أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


"العنف الجامعي: الحقيقة المرة- الحلقة الأولى"

بقلم : د. علي المستريحي
26-11-2013 12:00 PM
شاهدت واستمعت وقرأت وتابعت للكثير ممن تحدثوا ونظّروا بظاهرة العنف الجامعي. ولكن القلة القليلة منهم ممن قدموا طرحا جريئا صادقا عميقا شاملا يشخّص المشكلة ويتصور الحلول الناجعة لها. فالكثير ممن استمعت أو قرأت لهم لا يعترفون أصلا أنها ظاهرة ويعتبرونها سلوك 'دخيل على ثقافتنا من قوى خارجية عميلة للأعداء تريد لهذا البلد الخراب والضلال'! ولاحظت الكثير أيضا ممن يكتفي بمحاولة وصف المشكلة، أحيانا باسهاب، بأسلوب لا يختلف كثيرا عن 'نادبات' المآتم: عويل بصوت مرتفع، لطم على الخدين وعض للأصابع، مع بعض الدموع لضرورات الاخراج المقنع للمشهد .. ثم .. 'أختك يا خاله توظفت؟ عندي عريس' !! ليس هذا وحسب، فمن المحزن (ممزوج بالامتعاض) أن نجد الكثير ممن ينظّر بهذه الظاهرة وهو بعيدا كل البعد عن الواقع المعاش في الجامعات، ومن كانوا غير ذلك، نجد أن طروحاتهم تفتقر للاطار الفلسفي العميق الذي يضع الحدود الموضوعية للظاهرة ليضعها بمكانها الصحيح. هذا ونشتم بين الفينة والأخرى من الكثير ممن يدلون بدلوهم بهذه الظاهرة رائحة التملق والنفاق (طمعا بمكسب) أو غياب الجرأة في الطرح (تجنبا لعقوبة) أو تحيزا لجهة مساهمة بالعنف (لتشتيت الانتياه عنها)، وربما تكون أيضا انعكاسا لثقافة مجتمعية رديئة تطبيقا لطريقة 'دسّ رأس النعامة بالرمال'!

أما بالنسبة لجدلية اعتبار العنف 'ظاهرة'، فمن فهمنا لأساسيات البحث العلمي، ونظرا لانتشارها وتكرارها، فإنها تعتبر 'ظاهرة' بكل المقاييس، لذا تستحق الدراسة والبحث، وعلى الجميع الاعتراف بوجودها (وخاصة فئة الساذجين العميان ومثلهم فئة 'المطبلين' للوطن بجاهلية، مدّعو الانتماء له والحرص عليه!). ومن المهم هنا لفهم هذه الظاهرة أن نذكر أيضا أنها تتميز بأمرين: الأول أنها سلعة أردنية بامتياز (من حيث الانتاج والاستهلاك والتصدير)؛ فهي منتج محلي وطني، تنمّية الظروف المحلية، ونحن حصرا من يستخدمه، ونصدره لأنفسنا فقط داخل حدود الوطن! وثاني الأمرين أن العنف لا يقتصر على العنف الجامعي، بل يتعداه الى العنف المجتمعي (ضد الأطباء، الممرضين، موظفي الاقراض الزراعي، معلمي وأذنة المدارس، أساتذة الجامعات، موظفي البنوك، من يسوق سيارة بوسط البلد، من يشتري الخضار من الحسبة، من يجلس ببيته آمنا مطمئنا يشاهد التلفاز، ومن ينام مبكرا ليصحو منتصف الليل على أنغام كابوس تعرض فيه لكل صنوف العنف !).

أسباب الظاهرة كثيرة، معقدة ومتشابكة الحلقات. فاصلاح احدى هذه الحلقات لوحدها لا يعالج القضية. وأول الحلقات الأسرة. وثانيها وثالثها المدرسة والجامعة. ورابعها مؤسسات المجتمع كلها (من حكومة ومجلس أمة وقضاء وقطاع خاص وتطوعي ومجتمع مدني). ثم العودة للحلقة الأولى وهي الأسرة. كل حلقة لها مساهمتها بظهور هذه الظاهرة وباستفحالها. وباستخدام منطق النظام (systems thinking)، فإن ما تنتجه حلقة تتلقفه الحلقة الأولى كمدخلات لديها. فمدخلات المدارس من الطلبة هم أنفسهم مخرجات الأسرة، وهكذا. وعليه، فإن أي تدخل علاجي يوجّه لأي من هذه الحلقات لا يحل المشكلة أو يستأصلها من جذورها، وسنبقى ندور بحلقة مفرغة وجهدنا كالحرث في الماء. فالحل اذن خطة استراتيجية وطنية وحزمة من الاجراءات والخطط والسياسات توجه لكل هذه الحلقات بآن واحد بكل المديات: قصيرها ومتوسطها وطويلها.

هنا، سأتناول الحلقة الأولى من الحلقات المساهمة بالعنف وهي الأسرة، وتحديدا باتجاه تتبع الجذور العميقة لهذه الظاهرة بقصد تشخيص أسبابها، أملا أن أتناول الحلقات الثلاث الأخرى التالية تباعا..

مما لا شك فيه أن الأسرة لم تعد تقم بدورها المفترض كما يجب. فضنك الحياة وضيق العيش تطلب خروج الآباء والأمهات معا للعمل. وأصبحت من أولويات المقدمين على الزواج البحث عن شريكة 'ذات راتب'، وعن شريك 'متوسّع' ماديا. إن ذلك يسير بالتوازي مع تغير الشكل التكويني للأسرة ومفهومها (family concept & composition). يتشابك ذلك أيضا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بأشكالها، فأصبح يُقتطع وقتا مهما من كل افراد الأسرة للتواصل مع البعيد على حساب القريب (ربما في الغرفة الأخرى من البيت!). وأصبحت الأسرة تعيش تحت سقف واحد بطريقة الحقيقة الافتراضية (virtual reality) ثلاثية الأبعاد، غير ملموسة! وأصبح يعيش كل فرد في الأسرة في عالمه الخاص، فانضم لأسرة أخرى يعيش معها في خياله أكثر من أسرته الحقيقية. أسرة أختارها لنفسه (join group) ولم تفرض عليه. فيها الأصدقاء والصديقات وأصدقاء الأصدقاء واصدقاؤهم (friends)، وله فيها معجبين ومعجبات (fans) يتابعون (بالصور والفيديو) باستخدام خاصية (follow me) اهتماماته وحركته وتغير طقس مشاعره ليلا نهارا و 'اللوك' الجديد لقصة شعره وسنديشة 'الشاورما' قبل أن تدخل بطنه و'قمع' الفطر الذي وجده محظوظا بالقرب من شجرة اللوز! فدخلت الأسرة بمنافسة غير متكافئة مع نسخة أخرى لأسرة مقلدة مزورة، وأصبح بداخل الأسرة بستة أفراد تحت سقف أمتار قليلة، ستة أسر فرعية ممتدة بكل العالم يفترشون الأرض ويتلحفون الفضاء! وأصبح للشاب عشيرة جديدة تختلف قيمها وقواعدها عن عشيرته الأصلية، توجهه وينصاع لأمرها عند الحاجة. إن ذلك بلا شك أصاب أفراد العائلة الواحدة بالتوحّد (autistic behaviour)، فلا يدري الأب ماذا تصنع الأم ولا الأم ماذا يفعل الأولاد. وأصبحت علاقة الأبن بوالديه ترتبط بما يتذكره عند الحاجة لمصروفه اليومي، فتحولت علاقة نظرية غير ملموسة تفتقر للتأثير وللتجارب الحياتية اليومية والتواصل المستمر. لكل هذا، أصبحت التربية ترفا ما بعده ترف وتراجعت في سلم أولويات الأسرة. فلا عجب أن ترى الكثير من شباب اليوم يمشي سارحا في ملكوت الله مثلهم مثل الديك مقطوع الرأس!

غير أن ما تبثه القنوات الفضائية من أحلاها لمرها، ومن أخصرها لأصفرها، تغير تغيرا جوهريا من حيث المحتوى وأثر بطبيعة اهتمامات كل أفراد الأسرة. فنجد الأب قبل الأم، والأم قبل الأولاد يتابعون باهتمام بالغ 'مهند ولميس' وأفلام الكرتون والقنوات الصفراء! ومن الغريب هنا أن نجد محتوى المادة المبثوثة، واختيارها وموضوعها وتوقيتها لا يخضع لأي شكل من أشكال الضبط والتوجيه والتفكير المتأني. فأصبحنا نجد العنف في أفلام الكرتون ومسلسل 'باب الحارة'، والكاميرا الخفية (وخاصة الأردنية!)، وبرامج الاتجاه المعاكس، والعديد من المسلسلات المصرية، وأفلام الكاوبوي في مجلس النواب، ورسائل 'الحاج متولي' لتعدد الزوجات، الذي أكاد أجزم أنه وراء وفاة عدد لا بأس به من المتقدمين بالعمر لقيامهم بالتعدد وهم ليسوا أهلا له !! كل هذا نعيشه يوميا في غياب الدور التوجيهي للأهل وللمدرسة وللجامعة وللمؤسسة الدينية وللمؤسسة الاعلامية الرسمية التي هجرها غالبية الأردنيين لضعفها ونفاقها وتحيزها وبعدها عن الواقع.

إذن، لا غرابة أن يتغير اختيار أطفالنا للأشخاص الذين يمثلون لهم القدوة الحسنة و'المثل الأعلى'، ذلك من الأب والأم (والمعلم والمعلمة في الحلقة الثانية والثالثة) إلى 'بلطجي' يحمل سيفا أو شبرية أو مسدسا في مجلس النواب، حرامي 'يشفط' مؤسسة حكومية ويفر هاربا من وجه العدالة مثل الأبطال بطريقة 'مرجان أحمد مرجان' لينتهي بـ 'التجربة الدينماركية'، شيخ يكيّف الفتوى بحسب الطلب وعلى مقاس الطالب، مغنيٍ مائع أو مغنية ساقطة، ممثل مدمن أو ممثلة مهترئة، رياضي كرة قدم متعاطٍ تافه كل ما يملكه هو حذاءه، سياسي وارث أو فهلوي تافه، وزير يطعن ابنُه مدرّسَه بالسيف ثم يطل علينا لينظر بالعنف الجامعي ناصحا لنا بكيفية تربية أطفالنا، مدير وصل بالدجل والشعوذة والنفاق والجهل والتعصب، جار فاسد بطل يسرق ماء السلطة وكهرباء الشركة، سائق جرافة البلدية المرتشي ثم المالك للبسطات وللمولات والأطيان والملايين وقد أصبح نائبا ثم وزيرا ثم عينا، أب اختار زوجته فقط لأنها موظفة، أم اختارت زوجا لأنه يملك شقة أو سيارة أو تلفزيون 3-D، وأب وأم مثلهم الأعلى كل هؤلاء !!

بانتظار الحلقة الثانية، وهي المدرسة، وبعد هذا الشرح المطوّل بالأمثلة العملية، وبالتشبيه والرمز، لا تقولوا لي أن العنف المجتمعي لا يرتبط بالأسرة ابتداءا.. ماشي يا حلوين؟ اسمعوا الكلام !!

التعليقات

1) تعليق بواسطة :
04-12-2013 07:02 AM

توصيف وتحليل صادق وواقعي لمجتمعنا الذي بدأ يتفسخ ويتحلل للاسف .. بانتظار ج2 .. احسنت يا دكتور ..

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012