بقلم : طايل البشابشة
24-10-2012 09:52 AM
على عادته كل يوم,يجلس العم ابو شبلي على باب دكانه المتواضع يهلي ويرحب بمرار الطريق ,لقلة الزبائن
يرتدي كبره الأردني ومنديله البوال الأبيض يعلوه عقال معنقر مايل إلى يمين الرأس (يضحك)على رأي
اخواننا السعوديين(اي ان العقال طبقته العليا تنفرج عن السفلى)كما يضحك من يرتديه فغالبا وفي أسوأ
الظروف تجد الإبتسامة على محيا الرجل الستيني المتقاعد الذي يبدوا أنه فتح مشروعه لقتل الفراغ بعد أن
تقاعد ولكي لا يبقى في البيت يشاحن أم شبلي بتدخله بشؤون الدار.
صاحب وجه ملائكي مزين بشارب دقيق ابيض نقي كنقاء قلب صاحبه لم أره يوما عابسا إلا مرة واحدة للأمانة اذكرهاحينما طلبت منه سيجارتين لولو وحبة علك سهم,الأولى للكيف والعبث والثانية لتضيع ريحة الدخان
حتى لاتشمها أمي,عندها نهرني بعدأن جحظت عيناه (يا عيل بدخن وفشتك فشة خروف) وهي المرة الأولى
التي أراه على هذا النحو مما دعاني للفرار موليا تاركا نصف مصروفي المتمثل بترف ذلك اليوم,اللولو وحبة السهم.
عرفت عم أبو شبلي(خلف حدادين)بدكانه في حي الضباط بمدينة الزرقاء ,في منتصف الستينات منذ طفولتي
إثر حدث لم تمحوه الذاكرة حينما فقد الطحين من الأسواق وزادت أسعاره بسبب جشع التجار مما دعا الحكومة
آنذاك (ليست كحكومات اليوم)بتوزيعه من نقاط توزيع وزعت على الأحياء ,وكان مركز التوزيع لحينا من
نصيب دكان العم ابو شبلي.
كنت ابن العاشرة تقريبا رافقت الوالدة يرحمها الله ويرحم العم ابو شبلي فوجدنا أمام الدكان أمة (محمد وعيسى)
رجال ونساء فريقين كل على حدا تدفقوا من المخيم وحي جناعة وحي الضباط ,يتدافعون للحصول على كيس
طحين 50 كغم لمونة الشهر حينما كانت المرأة الأردنية تعجنه في البيت وترسله للفرن .
كانت الوالدة يرحمها الله ترتدي اللباس الكركي التقليدي ( مدرقة وشطفة على الرأس)وكركية هبلا لا تزاحم
تقف في ظل الحيط تنتظر الفرج في أن ينتهي الزحام ,وتحصل على كيس قبل أن تنتهي الكمية ممسكة بيدي وأنا
رجل البيت بسبب غياب الوالد في الجيش يرحمه الله ,مرددة بين فينة وأخرى بقلق وتبرم باديان على وجهها
خلص الطحين يا طايل والله ما يظل لينا.
وإذ بالفرج يأتي على يد العم ابو شبلي حينما لمح المدرقة والشطفة بعد أن إستفزته النخوة الجهوية مناديا (يا
عموه يا كركية هاتي قروشكي وأعطيني الهوية )بعدها صرف لنا شوال طحين سحبه لنا بنفسه يرحمه الله ,
يومها لم تترك أمي مجلسا للجارات إلا وذكرت ابو شبلي بالخير فاتحة مشروع تساؤل هل الحدادين كركية ولا من مادبا..؟ أما أنا فأحببت ذلك الإنسان منذ تلك الساعة.
كثيرون هم أمثال هذا النشمي الأردني من نصارى الأردن ملح أرضها(الغساسنة) أحفاد الكنعانيين العرب
يسكنون هذه الأرض لمايزيد عن 2000 عام ونيف ,ينتشرون من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى
الغرب,مكون أصيل من النسيج المجتمعي الأردني ,يشاركوننا الأفراح والأتراح والذود عن هذا الحمى.
قلما تجد فرح أو جنازة في هذا الوطن لاتضم المكونين معا,قيم وعادات وتقاليد واحدة لاتفرق بين المسلم
والمسيحي في السحنة أو اللهجة في المنطقة الواحدة ,اللهم إلا في من يرتاد مسجده أو كنيسته للعبادة.
قد يختلف مسيحيوا الأردن عن مسيحيي لبنان أوغيرها لأسباب عدة في العادات والتقاليد ,ربما بسبب الموقع
الجغرافي وهذا ينطبق على المسلمين ايضا ,فلبنان ساحلي يقع على البحر وإتصاله بالعالم الخارجي وخصوصا
اوروبا ,أكسبه قيما وتقاليد وعادات أكثر ليبرالية من نظرائهم مسيحيي الأردن فنجد ذلك التغيير مثلا في
الأسماء التي انقلبت من ميخائيل إلى مايكل ومن فريد إلى الفرد وعلى الغالب السبب قد يكون هو الإفتتان في
الحضارة الغربية أو الوضع العربي المتردي الذي دعا الكثير من أبنائه ينكرون عروبتهم وكأنها جرب يفرون
منه.لكن الوضع في الأردن لم يتردى كما في لبنان مثلا ,فمجتمعنا الذي يتكون بمسلميه ومسيحييه مجتمع بدوي
فلاحي تحكمه العشيرة بقيمها وعاداتها وغالبيتها مصدر فخر وإعتزاز كالكرم والفروسية بمعناها الفخري
والشجاعة والإعتزا ز بالعشيرة والمكون والجهة حيث انعكس ذلك على التلاحم والتعاضد الإجتماعي .
قبل نحو عامين أو يزيد توفي خالي يرحمه الله في الكرك ,وأثناء إقامة سرادق العزاء هبت عاصفة قوية أطارت
الشوادر والكراسي وأضحى السجاد وحلا , وكانت جميع قاعات الكرك مشغولة واحترنا أين نقيم العزاء ,
وإذ بخوري كنيسة اللاتين الذي كان حاضرايقول سنقيم العزاء في القاعة التابعة للكنيسة وهذا ما حصل لأكتشف
لاحقا أن الخوري شقيق خالي في الرضاعة.
هذا هو مجتمعنا الأردني وهذه خصوصيته نباهي ونفاخر بها العالم ولا أقول عنه فاضلا,ولكني أقول أنه متجانس
قياسا للمجتمعات الأخرى في العلاقات الودية والإجتماعية بين مسلميه ومسيحييه إذا ما قورن في مجتمعات
العراق او مصر أو لبنان فلم يحدث يوما ما يعكر صفو هذا التعايش.
ان الذي دعاني الى كتابة هذه المقالة هو ما سمعته بخبر مقتضب عن الفحيص ,وما حدث فيها مما سبب لي الألم
الذي حاولت أن أترجمه بهذه السطور لعل وعسى أن يفهم شعبنا أن هناك أصابعا خفية بدأت في التخطيط
لمشروع فتنة ,مستغلة حادثة لا أقول عنها عابرة ويجب أن نتغاضى عنها فهي تتعلق بموروث إجتماعي قبل أن
يكون ديني ,علينا ان نعالجه بحكمة وتروي على يد الحكماء من شعبنا الذين يحبون هذا الوطن ويريدون له
الخير.فالمخطط لتهجير مسيحييوا الشرق قائم وبقوة وبدعم من الإمبريالية العالمية,إذ تفتح أبواب سفاراتها
لهم تحت ستار العاطفة والإنسانية وأنا على يقين بل أجزم أن من هو على رأس هذا المشروع هو إسرائيل عدوة
العرب مسلميه ومسيحييه فهي التي بدأت هذا المشروع منذ قيامها في العام 1948 فقد كان عدد سكان القدس
على سبيل المثال165000نسمة عربا مسلمين ومسيحيين ويهود ,وكان المسيحيين العرب 31000 نسمة
أي بنسبة 19% من السكان ولو حافظ المسيحيين العرب على نسبتهم لكان عددهم اليوم 54000 نسمة
على الأقل في حين أن الأرقام الحقيقية تتحدث عن وجود 15000نسمة وهو ما يمثل 2% من عدد سكان
المدينة المقدسة حسب إحصاء العام 2010 ,هذا في مدينة واحدة ولا أملك إحصاء لعموم فلسطين ولكن
الرقم سيكون مرعب بلا شك.
فهاهم إخوتنا ملح الأرض يتلاشون منها فكيف بأرض بلا ملح ..؟ولا أتصور الشرق مهد الديانة المسيحية
ومنطلقها خاليا من أحفاد من نشر هذه الديانة ,مع تفهمي للواقع الإقتصادي السئ الذي تسبب فيه الفساد
والفرص المتاحة في الخارج .
لذا أناشد كل من تتاح له الهجرة من الشباب فقط أن لا يغتروا بذلك فأنا جربت الغربة ومعاناتها ل33 عاما ولا
أزال أترجع من كأس علقمها ,ومن خلال تجربتي فيشهد الله أن مال الدنيا لايساوي فراقك لوطنك وأهلك وأحبتك.
clickhussam@hotmail.com