20-10-2010 04:00 PM
كل الاردن -
غسان سعود - لا يطلع الصبح على السوريين إلا مع فيروز. البلاد بأكملها تستعيد حواسّها كل صباح مع السيدة اللبنانية. على صوتها تتفتح العيون، ومعه ينطلق السوريون إلى يومياتهم. تسمعها عبر الراديو وفي السيارات المتّكلة على «الكاسيتات»، وتراها في عيون وأفكار تطل على العالم من الشباك الفيروزي. هكذا يبقى لبنان بالنسبة إلى هذا الشعب، أولاً وأخيراً، «لبنان فيروز»، لا «لبنان أحمد فتفت» ولا «لبنان سعد الحريري». وبحكم حميمية الصوت، يزداد شغف السوريين بتلك البلاد التي تغنيها السيدة، ورغم تجاوز بعض الصحافة السورية معظم الصحافة اللبنانية في الإضاءة على الفساد الداخلي والإفساد ونشر تقارير مثيرة للانتباه عن فساد بعض المسؤولين السوريين، يُشغَل معظم السوريين عمّا يحصل عندهم بما يحصل في لبنان. ومن فيروز، مروراً بإدهاشات «إل بي سي» و«أو تي في» و«نيو تي في»، وصولاً إلى «الصيحات» اللبنانية الصاخبة، تبقى الأنظار السورية معلقة على هذا «الشعب المثير للاهتمام بمشاغباته».
هذا الأمر يعرفه المسؤولون السوريون جيداً. يعلمون أن كل المكاسب السورية في العراق وكل الانتصارات الدبلوماسية شبه الاستثنائية وكل التشابك الاقتصادي مع القوّتين التركية والإيرانية لن تغنيهم عن ضرورة استعادة هيبتهم في لبنان الذي تتطلع إليه عيون شعبهم ليل نهار، ما يفرض على هؤلاء المسؤولين مواصلة اهتمامهم بلبنان.
قبل سنتين، كانت دمشق تعتقد أنها بفتحها صفحة جديدة مع الرئيس سعد الحريري ستعيد بناء الثقة بينها وبين جميع الشعب اللبناني، فاندفعت إلى المصالحة من دون بديل عملي وواضح. والقيادة التي تستعمل ميزاناً أدق من ميزان الألماس لحساب أرباحها وخسائرها في أية خطوة تقدم عليها، هرعت إلى ملاقاة الحريري دون دفتر شروط ودون حساب لما ستجنيه من مسامحته على ما فعله وقاله طوال أربع سنوات. ويكرر أحد المسؤولين السوريين التأكيد أن سوريا هي التي كانت في موضع المسامح، لا الحريري؛ لأن الحريري هو الذي أخطأ في اتهام سوريا باغتيال والده، وشنّ عليها الحملات السياسية والإعلامية. ويتابع المسؤول السوري: «الحريري الذي بات يعلم أنه أخطأ في اتهام سوريا باغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، وبات يعلم أنه كان شريكاً في المؤامرة الدولية لإطاحة النظام السوري، ويعلم أن دمشق سامحته من دون مقابل، يواظب على تمنين سوريا بموافقته على إقامة علاقات طبيعية بين لبنان وسوريا». يشعر المسؤولون السوريين بالإهانة. يقولون إن مد اليد إلى الحريري ليس فقط لم يربحهم شيئاً، بل اضطرهم إلى التخفيف من دعمهم لحلفائهم في بيئة تيار المستقبل. ومن يعرف الرئيس الأسد جيداً يقل إنه يعلم أن سليمان فرنجية وميشال عون وطلال أرسلان وغيرهم يَصدقون مع أنفسهم حين يعدّونه صديقهم الشخصي، وهو قابل الحريري أول مرة وثاني مرة وثالث مرة بهذه النفسية، محاولاً عبر وسائل عدة توطيد علاقته الشخصية معه، لا لحاجته إلى صديق إضافي، ولا لرغبته بسماع أحمد فتفت يشيد به، بل للانتقال مع الحريري من حالة شعبية إلى أخرى. فالرئيس السوري، بحسب ما ينقل البعض عنه، يعتقد أن تعزيز العلاقات الرسمية بين البلدين، كما هو متفق عليه، لا يكفي لإزالة تشنج بعض الشعب اللبناني تجاه الشعب السوري، ولا بدَّ من طمأنة الحانقين المعبَّئين إلى أن رئيسهم صديق الرئيس السوري بشار الأسد.
لم يتحقق هذا الأمر. كان الحريري متوتراً في جميع لقاءاته مع الأسد. أخذ الحريري تبادلاً دبلوماسياً. أخذ مشاهدة سورية من بعيد لفوزه مرة أخرى بالأكثرية النيابية، أخذ حكومة توافق وطني لا ترضي طموحات المعارضة السابقة، أخذ سكوتاً من المعارضة السابقة عن الانتهاكات الأمنية والاقتصادية لفريق عمله. لكنه بقي، بحسب المصدر السوري، جامداً: لم يوحِ بالصدق، لم تبتسم عيناه، لم يتغير شحوب وجهه فور وطئه الأراضي السورية، والأهم أنه لم يشعر بأن سوريا بلده الثاني. فضلاً عن أن نواباً في كتلته يواظبون على إعداد العدة للمواجهة الكبرى ويتحدثون بلغة مذهبية متطرفة عن «تحالف الأقليات»، فيما زملاؤهم «يطمئنون» الأنصار إلى أن شهر العسل الحريريّ ـــــ السوريّ لن يطول. هذا كله يحدّ من رهان القيادة السورية على علاقتها بالحريري.
اليوم، عشية النقاش في المحكمة الدولية وموقف الحريري من القرار الاتهامي، يدور نقاش جانبي في بعض الغرف الدمشقية أكثر تفصيلاً. سقط رهان البعض في سوريا على أهلية الحريري لإصلاح العلاقات اللبنانية ـــــ السورية بين الشعبين أولاً والدولتين ثانياً. وترسخ اقتناع سوريا بأن وجود الحريري في رئاسة الحكومة لم يحقق المصالحة اللبنانية ـــــ السورية، ولا مصلحة الدولتين. وهكذا يسمع هنا وهناك في دمشق عبارات ترى أن «إبعاد الحريري عن السلطة يعلمه موجبات الحفاظ عليها»، وأن تعزيز أوضاع «أصدقاء سوريا» في بيئة تيار المستقبل، من الرئيس نجيب ميقاتي، إلى أسامة سعد، مروراً بالرئيس عمر كرامي والوزير محمد الصفدي والوزير السابق عبد الرحيم مراد وغيرهم الكثير سيكون أفضل بكثير من الانتظار عبثاً لإخماد أحمد فتفت وخالد ضاهر وفؤاد السنيورة نار الحقد على سوريا، التي أضرموها في نفوس بعض أنصارهم.
لا بدّ، يقول مصدر سوري مسؤول، من تغيير جذري في لبنان، يصالح اللبنانيين مع فيروز والسوريين مع لبنان. والمقصود بالتغيير الجذري تغيير مكان سعد الحريري باعتباره العقبة الوحيدة أمام مصالحة كهذه، في التركيبة اللبنانية القائمة. يتردد في دمشق أن حزب الله هو أكثر حلفائها تردداً في الذهاب صوب تغيير كهذا؛ لأن الأمين العام السيد حسن نصر الله ما زال يقف حيث كانت تقف القيادة السورية قبل نحو عام، معتقداً أن سعد رفيق الحريري قادر على أن يكون رفيق الحريري.
(الاخبار)