أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


المواطن..\\\"الحي الميت\\\" !

بقلم : بسام الياسين
13-02-2013 10:52 AM

وجوه قلقة، نفوس مضطربة، عيون شاخصة تترصد من شرفة المطار رؤية القادم الذي طالت غيبته، بعد ان سقط في قاع الذاكرة، واستقر في تجاويفها البعيدة،حيث شارف على الانمحاء. حبس النّظارةُ أنفاسهم حين حطت الطائرة على الارض .ازدادت حدقات العيون اتساعا ،وزاغت الابصار وهي مصوبة نحو سُلمّ الطائرة عندما
أسند بمحاذاة الباب. إطلالة القادم تحمل من الاثارة ما تحمله قيامة ميت من قبره، اذ ان الرجل كان في حكم الميت، لتواتر شائعات موته، في حين تؤكد اكثر التوقعات تفاؤلاً ذوبانه في دار الغربة بعد زواجه من اجنبية حمل منها جنسيتها،وحملت منه نصف دزينة من الاولاد.
*** رسم كل واحد من الحضور صورة في مخيلته للوافد، اعتمدت خطوطها الرئيسة على حكايا كبار السن، وبعضها الآخر إستندت على شطحات جلسات النميمة الموزعة بين نكات ساخرة تحط من قيمته كمشرد،عاش غربته على الحاويات، او ترفع من شأنه كبطل تحدى الدنيا بقبضة يده العارية،وسجل صموداً اسطورياً،ونجاحات مغمسة بالمرارات،واياماً مملؤةً بالعذابات في بلاد قارسة البرد والجوع والوحدة. من هنا تباينت الانطباعات،كلٌ حسب الايحاءات المخزونة في ذهنه.
*** علة تضارب الآرآء حول شخصيته، إنقطاع اخباره، كأنه يسكن في المكان وحده،ويعيش في الزمان وحده. لإجل ذلك أُشكل على الناس امره، لكنه اليوم على مرمى نظرة منهم،بعد سنوات حافلة بالثرثرة عنه،وفائضة بالنق عليه. فُتح باب الطائرة، فتسرب منها رجل عجوز،كشجرة متآكلة تنتظر فاساً لاجتثاتها، يمشي بخطوات متثاقلة،متكأً على كتف إمرأة تشبه روزنامة تساقطت اوراقها،لم يبق منها الا ورقة تتارجح،هي الأخرى على وشك السقوط.
*** إنها زوجته الاوروبية التي ترافقه كظله،فارعة الطول، ذات بشرة مشدودة متجعدة مثل طبل خرج من الخدمة العسكرية بمعلولية بُحة في الصوت من كثرة ضربه على قفاه في الاستعراضات، وجلده بلا رحمة في الاعياد الوطنية. اللافت في المشهد ان سحنة الرجل كسرت جميع التوقعات،وبزت كل رسومات المخيال الشعبي،مما فجر اسئلة غير متوقعة،على رأسها سؤال معلق على شفاه المستقبلين كافة. لماذا اختار \\\'الرجل الميت\\\' هذا التوقيت للعودة للوطن؟!.
*** غيبتة الطويلة استهلكت عمره،ولم تُبقِ منه سوى نَفَسٍ لاهث، ونبض ضعيف، وبنيان متداعي .فيما نظراته الزائغة توحي بالقول :هل جهزتم قبري،و نصبتم سرادق عزائي؟.
*** المستقبلون/ المشيعون اختلفوا ثانية حول سر عودة الرجل بعد ان اصبح بينهم .اقسم احدهم ان \\\' الحي الميت \\\'عاد ليموت بين اهله، فالوطن لا يبرح قلوب ابنائه المغتربين عنه، مهما طالت غربتهم.وقبل ان يُكمل المتحدث جملته، اعترض رجل مُسن على هذا التحليل ووصفه بالساذج الرومانسي،مضيفاً ان الرجل ميت سريرياً،لا ينقصه سوى \\\'قطنه\\\'،وإهالة التراب على جسده المتجيف.اضاف، ربما ـ انه خرج من قبره هناك لشعوره بالوحشة ،فالغريب في تلك البلاد يموت كالكلب،حيث تتكفل البلدية بدفنه من دون مراسم،بينما هنا يجد على الاقل من يقرأ على روحه الفاتحة.
*** ما ان انتهى المُسن من كلامه،حتى قام من بين الجموع رجل اغترب،ثم عاد ادراجه قبل اشهر لعدم حصوله على \\\' حق الاقامة\\\' صارخا: لماذا يرفض الموت هناك ومقابرهم حدائق غناء،هي افضل الف مرة من حدائقنا المتصحرة،ناهيكم انها اوسع مساحة من غاباتنا التي اوشكت على الانقراض جراء التحطيب الجائر؟. مقابرهم اشجارها مخضوضرة على الدوام، باسقة تناطح الغيوم، نوافيرها عذبة جذلى تراقص الامواج وتحتضن نسمات الريح العليلة.صبايا كالحور العين يفترشن اعشابها مع عشاقهن، وعصافير ملونة تعشعش فوق شواهد قبورها، تصدح صباحاً مساءً بسمفونيات يطرب لها الاموات.هناك يرفل الميتون براحة ابدية
*** اما مقابرنا فهي صلعاء كرجل مصدوم او قرعاء كمريض مسرطن تساقط شعره من جرعات الكيماوي. مقابرنا لاتعيش فيها نبتة خضراء لقلة العناية، بينما الدواب ترتع فيها بحثاً عما تقتات عليه بين اكوام الزبالة،وكثيراً ما نفق بعضها لإلتهامه الاكياس البلاستيكية،لان زبالة الفقراء خالية من الدسم.فيما اجؤاءها المغبرة محظورة على الطيور من عبورها،ظاهرة عجز العلماء عن تفسيرها. الاسوأ،ما يدور بين القبور من مباذل ساعات الليل،ويمارسه الزعران من منكرات في العتمة،تهتز لها اركان السماء،و تقض مضاجع الاموات.فلماذا يأتي هذا البائس ليموت بين ظهرانينا، مع ان الثابت الوحيد الذي دخلنا به العولمة : ان لاكرامة للانسان في حياته، ولاحُرمة له عند موته ؟!.
*** نقاط خلافية كثيرة ثارت بين الفرقاء، لكنهم اتفقوا على الدافع وراء الرجل لهجرة وطنه،ولجوئه للمنفى الاختياري : ان \\\'اولاد الحرام\\\' من فصيلة النخبة المتوحشة،والرموز الفاسدة ، اقفلت في وجهه الابواب،ولم يجد يداً تنتشله،اوجداراً يسند ظهره إليه،فاضطر لاستدانة ثمن تذكرة سفر،ومغادرة الوطن بعد ان عاش واقعاً سيئاً، وأحوالا بائسة لايستطيع احتمالها سوى صحابة رسول الله،وهو ليس صحابياً ولا تابعياً0 فكيف يحتمل عسف وجور من تفننوا بالظلم وبرعوا فيه.
*** زادت وتيرة الجدال بين المتعاطفين مع الرجل والمشككين فيه، وكادت الامور ان تنتقل من الجدال اللفظي الى الاشتباك بالايدي،لكن وصول الرجل الحي الميت الى مسرح الاشتباك اوقف المعركة،مما دفع شاب عاطل عن العمل للصراخ في وجهه معنفاً:لماذا اتيت الينا وغالبيتنا يتمنى ان يكون حيث كنت ؟.الم تسمع باحوالنا الجهنمية.اقتصاد منهار،غلاء جنوني في الاسعار،بطالة مزمنة ومديونية مخجلة وغياب مطلق للعدالة الاجتماعية وفساد وصل الى عظام الدولة ومفاصلها الحساسة ؟.
*** رد الرجل الحي الميت :،نعم يا ولدي سمعت اكثر من ذلك فهناك لا توجد قيود على الصحافة و حرية التعبير.لهذا انا اعرف عنكم اكثر منكم .بدايةً لقد ساءني منظر وجوهكم المحنطة التي توحي بالكآبة ،كما ساءتني الوانكم المصفرة،و كأنكم تقتاتون على رواتب المعونة الوطنية، وتشربون من زيت الجامع.حقاً ياولدي انكم تستحقون الدعاء لاستنزال الرحمة عليكم ،واللحمة اليكم،فمن حقكم مقاطعة الانتخابات النيابية،المقاطعة حق مكفول بالدستور،لكن مقاطعة اللحمة طواعية او قسراً ،لها عواقب وخيمة على اجسادكم .
*** الواقع، أنكم بحاجة ماسة الى الاثنتين فوراً \\\'الرحمة واللحمة\\\' ،فاوضاعكم محزنة،فبدلاً ان يكون عنوان المرحلة \\\'قانون من اين لكم هذا\\\' لاسترداد حقوقكم،صمموا لكم \\\'مشروع تعقيم وطني شامل\\\' للخلاص منكم.ان مجرد قرآءة عابرة لمجلس النواب السابع عشر تجد ان عربة قيادة قطار المجلس لم تتغير وكل ما تغير هم الركاب من النواب الجُدد .لا امل بالتغيير في ظل قانون انتخاب عقيم يسعى كما قلت لكم لتعقيم وطني،وتلك كارثة وطنيةبكل المقاييس . المطلوب قانون عصري من اجل تغيير القطار النيابي والسكة التي يسير عليها لتحقيق الطموح الشعبي بقوانين عصرية وعدالة اجتماعية وفتح ملفات النخبة لنقلهم من المواقع الامامية الى حيث يجب ان يكونوا خلف القضبان.
*** احبائي لاتصدقوا اكاذيبهم ،بان البقوليات هي لحمة الفقراء، فقنطار فول لايوازي سيخ لحمة، ولاتؤمنوا بوعودهم المستقبلية لانهم سرقوا الجمل بما حمل.من هنا لن اقول لكم ما قالته اليهود لسيدنا موسى: \\\'لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يُخرج لنا مما تُنبت الارض من بقلها وقتائها وفومها وعدسها وبصلها\\\' فهذا امر يطول وفوق قدرتكم على الاحتمال ،ولكني ادعو لكم الله بدعاء سيدنا عيسى عليه السلام \\\'ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً\\\'،لمعرفتي اليقينية حاجتكم الفورية للتغميس والفرح بعيد حقيقي،لاتستدينون فيه ثمن ثياب اولادكم ولا حلوى ضيوفكم.
*** سبب عودتي الذي اختلفتم فيه،الحق اقول لكم من غير مواربة : انني جئت لزيادة عدد الاحياء الاموات عندكم واحداً، نكاية بالمخصيين وطنياً الذين تحكموا في رقابنا وطالت شرورهم ارزاقنا،هذا هو السبب العام،اما الخاص زيادة الضغط على اعصاب مَنْ سرقوا شبابي بظلمهم،وباعوا مستقبل أبنائي بفساد خصخصتهم،\\\' أُولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون\\\'.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012