يتكلف الكثيرون منهم برد السلام علي، وفعلا جلست في المقعد المخصص لي حتى قدوم الملك الحسين، وترؤسه جلسة مجلس الوزراء، وكنت احمل نص استقالتي في جيب جاكيتي، وهي التي ظلت ترافقني منذ لحظة تفجر الازمة حتى انتهائها'. ثم يبين ان الملك قدم الى مجلس الوزراء، وبدأ حديثه بوضعهم في صورة جولته في امريكا وبعدها فتح باب النقاش في القضايا الداخلية الاردنية، وكان اول المتحدثين وزير المياه انذاك، والذي اكد ان تصريحات مشينة صدرت من معالي وزير الصحة - ويقصدني طبعا- تسيء للصحة العامة في الاردن من حيث جودة المياه، والغذاء، والدواء، حيث تبرع احد وزراء الدولة بفضح البلد ، ثم اثنى وزير الخارجية على كلام زميله، وادعى ان تصريحاتي تؤثر على علاقات الاردن الخارجية، وعلى الموسم السياحي، والى ذلك انفجر الملك الحسين ، وقال ' الله اكبر.. الدكتور عبدالرحيم ملحس بات يؤثر على علاقات الاردن الخارجية؟؟ ثم انت يا وزير المياه هل تستطيع ان تؤكد لي ان مياهك نظيفة؟؟؟، انا اقسم انها غير ذلك' حينها يقول الدكتور ' انني صرت خجلا من ' نص الاستقالة التي احملها في جيبي، واخشى ان يطلع عليها احد، وخاصة ان جلالة الملك بعد ان انفض لقاء مجلس الوزراء استدعاني بواسطة رئيس ديوانه، وكنت الوحيد الذي استوقفني من الوزراء في تلك الجلسة، واطمأن على احوالي ثم قال لي ' اطلبني يا دكتور ما تريد لتسهل به مهمات عملك'، فقال رددت عليه يا مولاي وحالما الح بالسؤال 'انني احتاج لطائرة مروحية'، عندها ابدى الملك استغرابه، وسأل عن السبب ، والى ذلك اجبته – بحسب ملحس- ' أن بعض المراكز الصحية في الجنوب تبعد عن مركز الوزارة لثماني ساعات متواصلة بالسيارة، ولا استطيع ان ازورها، واتفقد سير العمل فيها'. واخبرني الدكتور عبدالرحيم ملحس- رحمه الله- ان الملك الحسين وجه امرا مباشرا بأن تكون طائرة مروحية من طائرات سلاح الجو الاردني تحت تصرف وزير الصحة في جولاته التفقدية.
ثم يختم صاحب الذكرى القصة بقوله ' ان زملائي الوزراء عندما رأوا حفاوة الملك بي، سارعوا لملاقاتي، والترحيب بي ، وربما ظن بعضهم انني سأشكل الوزارة التالية.
رحم الله الوزير الذي لم يمنعه المنصب من الوقوف في وجه الفساد في زمن كانت تصمت فيه حتى بعض المعارضات عن قول كلمة الحق.