29-12-2009 12:52 PM
كل الاردن -
حسين بن حمزة ـ ارتبط اسمه بـ"مركز الأبحاث"، وبالمسار العلمي خياراً وطنياً وأسلوب نضال. صاحب "الموسوعة الفلسطينية" عاش أكثر من حياة، وحارب على أكثر من جبهة، وأفلت من الحقد الإسرائيلي، وسكت قلبه يوم الجمعة قبل أن ينجز كتابه عن شفيق الحوت
"إننا نفقد اليوم واحداً من أسماء فلسطين الحُسنى". هذا الوصف الآسر والشجيّ الذي أطلقه شفيق الحوت في تأبين محمود درويش، انطبق لاحقاً على الحوت نفسه، وها نحن نستعيده لنؤبِّن أنيس صايغ (1931 ـــــ 2009) الذي رحل ـــــ استكمالاً للمرارة ـــــ قبل أن يُنهي كتاباً بدأ بإعداده عن الحوت.
لن تكفَّ فلسطين عن إنجاب أسماء جديدة، لكننا ننتبه إلى أنها تفقد ذاك الرعيل الذي عاصر ضياعها، وتربّى على حلم العودة إليها، وصنع أفراده، كلٌ في مجاله، جزءاً من اسمها وحضورها في وعينا ووجداننا وثقافتنا. كأن فلسطين تخسر احتياطيها الاستراتيجي. نقول ذلك لأنفسنا كلما احتضن تراب الشتات أجساد هؤلاء الذين أفنوا حياتهم في النضال، وأمِلوا أن يروا مسقط رأسهم، ويموتوا فيه كما يموت البشر العاديون. قلَّما مات الفلسطينيون موتاً عادياً. إما أن يموتوا غرباء عن بلادهم، وإما أن يسقطوا برصاص الجيش الإسرائيلي. بهذه المعاني كلّها، نتلقى خسارة فلسطين وخسارتنا لأنيس صايغ الرجل الذي ارتبط اسمه بـ«مركز الأبحاث الفلسطيني» الذي ترأسه بين عام 1966 و1976، وبـ«الموسوعة الفلسطينية» التي بقي مرتبطاً بها حتى سنة 1993، وصدر منها أحد عشر مجلداً.
لعلَّ علينا أن نخاطبه اليوم بـ«عزيزي أنيس مركز الأبحاث» كما خاطبه الوزير فاروق البربير خلال تكريمه قبل سنوات، إذْ لطالما مثَّل له المركز الجبهة الثقافية والسياسية والتأريخية التي حارب فيها. أنجز الرجل أشياء كثيرة في حياته. أصدر عشرين كتاباً، وأسس مجلة «شؤون فلسطينية» ثم «المستقبل العربي» و«شؤون عربية»، وترأس تحرير مجلة «قضايا عربية»، وأسّس «اللقاء الفلسطيني» الذي ظلت جلساته مستمرة حتى رحيله. ولكنّ المركز بقي يختصر تلك الحياة الخصبة، حتى بعد استقالته، وتفجير المركز على يد إسرائيل سنة 1983، بعد ثلاثة اعتداءات عليه في النصف الأول من السبعينيات، ثم احتلاله عام 1982 وسرقة وثائقه ومكتبته.
بجوار إنجازات النضال الفلسطيني، كان مركز الأبحاث أهم إنجاز ثقافي. فيه ـــــ وفي «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» ـــــ تحولت القضية الفلسطينية من مسار عاطفي وخطابي إلى مسار علمي موضوعي وموثَّق، بحسب ما كتب صايغ في مذكراته. كانت فلسطين حاضرة في الشعر والسرد والأغاني، وبات لها حضورها المتجذِّر في التاريخ والوثائق والدراسات المحكمة والرصينة. مثَّل المركز ظاهرة أثارت إعجاب إسرائيل نفسها. إذْ دعت المنظمة الصهيونية العالمية في أحد تقاريرها إلى الاقتداء بالمركز «إذا أرادوا لحركتهم النجاح». ولا ننسى أن صايغ نفسه تعرض لمحاولة اغتيال بطرد مفخخ وفقد بعض أصابعه، ومعظم سمعه وبصره، الأمر الذي حوَّل المركز إلى معمودية نار ستلازم رئيسها حتى آخر حياته.
بدأ صايغ الكتابة في الصحافة وهو لا يزال طالب علوم سياسية في الجامعة الأميركية في بيروت. وبحسب ما كتب في مذكراته، كان يذهب مع زميله هشام أبو ظهر (رئيس جريدة «المحرر» لاحقاً) إلى مكاتب جريدة «الحياة» وينتظران خروج صاحبها كامل مروّة. يدخلان ويسألان عنه فيقول لهما البواب إنه غير موجود، فيترك كل واحد منهما مقاله على مكتبه وينصرفان. كان صايغ يخشى أن يُكتشف أنه طالب صغير السن يكتب في موضوعات أكبر منه، لكنّه فوجئ بإعجاب مروّة بمقالاته وإضافته لقب «الدكتور» إلى اسمه. وحين أوضح له في مقالة لاحقة أنه ليس دكتوراً، استمر في منحه اللقب ظانّاً أنّه يتواضع، إلى أن قام أستاذه نقولا زيادة (وهو اسم آخر من أسماء فلسطين الحسنى) بالاتصال بمروّة، فعاد اسم أنيس صايغ من دون ذلك اللقب الفخري.
البداية الطريفة واللاهية، ولكن الذكية والواعدة في الوقت نفسه، كشفت عن سيرة مميزة في طور التكوّن. سيرةٌ لم يتأخر صاحبها في تعزيزها، فنشر باكورة كتبه «لبنان الطائفي» في سنة تخرُّجه (1953). بعد التخرّج حتى التحاقه بجامعة كامبردج (1959)، عمل في «النهار» و«الأسبوع العربي». نشر كتباً أخرى، وعمل في تحرير عدد من الموسوعات والقواميس، قبل أن يبدأ مشروع حياته في عام 1966، حين وصلته ـــــ وهو في لندن ـــــ برقية من شقيقه فايز الذي كان قد أسس مركز الأبحاث في «منظمة التحرير الفلسطينية» أوائل عام 1965، يطلب منه الاجتماع مع أحمد الشقيري، رئيس المنظمة وقتها، للبحث في مشروع إصدار موسوعة فلسطينية. قدم فايز استقالته، وكُلِّف هو برئاسة المركز والعمل على إنجاز الموسوعة معاً.
ها نحن نلف وندور، ونعود مجدداً إلى «المركز» و«الموسوعة». قالت العرب قديماً «المرء بأصغريه، قلبه ولسانه». الأرجح أن المركز والموسوعة كانا قلب أنيس صايغ ولسانه. ففيهما وضع الرجل الأثرَ الذي سيخلِّده ويحفظه من النسيان. ولا ننسى، في هذا السياق، أن عشرات الكتاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب مرّوا على المركز. بعضهم بدأ من هناك، وآخرون عززوا حضورهم فيه. لكن الجميع يقرون بأهمية اللحظة التاريخية التي جعلت أسماءهم وتجاربهم في الكتابة والإبداع جزءاً منه. هكذا، وجد المركز خلوداً إضافياً على شكل شذرات ومحطات أساسية في سِيَر من عملوا فيه.
برحيل أنيس صايغ، نودِّع رابع الصيَّاغ الكبار في عائلته، فقد سبقه يوسف الذي ألَّف عشرات الكتب والدراسات الاقتصادية، وترأس اتحاد الاقتصاديين العرب سنوات عدة. وفايز المفكر والقيادي في الحزب السوري القومي، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً. وتوفيق أحد رواد الشعر العربي الحديث وصاحب مجلة «حوار» التي ضجَّت بها الحياة الأدبية في الستينيات.
في سنواته الأخيرة، وفي شقته البيروتية المستأجرة، دأب صايغ على رؤية حلم متكرّر يحوم فيه حول بيت العائلة القديم في طبريا من دون أن يدخله. لعلَّ حلماً مماثلاً تسرَّب إلى نوم آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين امتلك كل واحد منهم حكاية عن عودته المنتظرة إلى مكانه الأول في فلسطين. كان مقدَّراً ألا يستشهد أنيس صايغ بالطرد الإسرائيلي، فعاش حتى توقف قلبه يوم عيد ميلاد عيسى الناصري. حذا حذو إخوته الذين لم تسعفهم قلوبهم على العيش أكثر، وتلك تراجيديا أخرى... أنيس صايغ، وداعاً.
كيف أفسّر شعور الانتظار في مقام الوداع؟
نجوان درويش
صحيح أن جثمان المعلّم أنيس صايغ الآن في ثلاجة، أو قد يكون وصل إلى ضريحه في بيروت؛ صحيح أنه رحل عن حياة مكلّلة بالغار مزدحمة بالمناقب والشمائل النادرة، وأن سيرته العطرة ومؤلفاته المتنوعة وجهوده المعرفية («مركز الأبحاث الفلسطينيّة»، «الموسوعة الفلسطينية»، إلخ.) وقبضه على الجمر وجهاده يمكنها أن تسند جيلاً من المفكرين والمقاومين. صحيح أن رحيله ـــــ في لحظة العرب والفلسطينيين المريضة هذه ـــــ خسارة كبيرة... لكن كيف للمرء أن يفسّر شعور الانتظار في مقام يفترض أنه مقام الوداع؟
المسألة معقدة قليلاً، لأن الأمر ليس مبالغة عاطفية مردّها الشعور بالفقد. نحن بالفعل ننتظر أنيس صايغ أكثر مما نودعه. الموت حيلة أيها الأصدقاء. ينتابني شعور أنه قفز في الزمن وسبقنا عقداً أو عقدين أو ثلاثة إلى تحقيق فكرته التي تبدأ من فلسطين المحتلة عام 1948، فلسطين العميقة التي كانت معرفته المتينة لا ترى مستقبلاً للعرب من دون تحريرها. لهذا، ظل مؤمناً بفكرة أن لا مكان على أرض فلسطين لمستوطنة استعمارية تدعى «إسرائيل»، وقد حرص دائماً على وضعها بين علامتي تحفظ.
من وجوه فرادة أنيس صايغ كونه مثّل في مسيرته النقيض البهيّ لـ«مثقف منظمة التحرير» الامتثالي والذرائعي، ذلك المثقف الموظف في أدنى معانيه. ذلك النمط من المثقفين الذين تمتعوا بتفرّغ مموَّل في مؤسسات «منظمة التحرير الفلسطينية» لكن دونما إنتاج في المقابل، وغلّبوا في معظم الأحيان ولاءاتهم المصلحية على دور المثقف وشروطه. للأسف، لم يكن هؤلاء دائماً من قليلي الموهبة، فبالإمكان العثور على بعض أصحاب المواهب بينهم. ولم يكونوا قلة، بل كانت القلة هم أنيس صايغ ورفاقه. وفي هذا السياق، تُقرأ مواجهات أنيس صايغ مع ياسر عرفات ونهج «الألبنضة» (بالدارجة المصرية) الذي عامل به الأخير طبقة المثقفين في حاشيته الثورية.
عاش صايغ في مرحلة كان موقف المثقف الفلسطيني من سلطته موقفاً ملتبساً بسبب الطابع الثوري للمنظمة، من حيث الشكل والشِّعار لا من حيث الممارسة الفعلية. كان نقد أداء منظمة التحرير أو ياسر عرفات أو نقص الولاء للأخير يعد وقتها ـــــ في نظر الحاشية ـــــ خروجاً على «الشرعية». ولعلّ «الشرعية» كانت وما زالت أسوأ الكلمات الطوطمية في القاموس السياسي الفلسطيني.
في رحيل أنيس صايغ، نعرف أن الموت نوعان: خروج من الزمن وقفز في الزمن. موت يشبه ختاماً وحصاداً، وآخر يشبه بَذْرَاً وغرساً وتجذيراً. لا أعرف أية بقعة سيختار ليقف عليها في الزمن المنتظَر الذي سَبَقَنا إليه، وهل سنكون جديرين يومها بالوقوف إلى جانبه؟ هذا على الأقل ما سيحاوله كثيرون منا.