بقلم : د.م. مراد الكلالدة
24-10-2012 09:47 AM
أردتها ومضات غير متسلسلة تاريخياً تضيء جوانب من حياة العمّانيين بحلوها ومُرها ... فهل تكتمل الصورة إن قفزنا عن حرب 1967 حيث كان العدو واضحاً أو تلك التي تلتها في السبعين حيث كان العدو أخ كريم وإبن أخ كريم. وما أسهل الحديث عن مشاعرنا عندما كنا نتقي خطر الطيران الاسرائيلي بالتعتيم ليلا وما أصعبه عندما نتذكر قتال الأخوة الأعداء ولو إلى حين.
لم يكن جبر يدري بأن هذه السنة ستكون كئيبة إلى حد الدمار فقد كان طفلا وديعا يملاْ الدنيا فرحاً ويهديها إبتسامات. الكلام في الدار قليل على غير العادة والفعل كثير على غير العادة أيضاً. هذا يضع شريطا لاصقاً على شبابيك درج الأربعة والأربعين وآخر يدهن شبابيك غرفة الضيوف بالنيله للتعتيم، وهي صبغة كانت تستعمل في تنظيف الملابس لونها نيلي.
سألني جبر عن السبب في تلطيخ الشبابيك بالنيلة وقلت له حتى ما يشوفونا اليهود فسألني مرة أخرى، مين هذول اليهود، فأجبته: هم من سرقو فلسطين. ولكن لماذا يغيرون علينا بالطائرات عاود جبر سيل الأسئلة، قلت لأننا نحاول أن نحرر فلسطين ... طب ليش نلّصق الشبابيك، فقلت لتفادي خطر تطاير الزجاج فيما لو قامت الطائرات الاسرائيلية بقصف عمّان. كلام كبير على أطفال في الخامسة والسادسة من العمر ولكن يبدو أن القدر قد شاء لنا أن نعرف النيلة منذ الصغر.
هي ستة أيام مرت علينا قصيراً نهارها الملطخ بالنيلة، وطويلاً ليلها لسهر الأهالي على نقلنا من الغرف إلى الممرات وتحت الأسرّة الأكثر أماناً بين الحين والآخر. كانت واجهات البيت من حجر الطبزة والكلّين عريض والشبابيك صغيرة. أما الأباجور فقد كان معدنياً وبات مغلقا طيلة هذه المدة حتى انتهت أولى حروب جبر بخسارة نصف فلسطين. وأكمل القدر مهمته لهذا الصيف الثقيل بصراخ النسوة والطم لحد الجنون وظن جبر بأن اليهود قد عادوا مجدداً ولكن الأمر كان مختلفا هذه المرة فلا تظليل بالنيلة ولا أشرطة لاصقة. لقد كنا مستعدين لتلقي قنابلهم فالنيلة ستحمينا ظن جبر، ولكنة لم يكن يعلم بأن النيلة لها أشكال أخرى وطعمها مرّ عندما تأتي فجأة ... لقد كان صيفاً سقيما فقدت فيه العائلة الكبيرة عمود الدار، ولن تكون هناك عيدية هذه السنة ولا السنة التي تليها لأن العيد لا يحلو إلا بوجود عمود الدار.