أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


ذكرى ذَوق

بقلم : م. ايمن عبابنة
24-10-2012 09:53 AM



رائحة وادي الموجب وفستان تلك المرأة ما زالا في ذاكرتي.

لا اعرف لما اعتبروني صغيرا حينها وقد كنت تواً قد أنهيتُ كتاب العِقد الفريد .

أجلسوني بجانبها لأنني طفل.. فلا حرج... أما بقية الركاب فراشدون .

لم يعرفوا كم كنت راشدا في التقاط كل تفاصيلها ....اشتم ما تقرأ... والتنهيدة الأنثوية مللاً تُريح عينيها إليّ ...إشفاقا على طفل من مشقة السفر... بأهدابٍ كسولة تُمشطني ليوم مدرستي الأول وابتسامة تسوق الحان شريط 'كاظم الساهر' المولع به سائقنا ذو الشعر المنفوش والشارب الطلِق ....أنا بجانب النافذة وهي بجانبي .

الرسم نحو الجنوب.. كانت لوحة لا سفر انتهت بهدوء آسر على أضرحة العسكر الفاتحين في مؤتة الكرك .

كنت أنا الطفل بيننا لكنها كانت تفتش في حقيبتها كما لا يفعل إلا الأطفال المهووسون بجعب الهدايا ... ناولتني قطعة من الشوكولاته ... وكأنني هناك... (فقط لو عرفت القهوة حينها لكان أفضل) .

طفلا كنت والأطفال لهم حرية الراحة في قلوبنا المتحركة ... وكأنني عشت في البعد المكاني اللازم للولوج لزمن أخر تحيا به حواء على عرش بلقيس القديم.. هناك.. بطرفة عين موضعٌ تبدو فيه الأنثى برائحة حواء الأولى أدركت منها أو هكذا أزعُم.

شاردا فيها وفي وديان الطريق.... ساعات من النظر في معادلة جبرية هي والأردن حدّاها ... هي في طبيعتها دون تكلف فانا صغير لا أملك لها حرجا والأردن في طبيعته الخام وحجره الشَرود... عيناي له.

الصفن في معادلة بداعي الطفولة ...بداعي الفضول لملء فراغ لاوعي الذوق الأول.

الاسترخاء شرس ...في رفقة الأنثى .. لا يبالي بك ولا يعطيك فرصة لتصدق انه لا مبالٍ بك ..يثيرك.. يهوى بك يتكدس كأكوام الرسومات الخلابة تريد معالجة فورية من وعي طفل يكون ..ويرى الكون من طوق ابن حزمٍ للحمامة وحزم والده الحوراني فيه ....' بسمتُه تشبه بسمة والده '.... تبسمَّ أكثر كلما قالوا له ذلك رغم أن 'الكشرة' مفتاح نجاة في بلد العقبة والملح ..حيث يخاف سواد الليل وضباع الوديان وحربا قادمة قذرة ...لا يمتلك إلا الطباشير وشارع قلَّ فيه السير يرسم خوفه على خطوط لا تقلق.

ما زالت رحلتي تمر بكِ في كل أنثى جديدة وكل حب جديد وكل حوار مع حواء جديد ...أنت من حروفه الحية .

أولئك الذين نلتقي بهم في طفولتنا إذ كنا لا نتقن إلا الصفن ..نتلعثم بقول شكرا للغرباء نصفن فيهم كصفن داود في الجياد العاديات . أولئك هم أول من اخترعوا فينا كل شيء .... أول من طبعوا في طيننا اللدُنِ شيء ... وان كانوا مجرد مارة عابرون عبر الزمن لا يطلبون أي ثمن سوى أنهم أحرف فهرس الذوق الأول لدينا.

أينما كنتِ اليوم وان تغزَّل بك الشيب .. سيدتي... اقبلي غزلي المتأخر......أريد أن أقول شكرا لا على قطعة الشوكولاته ... لا ...لقد كنتِ من مؤسسي ذوقي العميق كتراب الأردن النافح بالبارود وحمرة تينة اقتبست خدودنا الحياء منها ... سيدتي .. بل صديقتي سيتعجب غيري من هذه الذكرى حتى أنا أتعجب منها ومن نفاذها حد العمر فلا يوجد حبكة هنا .. هناك في الطفل ذاك ... يوجد لحظة أريدها أن تتوقف .

ليتني رددتُ طفلا لأصغي من جديد لكل ما اعتقدت انه صار قديما في بلدي .. أصغي وأملأ جعبتي بالمزيد من أوراق الهدب البري والزهر الملائكي العبق.

كنت طفلا هناك أيضا .

كنت وأخوتي نحوم البر لنأتي أُمّنا بما نجمع من أوراق الزهر والزيتون وحجارة ذات أشكال وعروق خلالها.. تبدو كالأحجار الكريمة... نعرض بضاعتنا فتأخذ أُمّنا بعينها ما تراه يليق زينةً في غرف الضيوف والمعيشة والمطبخ .. قطع وأوراق كانت لنا كاللوحات الفنية لبيكاسو ودانتي إن لم تكن أثمن .. أصبحنا نختار ونبحث وفق تقديرنا الطفولي البسيط لما ترغب به الوالدة بما يليق . من هنا من هذا الحدث الطفولي الذي يبدو كلعبة تريح ربة المنزل من إزعاجنا اليومي ...من هنا فقط تعلمت الذوق الفني وتأسس على يد الأم الحورانية ربة البيت قبل أن أدرس أعمال بيكاسو والمدرسة التجريدية والتكعيبية .

لم يكن الفن صناعة .. كان طبيعة فينا ولا حرج أن نكون طبيعةً فيه بل لعلنا كنا لوحات رائعة من الأنس تمتع بها آيات الله وخلقه الأخر . ..فأي راحة تلك يبعثها وجود أمي وأبي في داخلي إذ يتأكد بملاحظة الناس لذوقي وابتسامي !.

هي ذكرى ذوق من القدم منذ النبط يُتداول كعملة نحن متاحفها في الشرق... كنجمة هو هذا الذوق .. انتهت قبل ملايين السنين وما زالت تنير دربنا المعتم وكأن الضوء أبطأ من عمق تجربة الأجداد في الكون .

افتقدك يا وطن... أنت ذوقي المباشر وصفوي العفوي الأخطر من شهب النار ... دعوني اعترف بطين ذوقي الأصيل ودعوني من الترهات .

وطني أنت من الطين الذي اغلقني صلصالا عربيا لا غير .... سائر حتى أراك .


التعليقات

1) تعليق بواسطة :
24-10-2012 12:13 PM

سامحك الله يا ايمن فقد نكأت جروحا اوشكت على الاندمال .
وحركت مواجع في كل عرق من معاليقي.
سلمت وسلم قلمك........

2) تعليق بواسطة :
27-10-2012 10:14 PM

لاتنكأ الجرح القديم لقد ودعت ليلا طويلا مظلما. الله على الذوق الله على الاحساس شكرا على هذا المقال الرائع
زياد الخالد
الرياض

3) تعليق بواسطة :
11-11-2012 04:46 PM

أكثر من احساس ,, رائع .,, وما زال السائق عاشقا لكاطم واغانيه
وما زالت امي تعلم احفادها من بعدنا لعبة الفن ..
ذكرى ايام لا تنسى :)

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012