أضف إلى المفضلة
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
السبت , 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2024


العنف الجامعي: الحقيقة المرة- الحلقة الثانية (المدرسة)

بقلم : د. علي المستريحي
24-12-2013 10:40 AM


المدرسة هي الحلقة الثانية من حلقات العنف الأربع، مسبوقة بالحلقة الأولى (الأسرة) ومتبوعة بالحلقة الثالثة (مؤسسات التعليم العالي) والرابعة (مؤسسات المجتمع بأكمله). وعلينا الاشارة هنا والاعتراف أن هذه الحلقات تتداخل فيما بينها، ولا يوجد خط فاصل يقطع الخيوط المتشابكة بينها جميعا. ومما لا شك فيه أيضا أن مخرجات الحلقة الأولى (الأسرة) هي المدخلات التي تتلقاها الحلقة الثانية (وهي المدرسة بجميع مراحلها). لذا، فمن الطبيعي أن قدرة المدرسة على التاثير الايجابي بطلبتها رهنٌ بما خلّفته الأسرة للمدرسة، هذا مع الاشارة للارتباط الوثيق بين الأسرة والمدرسة، خاصة (في مراحلها الأولى)، وبين المدرسة ومؤسسات التعليم العالي (في مراحل المدرسة المتقدمة).

وعند تناول دور المدرسة ومستوى وطبيعة تأثير هذا الدور في سلوك العنف بالمجتمع، لا بد لنا أن نفكك هذا الدور تبعا للأطراف التي تتقاسم المسئولية فيه، والتي هي: الأسرة، المعلم وإدارته، الإدراة العليا للتربية وسياساتها، والمجتمع ومكوناته ذات العلاقة. مكونات هذه المعادلة تشكل ما يعرف بأطراف العملية التربوية.

ان الواقع المؤلم الذي تعيشه الأسرة الأردنية الحديثة (وبالتفصيل الذي عرضناه في الحلقة الأولى اضغط هنا لعرض الحلقة الأولى) يحدّ من قدرة المدرسة على التأثير الايجابي بسلوك الطلبة. فمن المفترض أن تقوم الأسرة بدور التربية بشكل أساسي لتأتي المدرسة لتكمّل هذا الدور، مضيفة اليه وظيفة التعليم (مفهوم التربية والتعليم). الا أن تنازل الأسرة عن دورها في التربية يضر بدور المدرسة ويحدّ من مدى تأثيرها الايجابي بالطلبة. فيكون على المدرسة أن ترمم وتعيد بناء الأجزاء المعطوبة من جوانب تربية الطفل/الطالب، الأمر الذي يشكل للمدرسة تحدّ غير عادل!

غير أن المدرسة نفسها لها أيضا من العذابات ما يكفيها، بدءا بالمعلم وانتهاء بادارة التعليم والمجتمع. فالمعلم (خاصة الشاب) أولا وآخرا هو نتاج أسرة ومدرسة وجامعة ومجتمع أصابها جميعا الخلل وكثيرا من التلف! فلا غرابة أن نجد القلة القلية من المعلمين ممن يمكن اعتبارهم 'مربين فاضلين' وقادة يعتبرون مثلا يحتذى لطلبتهم. ولا غرابة أيضا أن نسمع عن قصة معلم يقفز عن سور المدرسة هاربا مع الطلبة!! ولذلك أسبابا متشابكة، منها ما له علاقة بظروف المعلم المادية والنفسية والمجتمعية المتأثرة بادارة تربوية مهترئة تالفة، كثير منهم هم ممن فشلوا أصلا كمعلمين في الميدان ووصلوا الادارة بالواسطة والمحسوبية والشللية، وبعضهم ممن هرب من الميدان بسبب تردي أوضاع التعليم هناك، ويرغب في أن يمضي ما تبقى من خدمته 'على ستيرة'! هذا، وعلينا أن نعترف أيضا بأنه قد دخل سلك التربية والتعليم ممن هم ليسوا أهلا لا للتربية ولا للتعليم. وأصبحت هذه المهنة وجهة من لا وجهة له، ووظيفة العاجز والذي تخرج من جامعته بتحصيل متواضع أو باتباع الطرق الملتوية من واسطة ومحسوبية. فالكثير من المعلمين ينقصهم الدافع للعمل والرغبة في التعليم. ويكفي أن ندلل على ذلك أنه لعهد قريب كانت وظيفة التعليم هي الوظيفة الوحيدة التي لا يخضع المتقدم لها لأي نوع من الاختبارات أو المقابلات الوظيفية. لهذا، تراجع دور المعلم وضعفت هيبته ورمزية مهنته.

ومع أن هناك تحسنا معقولا نسبيا جرى مؤخرا لما يدفع للمعلمين من رواتب ويحصلوا عليه من امتيازات بعد انشاء نقابتهم، الا أن المؤمّل لهم ما زال حقا بعيد المنال. وهذا يفسّر (ولو جزئيا) عزوف الكثير عن مهنة التعليم. ومن المعروف أن معلمين كثر يضطرون للقيام بعمل آخر (أحيانا غير كريم لتأمين لقمة عيش كريمة!) في ظل ضغوطات الحياة التي لا ترحم. وبعقد مقارنة بسيطة بين الامتيازات التي يحصل عليها المعلم ونظيره في مؤسسات حكومية وخاصة أخرى، نجد مفارقات شاسعة، محبطة ومحيرة. فامتيازات العاملين بالجيش العربي (مع احترامنا لهم جميعا) من تأمين صحي ومكرمات واعفاء سيارات وملبس ومأكل وغيرها تفوق أضعاف ما يحصل عليه المعلم من امتيازات. فمن الواضح أن دولتنا الحبيبة لا زالت في طور الدولة الأمنية (Guard State) أكثر من أن تكون دولة تعليمية. فالتعليم لديها ترف ولا يعد من أولى أولوياتها. غير أن مهنة التعليم هي من أكثر المهن ذات الاحترام والعائد المادي المجزي في الكثير من الدول المتحضرة. فالاهتمام بالمعلم الياباني هو مثال واقعي ونموذج يحتذى عندما أعطته الحكومة راتب وزير. ولا يمكن لأحد أن يجادل بأن المعلم هو من يصنع المدير الناجح والوزير غير الفاسد والمعلم القائد والمهندس والطبيب المبدع والجندي البطل المنضبط والأم المدرسة والأب المسئول صاحب القيم وراعيها.

إلا أن للتعليم شجونا أخرى تتعلق بإدارته العليا وسياساته المتخبطة المتذبذبة والتابعة للغير، ونظرة المجتمع له والتدخلات بشئونه ممن هم غالبا ليس لهم علاقة بالتعليم وشئونه. فمن جانب الادارة العليا، ومع أن هذه وزارة التربية تعتبر من الوزارات السيادية للدولة، إلا أننا قلما نجد من توزّر هذه الوزارة هو من رحم الوزارة نفسها: يخبرها كما يخبر بيته، يعرف دهاليزها ومتاهاتها كما يعرف حارته. وهنا نشير (إنْ حقا أردنا إصلاح التعليم) لضرورة أن تتبع وحدات الرقابة الداخلية في الوزارة (وبكل مؤسسات الدولة) لديوان رقابة يتبع مباشرة لمجلس الأمة (في الجانب الاداري والفني)، ولديوان المحاسبة الذي هو الآخر يجب أن يتبع مباشرة لمجلس الأمة (في الجانب المالي). فتبعية هذه الوحدات للوزارات يبطل عملها ويشلّ حركتها تماما. هذا ولا تخلُ الوظائف العليا من قيادات التربية والتعليم ممن وصلوا إليها بالواسطة والمحسوبية والمناطقية والشللية، حالها حال مؤسسات الدولة الأخرى.

أما السياسات التربوية المتخبطة التي تفتقد الرؤى الاستراتيجية الواقعية، فلذلك أسباب عدة منها ما ذكر آنفا، مضاف اليها غياب استقلالية التعليم وواقعيته. وربما أكثر ما لحق بوظيفة التعليم من ضرر بالغ كان ذلك النسخ الأعمى لسياسات وطرق التعليم الغربية التي جاءت تحت غطاءات مختلفة بينها إملاءات البنك الدولي وشروطه ومتاهاته. فأصبح المعلم يقضي وقتا أطول في الكتابة على الورق وتعبئة النماذج والخطط التي غالبا ما لا تجد طريقها للتطبيق العملي، ذلك على حساب الاتصال الصفي الحقيقي المباشر مع الطبة في الغرفة الصفية. وهنا أدعو ادارة التربية والتعليم لمراجعة حقيقية مع النفس، والعمل على تغيير هذا الواقع المؤلم الذي يعيشه المعلم ويأكل ويشرب معه يوميا. هذا الواقع الذي أفقد المعلم روح الإبداع وأكسب العمل المدرسي الكثير من البعد عن الواقعية وأحيانا الكذب والدجل وازدواج الشخصية.

المناهج التربوية ومحتواها وطرق التدريس ليست هي الأخرى ببعيدة عن هذا الواقع المؤلم الذي تعانيه مدارسنا. وما نعانيه مع طلبة جامعاتنا من غياب روح الإبداع هي نتيجة مباشرة للمناهج المدرسية التي تركز على التلقين والنسخ الأعمى. واننا نعتقد أن كثيرا من حالات العنف في جامعاتنا مردّها أولا لغياب الجوانب التي تركز على لبحث العلمي والتفكير الموضوعي في مناهج وزارة التربية والتعليم. وهنا، فنحن حقا بأمس الحاجة لإضافة مادة لمناهج مدارسنا تدرّس فيها أساسيات التفكير الموضوعي وقبول وجهة نظر الآخر وفلسفة الحياة والبحث العلمي والتفكير المنطقي، تبدأ مع أطفالنا في المراحل الأولى وتكبر معهم حيثما يكبرون. أما ثانيا، فإن مناهجنا لا تنمّي في طلبتنا حس القيادة ولا الانتماء للمجموع الكلي لجغرافية الوطن أكثر من الانتماء للعشيرة وتمجيد الحارة وتأليه الشخوص. فالوطن أكبر من عناصره حتى وان اجتمعت. ومع احترامنا لقيادتنا الهاشمية التي نجلّ ونحترم، فإنه لا يمكن أن يُختزل الوطن بشخص الملك. لذا، نطلب بكل صدق وصراحة أن يتضمن نشيد الطلبة في مدارسنا ما يمجد الوطن أيضا الى جانب الملك على أقل تقدير. ذلك النشيد الذي كان قبل خمسين عاما يحمل دلالات الارتباط بالوطن أكثر مما هو عليه الآن. هذا فقط إن أردنا فعلا أن نحدّ من العنف المجتمعي الذي مردّ غالبيته للانتماءات والولاءات المجتمعية المفتتة المتقطعة الضيقة على حساب الوطن. لذا يصبح لزاما علينا إعادة النظر (بمثلث) التقديس لدينا من (الله، الوطن، فالملك) إلى (معين) رمزية الوطن المتضمن (الله، الوطن، الشعب فالملك عند زاوية قاعدته)، وتعزيز هذه الرمزية بالتطبيق الفعلي حتى لا يتقدم رمزٌ على آخر كما لمسنا مؤخرا.

إن آخر الأطراف الخمسة التي تؤثر بالعملية التربوية هي المجتمع ككل ونظرته لكل مكونات تلك العملية. ونحن نتذكر مليا كيف خذل المجتمع المعلم عندما نهض الأخير واقفا مطالبا بحقوقه. فكان من المؤسف أن نسمع الكثير ممن وصف المعلم المعتصم بأبسط الصفات متهما إياه بعدم الانتماء والابتزاز، في حين ذهب البعض لجلد المعلم بصورة أقسى وصلت حد الصلافة بوصفه 'بالبلطجي' و 'الأزعر'! ثم شاهدنا كيف كان إنشاء نقابة المعلمين 'غير دستوري'، ليصبح بين عشية وضحاها 'دستوري وبامتياز'! حتى أن المعلم نفسه خذل أخيه المعلم. فالمعلم أولا وآخرا جزء من المجتمع. وقد رأينا كيف كان الكثير ممن رفضوا فكرة الاعتصام من المعلمين بادعائهم الانتماء للوطن والولاء له، هم أول من هرول للسؤال عن مقدار الزيادة على رواتبهم بعد أن تحققت مطالب المعلمين! إن كل ذلك يظهر بكل جلاء ثقافة المجتمع المتردية بشكل عام ونظرته الدونية للمعلم، الذين أصلا هم وأبناؤهم المستفيدون أولا إن تحسنت ظروف المعلم ونال حقوقه. لذا، فأن مسئولية المجتمع من جانب ترتبط بغياب الوعي وتلف الثقافة بأهمية دور المعلم. وربما أن المجتمع نفسه لم يكن نتاج مدرس جيد ومدير ناجح ومنهج تربوي قويم! ومن الجانب الآخر، فاننا نسأل: كم منا يزور المدرسة للسؤال عن ابنه، وكم منا يسأل ابنه وإدارة مدرسته عن سبب عودته المتكررة مبكرا للبيت عند الساعة العاشرة صباحا؟! ومع هذا، فالواقع، وللحق والانصاف، فإن المجتمع وحده لا يتحمل وزر هذا التردي في نظرته للمعلم. فجملة الأسباب التي سقتها آنفا مجتمعة ساهمت، وبدرجات متفاوتة بتشكيل هذه الصورة.

وأخيرا، وليس آخرا، فمن الواضح أن مسئولية الأهل في تربية الطفل قد تم ترحيلها للمدرسة، وأن مسئولية المدرسة في التربية والتعليم قد تم ترحيلها لمؤسسات التعليم العالي. وأمام هذا الواقع، فقد تجد الجامعات نفسها مضطرة للتنازل عن دورها الأساسي في التعليم بما يكفي لاصلاح العطب الناجم عن ضعف التربية غالبا ما يكون على حساب مهمة التعليم، كمحاولة بائسة منها لرتق الخرق المرحّل اليها من المدرسة والأسرة. لذا، فان استخدام مصطلح 'مؤسسات التعليم العالي' لم يعد يعبر حقيقة عن ما هو مطلوب من جامعاتنا اليوم. وقد يصبح معها استخدام مصطلح 'مؤسسات التربية والتعليم العالي' أكثر دقة للتعبير عن واقعها المرير المعاش.

ما تعانيه جامعاتنا سيتم تناوله في الحلقة المرّة التالية (وهي الثالثة) من حلقات العنف المجتمعي. وبانتظار الحلقة الثالثة، وهي الجامعة ومؤسسات التعليم العالي، وبعد هذا الشرح المطوّل بالأمثلة العملية، وبالتشبيه والرمز، لا يمكن لأحد أن يجادل أن العنف المجتمعي لا يرتبط بالأسرة ابتداءا، مرورا بالمدرسة ثانيا، وصولا للجامعات، ثم انتشارا بالمجتمع.

د. علي المستريحي

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012