بقلم : د. هيثم علي حجازي
23-10-2012 09:24 AM
رئيس ديوان الخدمة المدنية السابق
لم أكن أرغب في الحديث عن برنامج هيكلة الوزارات والمؤسسات الحكومية، وبخاصة بعد أن غادرت موقعي الرسمي كرئيس لديوان الخدمة المدنية. غير أنني أكتب اليوم عن هذا الموضوع وقد طلب مني العديد من الأصدقاء والزملاء ايضاح بعض الحقائق المتعلقة بهذا الأمر، وبخاصة أنه يتم حاليا تصوير الهيكلة على أنها 'فتح الفتوح' في عالم الادارة العامة الأردنية، ويحاول البعض سرقة انجازات الآخرين لينسبها لنفسه.
وبداية أقول إن عملية هيكلة القطاع العام قد بدأتها حكومة دولة السيد سمير الرفاعي، حينما أرادت تلك الحكومة تحسين أداء المؤسسات المستقلة ليصبح على مستوى عال من الكفاءة والفاعلية وبما يتفق وتطلعات جلالة الملك المعظم، ويساعد على تحقيق الاهداف التي أنشئت من أجلها، وحينما لاحظت وجود حالات من المبالغة في بعض تلك المؤسسات من حيث الرواتب والامتيازات وأسس التعيين، فقررت الحكومة حينها التعامل مع ذلك الواقع من خلال إقرار نظام خاص بالمؤسسات المستقلة على غرار نظام الخدمة المدنية. وتم تشكيل لجنة برئاسة وزير تطوير القطاع العام حينذاك السيد عماد فاخوري، وبدأت بدراسة أوضاع تلك المؤسسات، ووضعت مسودة مشروع يهدف إلى دمج المؤسسات المستقلة ذات الأهداف وطبيعة العمل المتشابهة بعضها ببعض، مع مراعاة طبيعة عمل هذه المؤسسات، والأهداف التي أنشئت من أجل تحقيقها، وكذلك وضع أسس موضوعية عادلة تتعلق بتعيين الموظفين في تلك المؤسسات، وما يتبع ذلك من الرواتب والامتيازات، إيمانا من الحكومة بأن الاصلاح الاداري هو الخطوة الاولى على طريق الاصلاح الشامل في مختلف المجالات.
ولم يكتب لحكومة السيد الرفاعي إنجاز هذه المهمة بسبب استقالتها، وجاءت حكومة دولة الدكتور معروف البخيت التي رأت أن مشروع الهيكلة يجب أن يستند إلى إخضاع جميع المؤسسات المستقلة لنظام الخدمة المدنية، باستثناء البنك المركزي والمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي نظرا لخصوصيتهما، وكذلك الأمر بالنسبة للشركات المساهمة الحكومية، ومساواة جميع العاملين في القطاع العام من حيث الرواتب والامتيازات، بمعنى تخفيض رواتب العاملين في المؤسسات المستقلة، لتصبح مساوية لرواتب العاملين الخاضعين لنظام الخدمة المدنية، وإلغاء كافة الامتيازات الممنوحة للعاملين في تلك المؤسسات، وزيادة رواتب الموظفين الخاضعين لنظام الخدمة المدنية. وبسبب ردود الفعل الغاضبة، ووجود مشكلة قانونية تعترض تنفيذ الهيكلة بشكلها آنذاك، وبسبب الكلفة المالية الباهظة المترتبة على ذلك والتي لم يتم احتسابها بشكل دقيق عندما طرحت فكرة زيادة الرواتب، بدأت حكومة الدكتور البخيت العمل على تهدئة الوضع، وإعادة النظر فيه، معتبرة أن 1 / 1 / 2012 ليس موعدا مقدسا، وهو الموعد المقرر للبدء بتنفيذ مشروع الهيكلة، وأنه يمكن تأجيل الأمر لمزيد من الدراسة، وكأن الحكومة كانت مدركة أنها على وشك الرحيل، فلم تشأ اتخاذ قرار تفرضه علـى الحكومة اللاحقة . وفعلا، فقد رحلت الحكومة، ولم تكن قد أقرت مشروع النظام المعدل لنظام الخدمة المدنية علما أنه كان جاهزا وقتها. وللحقيقة والانصاف، فإن الحكومة برئاسة الدكتور البخيت كانت معنية بهمـّــين أساسيين هما تحقيق المساواة، والكلفة الباهظة المترتبة على مشروع الهيكلة.
رحلت الحكومة وجاءت حكومة السيد عون الخصاونة، فزيّـن له بعض رجاله جمالية المشروع، ووَسْـوَسوا له بالشعبية الكبيرة التي ستحصدها الحكومة إذا نفذت مشروع الهيكلة، علما أنني كنت قد وضعت وزير تطوير القطاع العام في حكومة الخصاونة بصورة كاملة عن المشروع، وأن الأمر يتطلب المزيد من الدراسة، وبخاصة أن موجة الاعتصامات والإضرابات التي كان يقوم بها موظفو المؤسسات المستقلة، لا بل وحتى موظفو الوزارات الخاضعون أساسا لنظام الخدمة المدنية، وهم المستفيد الأكبر من الهيكلة، كانت هذه الموجات آخذة بالتوسع والامتداد، ومترافقة مع احتجاجات المتقاعدين المدنيين والعسكريين المطالبين بزيادة رواتبهم التقاعدية مساواة بالموظفين القائمين على رأس عملهم الذين ستتم زيادة رواتبهم الأساسية. لكن وزارة تطوير القطاع العام ركبت رأسها، وقررت السير قدما بالمشروع، ولا نعلم فيما اذا كان دولة الرئيس الخصاونة على علم بما تم التحذير منه لأنه لم تتح لي كرئيس لديوان الخدمة المدنية فرصة لقائه ولو لعشرة دقائق لشرح الوضع له، بسبب انشغاله الدائم كما كان مكتبه يقول.
وتم البدء بتطبيق مشروع الهيكلة، وهنا لا بد من إيراد بعض الحقائق المتعلقة بذلك:
1- من المعروف انه عند القيام بأي عملية تنظيم، أو إعادة التنظيم (أي الهيكلة وإعادة الهيكلة) تتم دراسة المؤسسة المراد هيكلتها لمعرفة ما اذا كانت هذه المؤسسة تحقق الأهداف التي أنشئت من اجل تحقيقها أم لا. وللحقيقة، فإن مثل هذا الأمر لم يتم، وإنما أُخذ الصالح بعروى الطالح، فتم إخضاع جميع المؤسسات المستقلة لنظام الخدمة المدنية، علما أن الكثير منها كانت تعمل بنجاح، وتمول ذاتها من ذاتها، وتدفع الضرائب المترتبة عليها، وتقوم بتحويل الفوائض المالية المتحققة لديها الى الخزينة العامة، ودون أن تكلف الخزينة أي مبلغ، بل كانت رافدا لها، وهذا مؤشر على كفاءتها. أما فيما يتعلق بالمؤسسات المتعثرة، فإنه كان يجب دراسة مصدر الخلل وإصلاحه، والذي قد يكون في الأعم الأغلب يكمن في طريقة ادارة تلك المؤسسات، وإن إخضاعها لنظام الخدمة المدنية لن يحل الأمر.
2- إن فكرة الهيكلة في أساسها لم تكن تركز على قضايا الرواتب والامتيازات فقط، بل كانت تتكون من شقين: الاول ويتمثل في اعادة النظر بوجود هذه المؤسسات ودمج المؤسسات ذات طبيعة العمل المتشابهة بعضها ببعض، وإلغاء غير الضروري منها بهدف ترشيق القطاع العام، ورفع سوية أدائه. وكان الشق الثاني يركز على موضوع هيكلة الرواتب. ومما يؤسف له أن برنامج الهيكلة أصبح برنامجا لزيادة الرواتب وليس لهيكلة القطاع العام بالمفهوم العلمي للهيكلة. والأنكى من ذلك أن مساواة رواتب العاملين في المؤسسات المستقلة مع رواتب العاملين الخاضعين لنظام الخدمة المدنية لم تتحقق، كما أن الفجوة بين رواتب موظفي الخدمة المدنية قد اتسعت. ومما يزيد الأمر غرابة وطرافة أن رواتب غالبية موظفي المؤسسات المستقلة قد زادت.
3- لم يتم عرض موضوع الهيكلة على مجلس الخدمة المدنية، وبعكس ما نص عليه قرار مجلس الوزراء الموقر المتعلق بآلية تنفيذ الهيكلة. فقد انحصر دور مجلس الخدمة في المصادقة على تعليمات العلاوات وتحت ضغوط، حيث تم عقد اجتماع لمجلس الخدمة المدنية للتوقيع على تعليمات العلاوات في مبنى رئاسة الوزراء وقبيل انعقاد جلسة مجلس الوزراء بنصف ساعة تحت حجة ان دولة الرئيس يريدها الآن، وذلك تجنبا لأي اعتراض على هذه التعليمات قد يصدر من أي عضو. وفي جلسات لاحقة عرض وزير التطوير على مجلس الخدمة في مبنى الوزارة العلاوات التي كان يتم تعديلها تحت ضغط الاعتصامات والاحتجاجات تباعا.
4- يعلم الجميع حجم الاحتجاجات والاضرابات التي عمت مختلف انحاء المملكة بشأن هيكلة الرواتب وتحديد العلاوات والمسميات الوظيفية. ومن المؤسف ان وزارة تطوير القطاع العام قد استجابت لها بدرجة عالية، ودون أي دراسة من أجل تحقيق الشعبية للحكومة وكسب رضا السادة النواب الذين استغلوا الموجة ليركبوها، الأمر الذي أفقد الفكرة الأساسية للهيكلة معناها وجعلها مجرد زيادة رواتب، حتى أنه درجت مقولة ' على قد اعتصامك بتاخذ زيادتك'. ولعل ذلك خير دليل على سوء ادارة برنامج الهيكلة.
5- وبناء على النقطة سالفة الذكر (4) فان نسب العلاوات التي تم منحها كانت ردة فعل اجتهادية انطباعية، وطلبا 'للستيرة' وخوفا من انكشاف الخطأ، وسعيا لإسكات الأصوات المحتجة، ودون ان يتم ربطها بدرجة اهميتها وصعوبتها، وبمدى الحاجة الى الوظائف وارتباطها بالمهام الاساسية للدوائر.
6- والأمر نفسه ينطبق على علاوة المؤسسة التي جاءت ايضا اجتهادية دون اخضاعها لمعايير موضوعية علمية مقنعة، إذ أنه لم يتم وضع أي معيار لمنح العلاوات بمختلف أنواعها، وانما كان حجم الضغط والاعتصام سيد الموقف.
7- تم منح العلاوات للمسميات الوظيفية في الوقت الذي كان فيه الكثير من المؤسسات المستقلة، وحتى الكثير من الوزارات والمؤسسات الخاضعة لنظام الخدمة المدنية تفتقر إلى وجود الاوصاف الوظيفية. وإنْ وُجد شيء من هذا، فإن تلك المسميات والاوصاف لم تدرس دراسة كافية ودقيقة. وبناء عليه، فإن مستويات الوظائف لم تتقرر وفق اوصاف وظيفية دقيقة.
8- إن قرار مجلس الوزراء الموقر رقم (1170) المتعلق بالهيكلة قد نص على 'تعتمد المسميات الوظيفية كما هي محددة في الدائرة بتاريخ 28/5/2011 على أن لا ينظر في أي تغيير على هذه المسميات بعد هذا التاريخ الا اذا اقتضت الضرورة ذلك ولاسباب مبررة تقتنع بها اللجنة'. ورغم هذا، فقد قامت وزارة تطوير القطاع العام بتجاهل الموعد المقرر 28/5/2011 وقرر الوزير الحالي، وبشكل غير معلن، ودون الحصول على موافقة مجلس الوزراء تمديد المدة حتى تاريخ 31/12/2011 مما ساعد على تغيير المسميات الوظيفية لعدد لا بأس به من المحاسيب ودون وجه حق.
9- ان فكرة التسكين جاءت مناقضة لرؤيا ومفهوم دمج المؤسسات المستقلة بالخدمة المدنية، وكان من الممكن التعامل معها بطريقة اخرى مثل وضع شروط لاستمرار منح هذا البدل.
10- ولأنه لم تتم دراسة الواقع الحقيقي لطبيعة نشاطات المؤسسات المستقلة، أي أنه تم التعامل معها كوحدة واحدة، دون مراعاة لطبيعة نشاط كل منها، فإن الكثير من المؤسسات المستقلة التي تم إخضاعها لنظام الخدمة المدنية، ستجد صعوبة بالغة في الاستمرار بتقديم خدماتها أو ممارسة أنشطتها وفق مفهوم الهيكلة، وفي ظل نظام الخدمة المدنية.
11- ونتيجة ذلك، ولمحاولة التعامل مع المشكلات آنفة الذكر، سوف تضطر الحكومات المتعاقبة وباستمرار الى اعادة تعديل نظام الخدمة المدنية من أجل معالجة الاخطاء سالفة الذكر، وسيتم تباعا إعادة الاستقلالية إلى بعض المؤسسات، مثل مؤسسة الضمان الاجتماعي، وهيئة مكافحة الفساد، ومؤسسات سوق راس المال لتمكينها من أداء عملها بكفاءة وفاعلية.
12- إن عملية الهيكلة، وبواقعها الحالي، قد رتبت على الجهاز المالي للدولة مبلغا يقدر بثلاثمائة واثنين وستين مليون دينار سنويا (362 مليون دينار) هي مجمل تكاليف برنامج الهيكلة، متضمنا كلفة زيادات المتقاعدين المدنيين والعسكريين، الذين لم يكونوا ليطالبوا بها لولا مشروع الهيكلة. إن مبلغ (362 مليون دينار سنويا) يعادل مبلغ الدعم السنوي للمحروقات تقريبا. ولذلك، فإن ما تم منحه للموظفين من زيادات نتيجة الهيكلة سيتم استعادته لسد العجز الحاصل في دعم المحروقات وبشكل غير مباشر من خلال رفع سفر المحروقات، وهو ما حصل أيام حكومة دولة الدكتور الطراونة.
13- إن عملية هيكلة القطاع العام في أي دولة من الدول تحتاج إلى فريق من المتخصصين في هذا المجال، في حين أن الموظفين الذي قاموا بهيكلة المؤسسات المستقلة، ومع محبتي واحترامي الشديدين لهم وهم اخوة وزملاء اعزاء، لم تكن لديهم الخبرة الكافية بطبيعة عمل المؤسسات المستقلة، ولم يسبق لهم أن قاموا بمثل هذا المشروع، وكانوا يعملون تحت ضغط شديد من المسؤول عن الهيكلة الذي كان يرغب في تسجيل ما كان يعتقد أنه انجاز خارق، بالاضافة الى وقوعهم تحت ضغوطات العاملين في مؤسسات الخدمة المدنية، وإغراءات زيادة الرواتب.
14- لقد بدأت تظهر في العديد من المؤسسات المستقلة التي تم إخضاعها لنظام الخدمة المدنية مؤشرات وظواهر سلبية نتيجة الهيكلة، منها أولا: نزوح عدد كبير من أصحاب المعرفة والخبرة والتخصص الى القطاع الخاص، والى خارج الاردن مما يعد خسارة في رأس المال البشري الذي نقوم بالاستثمار فيه من أجل تحقيق التميز والتنافسية في القطاع العام. وثاني هذه المؤشرات ارتفاع نسبة التغيب عن العمل بحجة الاجازات المرضية والطارئة، وهي ظاهرة لم تكن المؤسسات المستقلة تعرفها بهذا الحجم، إذ لا يعقل أن يبلغ عدد ايام الاجازات المرضية في احدى المؤسسات المستقلة التي تم إخضاعها لنظام الخدمة المدنية اثني عشر ألفا واربعمائة (12400) يوم اجازة مرضية خلال الشهور الثمانية الاولى من هذا العام، بالاضافة الى تدني الروح المعنوية وغيرها من الظواهر السلبية الأخرى التي هي بحاجة الى المزيد من الدراسة والاستقصاء.
15- وبعيدا عن الارقام التي تتحفنا بها وزارة تطوير القطاع العام عن حجم الوفورات الهائلة التي حققتها الهيكلة، ولا أحد يدري كيف يتم احتساب هذه الارقام، وكل ما نعلمه أنه يتم إطلاقها كلما كان هناك تغيير او تعديل وزاري، فإن المطلوب الآن:
أولا: ان تقوم جهات محايدة، وبعيدا عن تدخلات وزارة تطوير القطاع العام، بدراسة لتقييم نتائج عملية الهيكلة وأثرها على أداء المؤسسات المستقلة، وكذلك أثرها على مالية الدولة الأردنية
ثانيا: أن تقوم هذه الجهة باعادة دراسة الطلبات التي تقدم بها عدد من المؤسسات المستقلة، والمتعلقة باستثناء هذه المؤسسات من تطبيق نظام الخدمة المدنية عليها
ثالثا: اعداد نظام خدمة موحد للمؤسسات المستقلة التي يمكن أن تعاد لها استقلاليتها
رابعا: وتأسيسا على النقطة سالفة الذكر إعداد نظام خدمة مدنية جديد متطور يقوم على تفعيل دور ديوان الخدمة المدنية في الادارة الشاملة للموارد البشرية، والفصل التام بين عمل الديوان وعمل وزارة تطوير القطاع العام، علما أن دور ديوان الخدمة المدنية في عملية الهيكلة كان دورا تنفيذيا، ولم يتم الاستماع لنصائح الديوان ومشوراته في هذا المجال
رابعا: اعادة النظر بقرار اخضاع الشركات ذات المساهمة الحكومية لنظام الخدمة المدنية كون عملية اخضاع هذه الشركات له شبهاته القانونية ومساوئه الادارية، وكذلك اعادة النظر بقرار دمج بعض تلك الشركات ببعضها بسبب اختلاف طبيعة عمل هذه الشركات واهدافها.
وأخيرا، فان التراجع عن القرار الخطأ في وقت مبكر خير من الامعان في الخطأ، لأن الاصرار على الخطأ تحت أي ذريعة من الذرائع، سيؤدي الى تدمير مؤسسات القطاع العام، وهو ما نحن بحاجة الى تجنبه.