06-08-2010 05:38 PM
كل الاردن -
توجان فيصل
لم تستطع الحكومة منع مسيرة للمعلمين من عمان إلى الكرك، نصرة لزملائهم الذين أحالتهم الحكومة الى الاستيداع كعقاب على دورهم في الحراك الجاري للمطالبة بنقابة للمعلمين، ولجعلهم عبرة للبقية.
وعدم قدرة الحكومة جزء من خسرانها كل المواجهات مع قطاعات عديدة من الشعب ألزمت بها سياساتها التي أدارت الظهر كليا للشعب .. فأدار لها الشعب ظهره حد رفض كل من له وزن سياسي، جمعي أو فردي، المشاركة في الانتخابات المقبلة.. في حين نزلت جموع الشعب للشارع في مطالبات حقوقية أخرى مما يتحقق عادة بالديمقراطية وسيادة الدستور.
والمعلمون يشكلون أكبر جسم شعبي غير منظم في أي هيئة تمثيلية، يفرض نفسه في مواجهة مع الحكومة. ومن قبله فعل الشيء ذاته "عمال المياومة" من مستخدمي الحكومة الذين عوقبت قياداتها بذات إجراء قطع الرزق.. ومع ذلك لم يهن عمال المياومة ولم يتراجعوا.
والحكومة كانت قد ماطلت المعلمين الذين لجأوا لإضراب مقنن، حتى نهاية الامتحانات المدرسية وبخاصة امتحان شهادة الثانوية العامة، ظنا منها انها تملك بعدها إشهار العصى الغليظة بإحالة عدد من قيادات المعلمين إلى الاستيداع.
ولافت هنا، بل وصادم، حجم قصر النظر الحكومي الذي ير أبعد من العطلة الصيفية.. إلى أن لوح هؤلاء بإجراءات عند عودة الدراسة الوشيكة، الإضراب الشامل منها. وهو ما لا يمكن منعه، بمؤشر عدم تمكن الحكومة من منع المسيرة على الأقدام مسافة مئة وعشرين كيلومترا من العاصمة عمان إلى مدينة الكرك في الجنوب، حيث يتركز جسم المعلمين الأكثر نشاطا، إضافة لمدن مجاورة كالطفيلة ومعان.. وهي ذاتها المدن التي انطلقت منها الانتفاضة الشعبية المطالبة بالديمقراطية عام 89.
والأخير هو الأهم الذي لم تقرأه حكومة ما زالت تعيش مرحلة "إنكار" تلك الانتفاضة، مختلطة بشكل يربك الرؤية مع ما ظنت انها مرحلة متقدمة من تصفية الحسابات مع قوى الدمقرطة بعامة، ومع أهل الجنوب بخاصة.
تلك الثنائية تسببت في تحاشي رئيس الحكومة زيارة مدن الجنوب حين استحقت، ثم تسلله في زيارة حصرية بضيافة شخصيات حكومية ما أبرز أزمة الحكومة في مواجهة الشعب بدل أن يغطيها.
ومثلها جاء التعديل الحكومي الذي كان رئيس الوزراء يرفض مجرد الحديث عنه، ولكنه اضطر له ليلة انطلقت مسيرة المعلمين إلى الكرك، وشمل أغلب الوزراء الذين تصاعدت حدة المطالبة بعزلهم، وجيء لوزارة التربية والتعليم بوزير " كركي " من جهة، و"مفوه" من جهة أخرى .
وهذا الوزير المفوه يذكّر، مرة أخرى، بالشبه بين هذه الحكومة وحكومة سابقة، والذي ألمحنا إليه في مقالتنا السابقة ولم نشأ التوقف عنده حتى ألزمتنا به الحكومة بإجرائها هذا الذي هو استنساخ لما قامت به تلك الحكومة.
فالدكتور خالد الكركي، وزير التربية والتعليم الجديد، كان قد عين نائبا ثانيا لرئيس الوزراء في حكومة زيد بن شاكر، إضافة لتوليه وزارة الإعلام حينها.
وكان هو والنائب الأول للرئيس( عبد الرؤوف الروابدة ) يتوليان صياغة خطابات الرئيس والدفاع عن سياساته. والروابدة كان السياسي الأكثر حنكة بين النائبين ولكن الدكتور الكركي( الحامل لدكتوراه في الأدب العربي) كان الأكثر بلاغة.
بل هو من ابلغ الخطباء في المملكة، ومن مدرسة المتنبي تحديدا (أدبيا وسياسيا أيضا بمدلول أدواره ومهامه)، واشتهر أكاديميا بمحاضراته البلاغية المشوقة عن الشاعر الكبير والتي كانت تجتذب جمهورا واسعا .
ومؤخرا حظيت محاضرة بليغة له في شأن فك الارتباط وحق من هم من أصل فلسطيني في المواطنة ألقاها في مخيم الوحدات برواج لدى مؤيديها ومعارضيها، مع تهمة التباس المعنى التي أتته من الأخيرين.
والقدرة على القول الملتبس مطلوب بحد ذاته من وزير التعليم المستجد، كما " الدالة " العشائرية على الكركية وأهل الجنوب، أي" العشم " الذي اشرنا إليه في مقالتنا السابقة باعتباره " فلترة" كانت موكلة للنائب الثاني لرئيس هذه الحكومة للتعامل مع مطالب تحملها وفود لا تملك قدرات سياسية وحوارية نوعية، مما يمكّن بالتالي من" إسقاط حقوق بالعشم أضعاف ما يعطى كاستحقاق قانوني أو حتى دستوري".
ولكن لكون قطاع المعلمين مثقفين ابتداء بحكم متطلبات مهنتهم، جيء ببليغ مختص ظن انه يستطيع ان " يلبس الأمر" على المعلمين، كون المعلمين في نظر الحكومة الطبقي "غلابى" . المعلمون فهموا القصد واستبقوه برسالة علنية للوزير صيغت بلغة تعود لعصر المتنبي فهمها الوزير، ولكنها لم تمنعه من مواصلة مهمته التي جيء به من اجلها حصريا.
ففي أول لقاءين له مع لجنة إحياء نقابة المعلمين (كانت لهم نقابة ألغيت عند فرض الأحكام العرفية عام 57) ,حاول الكركي إقناع المعلمين بقبول اتحاد بدل النقابة لحين انتخاب المجلس النيابي، في محاولة لتحميل مجلس مطواع جريرة رفض النقابة.
وفي الرد على إصرار المعلمين على دستورية مطلب النقابة قال الوزير " كلنا نحتكم للدستور ".. متجاهلا، أولا، ان هنالك رأيا دستوريا مخالفا لرأي الحكومة ومن ينطق بوحيها، تتحاشى الحكومة مناقشته او حتى الرد عليه .. وثانيا، أن وضع الحكومة غير دستوري منذ الرابع والعشرين من شهر آذار المنصرم، وكذلك كافة القوانين المؤقتة التي أصدرتها التي تنوي إصدارها، سواء لجهة مصدرها أو لعدم توفر الشرط الدستوري بوجود حالات طارئة " تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية لا تحتمل التأجيل"، او حتى لمخالفة نصوص أغلب تلك القوانين لأحكام الدستور صراحة، وفي مقدمتها قانون الانتخاب وقانون ضريبة الدخل وقانون استقلال القضاء الذي أتى بمزيد من الإنقاص لذلك الاستقلال أدى لأول حراك احتجاجي واسع في صفوف القضاء ذاته، لم يطفىء جمره رماد كثير أهيل عليه من فئة قليلة.
ولتخليص الحكومة من مأزقها المتأتي من إحالة معلمين الى الاستيداع، لجأ الوزير إلى الفصل بين " ما هو من صلاحيات الوزارة وما هو من صلاحيات مجلس الوزراء "، واعدا بأن الأول( ويعني الإحالة الى الاستيداع خاصة ) سيتم حله، والثاني ( ويعني النقابة ) سيتم نقله إلى مجلس الوزراء و"إعطاؤه أهمية". وفي هذا قلب للحقائق كما اتضحت على الأرض .
فالمطالبة بالنقابة والإضراب وحشد الاعتصامات وتسيير المسيرات غير المسبوقة هي التي حددت ابتداء ما هو "المهم والأهم " حد إلزام الحكومة بالتعديل ومجئ الكركي ذاته وزيرا !! ولكن يفهم من قول الوزير أن الحكومة ما تزال تكابر وتحاول جهدها ان تبيع كلاما في علب الفعل.. ولكن مع الإبقاء على خط الرجعة الذي دخلت فيه مرغمة.
وأوله مسرب يمر عبر ما اعترف بأنه من اختصاص الوزير وحده ليكون التراجع من حصته، بدءا بالتزامه بعدم إحالة آخرين للاستيداع إذ قال للمعلمين انه :
" سيخجل من مقابلتهم حال اتخاذ قرار بإحالة زملاء لهم الى الاستيداع ".. وهو قول يجس نبضهم لجهة تخليهم عمن أحيلوا من قبل للاستيداع، أو يمهد لإعادة هؤلاء بمكرمة من الوزير دون حاجة لإبداء " الخجل" مما تم فعلا .. أو بإلباس لبوس المكرمة لإعادة المعلمين المفصولين ولغيرها من التنازلات التي قد تخضع لها الحكومة، بالقول إنها مكارم صدرت عن جهات عليا.. والأخير هو ما يتم التمهيد له إعلاميا، ولكن الوزير الكركي عبر عنه بقوله ان " جلالة الملك لا يرضى أن يجوع أحد "!!
وتلك هي مخاطر ومحاذير لعبة المبالغة في توظيف البلاغة في موضع القرار، او للتغطية على قصور وفشل الحكومة في كليهما، وهو تحدٍ ما أودى بحكومة سابقة إلى غير رجعة. فالوزير البليغ وقع في خطأ الوزير المعزول الذي استحق غضبة المعلمين وقطاع واسع من الشعب لتعليقه على مظهر بعض المعلمين الرث.. وبلاغة خليفته لم تفد إلا تظهيرا أوضح لنظرة الحكومة المتعالية للمعلمين.
فهؤلاء ليسوا طوابير جياع يطلبون لقمة يعطونها كمكرمة .. هؤلاء أصحاب حق دستوري وإنساني من جهة، وحاملو رسالة ويدافعون عن كفاءة وكرامة مهنة تربية وتعليم النشء لا أقل!!
(الراية القطرية)