بقلم : المحامي الدكتور أشرف سمحان
23-02-2014 01:34 PM
فوجئت قبل يومين بمعظم الصحافة الورقية والمواقع الاليكترونية تنشر تفاصيل التهم الموجهة الى المحامي الدكتور احمد العثمان، ومثل هذه التهم على جسامتها تسيء بشكل جسيم لمحام بمركز المحامي العثمان، ولهذا فقد انبريت في هذه المقالة لإيضاح حقيقة المركز القانوني للمحامي العثمان وذلك من باب حق التصدي للرد على نشر مثل تلك الاتهامات المشينة له، ومن انه وحتى بفرض ثبوت جميع الوقائع المسندة اليه فإنها لا تصلح في حد ذاتها لان تقوم اساساً كافياً قانوناً لادانته. سيما أنه ولدى قراءة تفاصيل هذه التهم لم أجد فيها اية تهمة معتبرة قانوناً بحقه، ذلك انها وعلى فرض صحة كل ما جاء فيها من وقائع أسندت الى المحامي العثمان لا يمكن ان تصلح أي منها اساساً كافياً لادانته من الناحية القانونية. مما يعني ان ما اشترطته المادة (114/1) من الاصول الجزائية من وجود دلائل كافية للاتهام فانه لا يقصد بذلك الادلة الكافية موضوعياً أي من ناحية واقعية فقط (كفايتها الواقعية) وانما لا بد كذلك من ثبوت توافر كفايتها القانونية أيضاً في جوهره الاتهام، أي ان تقوم بها الجريمة المسندة اليه بأن تكون اساساً كافياً يصلح لأن ينهض به الاتهام من الناحية القانونية ايضاً. والا فأي فائدة ترجا من كفاية ثبوت الوقائع ان لم تكن حتى بفرض ثبوتها اليقيني غير كافية في ذاتها للتجريم. وعليه، فلا يجوز قانوناً توقيفه لا بل كان يتحتم تقرير منع محاكمته عنها سنداً للمادة (130) من الأصول الجزائية باعتبار ان الوقائع المسندة اليه حتى على فرض ثبوتها لا يمكن بحال ان تشكل جرماً لبهتان الاساس القانوني الذي أقيمت عليه في أصلها ومبدأ وجودها.
ولما كانت التهم المسندة الى المحامي المتهم لا تخرج عن مجموعتين اثنتين: أولاهما تتعلق بتهم التزوير المسندة اليه، وثانيتهما تتعلق بالجرائم الواقعة خلافاً لقانون انتهاك حرمة المحاكم، مؤكداً على ان بحثي في هذه المقالة ينحصر في مدى ثبوت تلك الجرائم بحق المحامي المتهم من الناحية القانونية حتى على فرض ثبوت جميع الوقائع المسندة اليه في قرار الاتهام (المنشور) من الناحية الواقعية.
أولاً: في نفي تهم التزوير الموجهة للمحامي المتهم:
ومن الممكن لنفي جرائم التزوير المسندة الى المحامي المتهم ان نثبت عدم توافر أي من أركانها كافةً ركناً نقرر انهياره على اثر ركن، كما يلي:
(1) في انتفاء ركن المحل بجرائم التزوير المسندة للمحامي المتهم:
ولا نقصد بركن المحل في هذا المقام المحرر المكتوب الذي تم الادعاء بوقوع التزوير به، اذ من المعلوم انه وقع (بحسب الاتهام) على وكالات بالخصومة وهي بطبيعة الحال محررات مكتوبة. الا اننا نقصد بركن المحل هنا ما يصلح من المحرر المكتوب لان تقع جريمة التزوير عليه أي ما يصلح لان يكون موضعاً معتبراً للتزوير.
وبالرجوع الى الوقائع المسندة للمحامي في قرار الاتهام نجدها تتضمن الادعاء بوجود محلين أي موضعين للتزوير هما: التزوير في متن الوكالة التي وقعها على بياض (بحسب قرار الاتهام) والتزوير في التاريخ. حيث ورد في قرار الاتهام الادعاء بأنه ' وطلب منها التوقيع له على وكالة لم يذكر فيها الخصوص الموكل به ولم يكن التاريخ مثبتا على الوكالة، وبعدها قام المتهم بتقديم الوكالة الى المجلس القضائي بعد ان قام بتثبيت التاريخ عليها بأنه 7 كانون الاول من عام 2014 رغم علمه ان الوكالة تم توقيعها بتاريخ لاحق'.
والصحيح ان اياً من تلك الوقائع المذكورة لا تشكل في حد ذاتها جرماً على الاطلاق، ذلك ان اياً من المحلين السابقين (متن الوكالة والتاريخ) لا يصلح لان تقوم جريمة التزوير به، ذلك ان المحامي ووفقاً لما تضمنه قراران لمحكمة التمييز الموقرة وبهيئتين عامتين لها جاءا واضحين في تقرير ان المحامي لا يقوم بوظيفة الكاتب العادل الا من حيث المصادقة على ثبوت صحة ووقع التوقيع امامه، اما التاريخ فلا يدخل ضمن نطاق مصادقة المحامي، ولا يكون التاريخ ثابتاً ومعتبراً اصلاً الا بلحظة دفع الرسم عنها وابرازها. وفي ذلك قضت محكمة التمييز الاردنية بهيئتها العامة بأنه 'يستفاد من أحكام المادة (44/1) من قانون نقابة المحامين رقم 11 لسنة 1972 أنها منحت المحامي الأستاذ حق المصادقة علـى تواقيع موكليه على الوكالات الخاصة إذا تعلق التوكيل في أحد الأمور المنصوص عليها في المادة السادسة من القانون ويكون المحامي في جميع الحالات مسؤولاً شخصياً عن صحة التواقيع وهو بهذا يقوم مقام كاتب العدل بالتصديق على الوكالات ويقتصر تصديقه على صحة التوقيع فقط وان المشرع لو أراد أن يكون تصديق المحامي على التاريخ أيضاً لأورد نصاً صريحاً على ذلك كما هو وارد في الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الكاتب العدل الأمر الذي ينبني عليه أن المحامي يصادق على التوقيع وليس على التاريخ. وان الوكالة لا تعتبر ثابتة إلا من تاريخ دفع الرسم عنها أو تقديمها للمحكمة' (قرار محكمة التمييز الاردنية رقم 494/2010 (هيئة عامة) تاريخ 6/2/2011 منشورات مركز عدالة).
وفي قرار آخر لمحكمة التمييز الاردنية وبهيئتها العامة ايضاً قررت انه 'وحيث ان وكالة المحامي الخاصة التي أقيمت الدعوى بالاستناد إليها تضمنت تصديقه على توقيع الموكل تكون هذه الوكالة صحيحة ومرتبة لآثارها وليس فيها ما يؤثر على صحة تمثيل المحامي الوكيل لأن المحامي الوكيل يملك حق المصادقة على صحة التوقيع والتوكيل فقط على الوكالة الخاصة ويكون مسؤولاً شخصياً عن صحة هذا التوقيع. ولو أراد المشرع ان يعتبر التصديق شاملاً للتاريخ لأورد نصاً صريحاً على ذلك كما قضى في الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون كاتب العدل. الأمر الذي ينبني عليه ان التاريخ المدون على الوكالة الخصوصية لا يعول عليه ولا تعتبر ثابتة التاريخ إلا من تاريخ دفع الرسم عنها أو تقديمها للمحكمة' (قرار محكمة التمييز الاردنية رقم 1909/2010 (هيئة عامة) تاريخ 8/11/2010 منشورات مركز عدالة).
وبالربط فيما بين ما يتوجب على المحامي المصادقة عليه (وهو التوقيع) وبين محل التزوير نجد ان الفقه مستقر على انه لا يراد بالحقيقة محل التزوير اي التي يحميها القانون في مواد التزوير الحقيقة الواقعية المطلقة، أي الحقيقة المطابقة بشكل كامل للواقع، وانما يراد بها الحقيقة القانونية النسبية، أي تلك الحقيقة المطابقة لما كان يتعين اثباته في المحرر وفقاً للقانون (في ذلك انظر: استاذنا الدكتور كامل السعيد، كامل السعيد، شرح قانون العقوبات الاردني: الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، دراسة تحليلية مقارنة، 2008، دار الثقافة، عمان، ص21). ولما كان ما تتوجب المصادقة عليه من قبل المحامي هو التوقيع لا التاريخ او أي بيان آخر فيكون كل بيان خلاف التوقيع خارج عن اطار صلاحية المحامي في المصادقة وخارج بالتالي عما يقوم به عن الكاتب العدل من وظيفة محلها المجررات الرسمية، ويكون بالتالي على الاقل خارجاً عن نطاق التزوير الجنائي، لأنه في معرض ما عدا التوقيع من بيانات لا يقوم مقام الكاتب العدل في التصديق وانما لا يعدو بصدده ان يكون أي تغيير في الوكالة (بفرض ثبوته اصلاً) تغييراً يقوم به التزوير الجنائي كوننا لا نكون بصدده امام محرر رسمي اصلاً.
(2) في انتفاء الركن المادي بجرائم التزوير المسندة للمحامي المتهم:
ومن الممكن لنا تبيان ذلك على النحو التالي:
أ. في انتفاء الفعل الجرمي بجرائم التزوير المسندة للمحامي المتهم:
ابتداء فنقرر ان ما اسند الى المحامي المتهم لا يقوم به أي تغيير مؤثر في الحقيقة، وذلك لما يلي:
1. عدم وجود تغيير مفتعل ومؤثر في الحقيقة باعتبار ان المحامي المتهم لم يكن بحاجة اصلاً لتقديم مثل تلك الوكالة المدعى بتزويرها ولا حتى لتقديم الشكوى التي أرفقت بها مثل تلك الوكالة اصلاً:
ونشير في هذا المقام الى ما ذهب اليه الفقه من ان العبرة للتحقق فيما اذا كنا امام تغيير في الحقيقة ام لا هي بالنظر الى ما اتجهت اليه ارادة من نسب اليه المحرر ابتداء، فلو قام الشخص بتوقيع امضاء الغير على المحرر بناء على تفويضه في ذلك لان هذا التوقيع جاء تعبيراً عن الارادة الحقيقة لمن نسب اليه (في ذلك انظر: استاذنا الدكتور كامل السعيد، شرح قانون العقوبات الاردني: الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، دراسة تحليلية مقارنة، 2008، دار الثقافة، عمان، ص18).
ولايضاح المقصود من رأينا في هذا المقام من تطلُّب وقوع التغيير مؤثراً أي في حقيقة مؤثرة نضرب صفحاً عن المثال التالي: هب ان احداً وضع البسملة بخطه على شيك أعطي له، أفهي يؤثر فعله ذلك في الشيك المعطى اليه؟ ام هل ينقص من قيمته شيئاً؟ الجواب لا، ولذلك لا يكون من فعل مثل ذلك مزوراً. وفي ذات السياق نقول: هب ان المحامي المتهم لم يرفق بشكواه المقدمة الى المجلس القضائي الوكالة المدعى بوقوع التزوير فيها؟ او فهب انه لم يتقدم بشكواه اصلاً اليه؟ أكان مثل ذلك ليغل يد هذا المجلس عن ممارسة سلطته وصلاحياته في التفتيش القضائي اذا كان تناهى الى علمه بالسماع وقوع مخالفة ما من هذا القبيل؟ الجواب بالطبع وبالقطع لا، ولذلك لا يكون التحريف المدعى بوقوعه في تلك الوكالة تزويراً اساساً. ويكون البحث في هذه المسألة بعد ان بانت بها الحجة امراً لا طائل منه يُرجى ولا جدوى فيه تُنتَظر.
وبالرجوع الى وقائع الاتهام نجد ان المحامي المتهم كان يستطيع قانوناً التقدم بمثل تلك الشكوى بموجب وكالاته الاولى التي قدمت في القضايا الاصلية ولم يتناولها طعن النيابة. ولم يكن يحتاج الى مثل تلك الوكالة (المدعى بتزويرها) اصلاً للتقدم بالشكوى التي تقدم اليها الى المجلس القضائي، سيما ان مثل تلك الوكالات تضمنت من العبارات ما يسمح له بذلك على سبيل اللزوم لتنفيذ مضمون ما جاء في تلك الوكالات، وهي عبارات عامة لا تكاد تخلو منها اية وكالة بالخصومة ومنها (.. وفي العموم باتخاذ كل ما يلزم لذلك او يتصل به ..).
هذا اضافة الى ان المحامي وإذ تقدم بشكواه الى المجلس القضائي لا يعدو ان يكون مواطناً (كأي قرين آخر له في الوطن) مرت على مسمعه او مرآه مخالفة مسلكية ارتكبتها الهيئة المشكو منها كان له الحق في (لا بل كان عليه واجب) ايصالها الى المجلس القضائي لاتخاذ ما يلزم لاصلاح العطب وتقويم الاعوجاج. فاذا كان له الحق ان يتقدم بمثل تلك الشكوى بشخصه لا بصفته وكيلاً عن موكليه فأنى لنا القول بوقوع التزوير المدعى به في وكالة ما أرفقت بتلك الشكوى الا من باب لزوم ما لا يلزم واقتضاء ما لا جدوى به وتطلب ما لا ضرورة له.
لا بل ان المجلس القضائي وباعتبار ما له من صلاحيات الرقابة والتفتيش على اعمال القضاة ومجازاتهم في حال ثبت الاخلال بجانبهم لا يحتاج الى تقديم شكوى اصلاً (ناهيك عن وكالة مرفقة بشكوى) لممارسة مثل هذه الصلاحيات المنوطة به، اذ يكفي لذلك ان يتناهى الى علمه موطن الخلل ليعمد الى اصلاحه هو في ذلك يملك اختصاصاً تلقائياً وليس مثاراً كونه يمارس وظيفة ادارية لا وظيفة قضائية باعتباره انه يطعن بالقرارات الصادرة في معرض ممارستها امام العدل العليا باعتبارها قرارات ادارية، فاين التغيير في الحقيقة اذن؟ وهل يكون مثل ذلك التغيير حتى بفرض اختلاق مثل تلك الوكالة من العدم مؤثراً اصلاُ؟ وصالحاً لان يكون تغييراً في الحقيقة بالمعنى المقصود في قانون العقوبات.
2. عدم وجود تغيير مفتعل ومؤثر في الحقيقة باعتبار ان المحامي المتهم وبصفته هذه والطبيعة الفنية لعمله هو من يحدد الطريقة الامثل للوصول الى اقتضاء حقوق موكلاته دون ان يكون ملزماً بتحديد هذه الطريقة في متن وكالته:
بالرجوع الى قرار الاتهام نجد انه اسند الى المحامي المتهم الادعاء بانه '... قام بتعبئة الخصوص الموكل به في الوكالة بعد ان تم توقيعها من قبل الشاهدة وعلى خلاف الحقيقة حيث انه اخبر الشاهدة بأن الغاية من الوكالة هو تقديم طلب للمجلس القضائي لإعادة النظر في قرار محكمة العدل العليا'.
والصحيح ان اياً من تلك الوقائع لا تشكل في حد ذاتها جرماً على الاطلاق، اذ جاء قرار الاتهاك صريحاً في القول بان المدعوات ارتضين 'بتوكيل المحامي المتهم لتقديم طلب للمجلس القضائي لإعادة النظر في قرار محكمة العدل العليا'. فماذا نتطلب بعد ذلك؟ وهل على المحامي المتهم ايضاح المسمى القانوني لطلب اعادة النظر ذلك؟ لا بل هل يلزم بايضاح الجهات التي ينوي توجيه مثل ذلك الطلب اليها؟ الصحيح ان ما يهم الموكل هو فهم طبيعة التوكيل بابسط ما يكون من الفاظ لايضاح المقصود منه باعبتاره غير عالم بتقنيات القانون، فعلى سبيل المثال هل يفهم العامة الفرق بين مسمى دعوى معينة بنها منع معارضة او فسخ او اخلاء؟ هل يفهم تقنيات مثل تلك التسمية ام يهمه فقط استعادة ملكه ممن يشغله؟
اذن فالمحامي ملزم بتبسيط طبيعة التوكيل والغاية منه بابسط ما يكون من الفاظ ولا يهم الموكل بعد ذلك ولا يعنيه تحديد الطريقة الفنية او التقنية التي يتبعها المحامي بقدر ما يهمه اقتضاء حقه ذلك، باعتبار الصفة الفنية والتقنية لمهنته، اما بالنسبة للتضارب بين ما اذا كان مضمون الوكالة هو التقدم بتظلم ام بشكوى فهل الشكوى غير تظلم وهل التظلم غير شكوى؟ وهل يخرج أي منهما عن كونه طريق اداري للمراجعة؟ وهل على المحامي واجب ايضاح حقيقة الفرق بينهما لمواطن عادي جاء ليوكله؟
ولذا فهو غير ملزم بذكر تفاصيل الطريقة التي من خلالها يصل الى ذلك في وكالته. والا كان على كل محام ان يذكر في وكالته تفاصيل ما سيقوم به من اعمال في معرض تمثيله لموكله فيضع في وكالته (.. وانني قد وكلته بتقديم جواب على لائحة الدعوى وبان يرفق به مذكرة بدفوعه واعتراضاته على بينات الخصم اضافة الى قائمة بيناته الخطية والشخصية وتلك التي تحت يد الغير على ان يقدمها جميعاً خلال المدة القانونية المحددة لذلك وبان يقدم مرافعاته النهائية وبان يكرر فيها طلباته..) ومثل هذا الامر لا حقيقة له في الواقع ولا يتفق وابسط قواعد مهنة المحاماة. اذ ان المحامي وبموجب الطبيعة الفنية لعمله لا يلزم الا بذكر طلبات موكله في الدعوى في صلب وكالته لا غير. وعليه، فأما وقد قدر المحامي ان السبيل الامثل في طرح مراجعة القرار الصادر هي باللجوء الى الجهات التي ارسل شكاويه اليها فلا يكون في ذلك مزوراً، وانما يكون قد اتبع ما يراه مناسباً. اما مناقشة انه لم يكن من المناسب اللجوء الى مثل تلك الجهات او طريقة تنظيمه للائحة شكواه تلك او ما هي الجهات التي عليه الالتجاء اليها لاقتضاء حقوق موكلاته. وأما تفاصيل ما جاء في شكواه من الفاظ وعبارات فهي امر مختلف تماماً عن جرم التزوير التي لا يمكن ان تقوم به. والا كان كل محام يتهم بالاساءة الى القضاء متجاوزاً لصلاحياته الممنوح ناليه بموجب وكالته التي لا يمكن ان يتجرأ الموكل على القول بانه وكله للقيام بها وعد مزوراً بالتالي. وهو مما يتنافى مع ابسط مقتضيات العقل والمنطق.
ب. في انتفاء النتيجة الجرمية المتمثلة في الضرر بجرائم التزوير المسندة للمحامي المتهم:
وفي ذلك نقول بأنه يتوجب ان ينظر الى عنصر الضرر في اطار ما استقر عليه الفقه من تفسير الفقه لاشتراط الضرر كعنصر في جريمة التزوير، حيث قرر في ذلك ان تجريم التزوير باعتباره تغييراً للحقيقة جاء استثناء على الاصل العام المتمثل في عدم المعاقبة على مجرد التحريف في الحقيقة، مما استدعى ضرورة اشتراط الضرر لقيام التزوير باعتبار ان التحريف المرتب للضرر هو وحده الذي يستحق فاعله العقاب (ابو عامر، محمد زكي، شرح قانون العقوبات- القسم الخاص، 1977، ص303).
وبالرجوع الى الوقائع المذكورة في الاسناد المتضمن بقرار الاتهام الموجه بحق المحامي المتهم نجد انها جاءت خلواً من أية اشارة لتحقق أي ضرر نتيجة لفعل التزوير المدعى به، اما مجرد الادعاء بتحقق الضرر الاجتماعي وصورته المتمثلة بانتهاك الثقة في المحررات فلا يقوم وحده اساساً كافياً في ذاته للقول بتحقق الضرر لما يلي:
1. لكونه لا يتفق ووقائع الاتهام التي لم يدعى فيها بتزوير التوقيع اصلاً والثقة بالمحررات مناطها ومحل انطباقها التوقيع لا أي عنصر آخر خلافه، اذ تتعلق الثقة بالمحررات بتلك التي تبدو في ظاهرها صحيحة الا انه يتبين انبتات صلتها بالواقع لا تلك التي تكون مبنية على اساس من الواقع صحيح.
2. لكون الضرر الاجتماعي لا يصلح منفرداً وحده ولا يقوم عنصر الضرر به ما لم يكن مقترناً اساساً بتوافر الضرر الاحتمالي على الاقل، وفي واقعة الدعوى فإنه حتى احتمال وقوع الضرر منتفٍ بالقطع حتماً.
ويتأسس قولنا السابق على حقيقة جوهرية تتمثل في ان في القول بالاكتفاء بمجرد تحقق الضرر الاجتماعي لقيام نتيجة التزوير وجريمته يصل بنا الى نتيجة مفعمة بالتناقض وعدم الاتساق، ذلك انه يصل بنا الى مراتب افتراض عنصر من عناصر الجريمة افتراضاً يعفي جهة النيابة من عبء اثبات وقوعه حقيقة وبالفعل، مما يسمه بكل تأكيد بعدم الدستورية اذا ما فسرناه على النحو ذلك [كحال تقرير عدم دستورية نص قانون المطبوعات والنشر المتضمن افتراض ركن العلم لتقرير مسؤولية رئيس تحرير الصحيفة بقانون المطبوعات والنشر والذي قررت محكمة بداية شمال عمان في احد احكامها (عطوفة القاضي استاذ وليد كناكريه) عدم دستوريته سيراً على هدي سابقيه في المحكمة الدستورية المصرية]. وحق لنا التساؤل في هذا المقام: ما الفرق بين ركن قرر النص افتراضه فوصم بعدم الدستورية (كحال الحكم الاخير) وبين نص لا يتحقق بحكم طبيعته الذاتية الا بالافتراض كحال النص المقرر للضرر الاجتماعي كإحدى النتائج المتبادلة التي يقوم عنصر النتيجة بجريمة التزوير به.
إذن، فحتى المشرع ذاته ليس له ان يتجاوز الاحترام الواجب والمتطلب لمبدأ شرعية الجرائم والذي يقرر الا جريمة الا بنص، ويكون احترام المشرع لمثل هذا المبدأ المقدس بان تضمن نصوص التجريم تطبيق هذا المبدأ بحيث يحيى بها وتمثله وتفرض احترامه، ويكون ذلك بأن تنطوي نصوص التجريم التي يتضمنها التشريع قدراً يستوفي العلة من فرض هذا المبدأ، بحيث تكون بالقدر المتطلب من الوضوح والتحديد والانضباط. والا فإن النص الذي يراد من وضعه تقرير حالة التجريم لا يستأهل اصلاً مثل هذه الصفة الا اذا استوفيت جميع المتطلبات المذكورة به من وضوح وتحديد وانضباط كما قلنا.
ويعود ذلك الى حقيقة ان مبدأ الشرعية ليس مجرد مبدأ شكلي مفرغ من من أي مجتوى ومضمون بحيث يشترط مجرد النص والنص فقط للتجريم أي نص اياً كان لتقرير حالة التجريم، وانما الصحيح ان له وجهاً موضوعياً هو حقيقته وجوهره، يرتبط بالعلة من فرض مبدأ الشرعية اساساً. والا فإن القول بخلاف ذلك يجعل من ذات النص التجريمي اداة لاهدار مبدأ شرعية الجرائم ومعولاً لهدمه وهو المبدأ الدستوري المقدس.
وفي ذلك نجد ما قررته المحكمة الدستورية في حكم الصادر في الدعوى رقم (25) للسنة 16 قضائية من قولها انه [لقد أعلى الدستور قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية - بطريق مباشر أو غير مباشر - أخطر القيود وأبلغها أثرا. وكان لازما بالتالي ألا يكون النص العقابي محملا بأكثر من معنى، مرهقا بأغلال تعدد تأويلاته، مرنا متراميا على ضوء الصيغة التي أفرغ فيها، متغولا - من خلال انفلات عباراته - حقوقا أرساها الدستور، مقتحما ضماناتها، عاصفا بها، حائلا دون تنفسها بغير عائق. ويتعين بالتالي أن يكون إنفاذ القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهنا بمشروعيتها الدستورية. ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا التباس فيها. ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة. ومن ثم كان أمرا مقضيا، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو تباين الآراء حول مقاصدها، أو تقرير المسئولية الجنائية في غير مجالاتها عدوانا على الحرية الشخصية التي كفلها الدستور] انتهى الاقتباس.
لكل ما سبق، فلا يكفي القول بكفاية تحقق الضرر الاجتماعي لتقرير قيام جريمة التزوير وانما لا بد من تفسيره على نحو ضيق بحيث لا يفهم الا في ضوء ارتباطه بتوافر غيره من انواع الضرر.
(3) في انتفاء الركن المعنوي بجرائم التزوير المسندة للمحامي المتهم:
ابتداء فإن جريمة التزوير جريمة قصدية لا يفترض فيها القصد افتراضاً وانما يتوجب ان تقيم النيابة العامة البينة على توافره، حيث يقع على عاتقها عبء اثبات ذلك، وهذا ما عبرت عنه محكمة التمييز الاردنية في حكم لها يتضمن انه 'اذا اقتصر دور المحامي المميز ضده على تصديقه على صحة التوقيع ولم يثبت أنه كان عالماً عندما صدق على الوكالة أنها مزورة ولم يرد في البينة ما يشير إلى أن المتهم قد قام بأي تحريف أو تغيير للحقيقة فإن ركن التزوير المسند للمميز ضده غير متوافر. وحيث أن جريمة التزوير تستدعي وجود القصد الجنائي العام لدى المزور من حيث قيام الركن المادي المتمثل بالتحريف وتغيير الحقيقة والقصد الخاص وهو نية المزور باستعمال السند المزور بقصد الإضرار بالمشتكي وحيث لم يثبت وجود قصد التزوير لدى المميز ضده. فإن قيامه بالمصادقة على التواقيع لا يشكل جرماً ولا يستوجب عقاباً' (قرار محكمة التمييز الاردنية رقم 2205/2011 تاريخ 12/1/2012 منشورات مركز عدالة).
كذلك فقد جاء في قرار آخر لها قولها انه 'يتوجب لنهوض الركن المعنوي لجريمة التزوير وهو (القصد الجنائي) أن يكون المتهم على علم بأنّ التوقيع المنسوب للمشتكي الوارد على الوكالة والذي صادق على صحته لا يعود للمشتكي ورغم ذلك صادق على التوقيع وأراد الوكالة وأنّ من شأن ذلك الإضرار بالمشتكي وبالثقة العامة بالأسناد الرسمية وهو ما يمثل القصد العام . وأنّ نيته انصرفت أيضاً إلى استعمال هذه الوكالة في تلك الدعوى إضراراً بالمشتكي وإخلالاً بالثقة العامة للأسناد الرسمية وهو اصطلح عليه القصد الخاص . وإنّ إثبات ذلك يقع على عاتق النيابة العامة' (قرار محكمة التمييز الاردنية رقم 1562/2006 تاريخ 8/4/2007 منشورات مركز عدالة).
وعليه، فإنه وبالتناوب والتعاضد مع ما سبق، فمن المعلوم ان جريمة التزوير من الجرائم القصدية التي لا يتصور ان تقوم بالخطأ مهما بلغت درجته جسامةً فلا يمكن ان ترقى بنا الى مراتب القصد الذي يتطلبه النموذج القانوني لجرم التزوير لتحققه وقيامه. وعلى سبيل الفرض الساقط بان الحقيقة التي تم الادعاء بتزييفها مؤثرة فمن المعلوم ما درج العمل في مهنة المحاماة (حتى صار واقعة مشهورة يعلمها قضاتنا الاجلاء بالضرورة بحكم ما يعلمونه من القانون بالضرورة ايضاً) منذ بدء تأسيسها وحتى الآن على توقيع الموكل لوكالاته على بياض ليعمل المحامي فيما بعد على تعبئتها بما يتفق ومقتضيات صحة الخصومة التي توجبها احكام القانون. واذا كان اتهم بانه عمد على جعل موكلاته يوقعن وكالاتهن (الجديدة) على بياض فانه لم يعد في ذلك ان يكون مارس ما يمارسه جميع محامي المملكة على الاطلاق. واذا كان لا اثر لهذا الواقع مثلاً في حقيقة انه يبقى مجرماً فمما لا شك فيه انه مؤثر بالحتم على القصد الجرمي في جرم التزوير وبالتحديد في عنصر العلم باعتبار الجهل الحتمي في القانون. وهو المبدأ الذي قرره القضاء الفرنسي لتبرئة احدى السيدات الفرنسيات امتهنت معالجة بعض عيوب النظر من خلال رياضة العيون وللوقوف على مدى مشروعية ممارستها لمهنتها هذه دون ترخيص قامت بسؤال مجموعة من المختصين كل من سكرتير نقابة الاطباء وعميد الاطباء ومدير الصحة فاجابوا جميعاً قولاً واحداً بمشروعيته ولهذا فقد قررت المحكمة انه وعلى الرغم من عدم مشروعية ذلك الا انه 'اذا كان لا يجوز لاحد الاحتجاج بجهله في القانون فانه لا يمكن اجبار المتهمة على تفسير القانون تفسيراً اشد مما يقرره لها صفوة ممن يمثلون الهيئات التي تسهر على احترامه' (حكم محكمة بو 18/11/1953 وكذلك: نقض جنائي فرنسي تاريخ 9/4/1932 وتاريخ 24/1/1946 . وفي ذلك انظر: استاذنا الدكتور كامل السعيد، شرح الاحكام العامة في قانون العقوبات، ط1، 2002، دار الثقافة، عمان، ص300).
كذلك فنستذكر في هذا المقام تفسير نص المادة (206/1) من قانون العقوبات تفسيراً مضيقاً بحسب النتيجة التي يؤدي اليها، والتي تعاقب كل من علم باتفاق جنائي ولم يبلغ السلطات العامة بذلك ... حيث فسرت على انها لا تشمل من يعلم بذلك من خلال وسائل الاعلام. والا لزج اغلب الناس في السجون (في ذلك انظر: استاذنا الدكتور نظام المجالي، شرح قانون العقوبات- القسم العام، ط4، 2012، دار الثقافة، عمان، ص105) وذات الحقيقة نجدها في انه لو كان مجرد توقيع وكالة على بياض هو مما تقوم به جريمة التزوير لزج بجميع محامي المملكة في غياهب السجون وهو الامر غير المنطقي وغير المعقول.
من كل ما سبق، نخلص الى ان جميع اركان جرائم التزوير المسندة الى المحامي الدكتور احمد العثمان منتفية والحال كهذه بالقطع حتماً، فلم يقع التزوير المدعى به على التوقيع، ولم يتجاوز ما قام به المحامي المتهم ما تضمنته وكالته في متنها من موضوع في المجمل، ولم يتجاوز ما جرى عليه تقليد المحامين في المملكة منذ تأسيسها من اخذ التوقيع على الوكالة على بياض ليصار فيما بعد الى تعبئتها وفقاً لما توجبه اعتبارات ضمان صحة الخصومة، ومن ان المحامي المتهم من قبل ومن بعد لم يكن ليحتاج اصلاً الى مثل تلك الوكالة للتوجه بشكواه الى المجلس القضائي. مما يستوجب معه بالتالي اخلاء سبيله واعلان عدم وجود تهمة بحقه او على الاقل اعلان براءته من التهم المسندة اليه او عدم مسؤوليته عنها. مثل هذه الحقائق التي أتينا على ذكرها اذا اغفلتها الجهة التي قررت التوقيف فإن على الجهة المختصة باخلاء سبيله الالتفات اليها، وان اغفلتها الجهة التي قررت الاتهام فعلى الجهة المختصة بمحاكمته ان تقرر عدم وجود قضية اصلاً بحقه او على الاقل براءته منها او عدم مسوؤليته عنها.
ثانياً: في نفي مجمل التهم الواقعة على قانون انتهاك حرمة المحاكم والموجهة للمحامي المتهم:
وهي الجرائم المذكورة في قرار الاتهام والمتمثلة في كل من ونشر امور من شأنها التأثير في القضاء والتأثير في سير العدالة، ونشر طعن بحق قاض، ونشر تعليق على حكم قضائي بقصد تعريض مجرى العدالة للشك والتحقير'، وفقا لأحكام المادة (15) من قانون انتهاك حرمة المحاكم والتي نصت على ان [كل من نشر طعناً بحق قاض او محكمة او نشر تعليقا على حكم قاصدا بذلك تعريض مجرى العدالة للشك والتحقير يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة او بغرامة لا تتجاوز ماية دينار او بكلتا هاتين العقوبتين].
وبالتدقيق في قرار الاتهام نجد ان تلك الجرائم المنسوبة الى المحامي المتهم منتفية بالقطع حتماً لما يلي:
(1) في انتفاء الركنين المادي والمعنوي بالجرائم الواقعة خلافاً لقانون انتهاك حرمة المحاكم والمسندة الى المحامي المتهم:
وذلك وفقاً للتفصيل الآتي:
(أ) انتفاء قيام جرائم قانون انتهاك حرمة المحاكم تبعاً لعدم تضمن الالفاظ المسندة الى الهيئة القضائية المشتكى عليه اية اساءة اصلاً بالمعنى المقصود في قانون انتهاك حرمة المحاكم، ومن الممكن عرض هذا الدفع كما يلي:
1- ان الالفاظ التي تضمنتها الشكوى المقدمة من المحامي المتهم لا تنهض بحد ذاتها (الاساءة) المدعى بها:
بالرجوع الى قرار الاتهام الموجه الى المحامي المتهم نجد انها تضمنت اسناد الالفاظ التالية اليه في شكواه المقدمة للمجلس القضائي، وهي:
أ. فأما عن اللفظ المتضمن 'اسناد جرم الإخلال بواجبات الوظيفة القضائية، والحنث بالقسم القانوني للوظيفة القضائية'، فنجد بشأنهما أنهما مخالفتان موضوعيتان معروفتان بمسمييهما قانوناً تضمنتهما صراحة مدونة السلوك القضائي التي وضعها المجلس القضائي نفسه، فاذا كان هذا المجلس الموقر هو ذاته من اطلق مثل تلك التسمية فأنى له ان يعود من بعد ذلك لمحاسبة من يسميها ويطلقها؟ بل وكيف للمحامي المتهم ان يعبر عن مضمون تلكما المخالفتين امام الجهة المشكو اليها بغير ذلك التعبير اصلاً؟ سيما ان المحامي المتهم ساق مع كل مُسمّىً من تلك التهم المادة التي سمته وعبرت عن مضمونه، فبالنسبة لجرم الاخلال بواجبات الوظيفة استند فيها الى المادة (37) من قانون استقلال القضاء اضافة الى مخالفة المادة (13) من مدونة السلوك القضائي، وبالنسبة لمخالفة الحنث بالقسم القانوني استند فيها بشكواه الى المادة (15) من مدونة السلوك القضائي.
ب. وأما عن الالفاظ المتضمنة ان الهيئة التي اصدرت القرار القضائي 'لم تقرأ لائحة الدعوى ولا اللائحة الجوابية ولا البينات المحفوظة في الدعوى'، فنجد بشأنها انها تضمنت اسناداً واقعياً لسلوك سلبي معين للهيئة المشكو بحقها (سلوك بالامتناع) خاضع لتقدير المجلس القضائي الذي كان عليه –مع كامل الاحترام والاجلال والتقدير- ان يحقق فيها ويتثبت من مدى صحتها من حيث الواقع لا ان يبادر الى اتهام مقدم الشكوى لينقلب بذلك الى متهم عوضاً عن ان يكون صاحب مظلمة وان تجاوز المدى والحد في عرضه لمظلمته وشكواه.
2- وبالتناوب والتعاضد، فان الالفاظ التي تضمنتها الشكوى المقدمة من المحامي المتهم وان كانت تنهض بها مثل تلك (الاساءة) المدعى بها بالنظر اليها بحد ذاتها على حدة، فإن موقعها في السياق يجعلها مبررة اذا فسرت في اطار ووردها بالسياقين اللفظي والموضوعي الذي جاءت به:
وفيما يلي عرض كل من السياقين اللفظي والموضوعي الذي جاءت به الالفاظ المدعى بتضمنها (الاساءة) الى القضاء:
أ. فأما بالنسبة للسياق اللفظي الذي جاءت العبارات المدعى بتضمنها (اساءة) الى القضاء والذي يتوجب ان تفهم تلك العبارات في اطاره:
فنجد بشأنها أن قواعد التفسير السليم والقويم للغة الخطاب تقتضي ان يربط مضمون الادعاء السابق من ان الهيئة التي اصدرت القرار القضائي 'لم تقرأ لائحة الدعوى ولا اللائحة الجوابية ولا البينات المحفوظة في الدعوى'، بما ورد في سياقه من تثبيت المحامي المتهم بأن وكيل الجهة المستدعى ضدها في القضايا المعنية اقر بما ورد في لائحة الاستدعاء، مما يعني مقصده ان الهيئة الموقرة لو كانت قرأت لائحة الدعوى واللائحة الجوابية لما كان حكمها على الوجه الذي كان عليه. ومثل هذا تعبير قصد من قوة بنيانه ايصال معنىً ارتأى المحامي المتهم انه ما كان ليصل اليه ويقرع به سمع الجهة المشكو اليها على الوجه المطلوب بما يستوفى به دفاعه الا بسلوكه لمثل ذلك الطريق واستعماله لمثل ذلك التعبير الذي قصد من قوة متنه إيصال ما جال في نفسه من اعتقاد بجسامة الخطأ الذي اسنده الى الجهة المشكو منها. وكل ذلك مما يقتضي أخذه بعين الاعتبار عند وزن البينة وتقدير مدى قيام القصد الجرمي (قصد الاساءة) المتطلب لقيام تلك الجرائم، سيما اذا علمنا انه وفي ظل غياب دليل آخر لا بد من التثبت في مدى كون اللفظ ينبئ في ذاته عن حقيقة ثبوت القصد، وفيما اذا كان مجرد ذلك كافٍ للقطع بثبوت القصد. سيما اذا علمنا ان الاحكام الجزائية بالادانة لا تبنى الا على كل جزم ويقين لا على اي شك وتخمين.
ب. وأما بالنسبة للسياق الموضوعي الذي جاءت العبارات المدعى بتضمنها (اساءة) الى القضاء والذي يتوجب ان تفهم تلك العبارات في اطاره:
فنجد بشأنها ان المحامي المتهم انما جاءت الفاظه وعباراته في نطاق ممارسته للحق في الدفاع حيث قدر مناسبة قوة العبارة لجسامة الخطأ المدعى به سيما انها وردت في اطار وفي معرض وفي سياق شكوى مقدمة من قبله، والثابت من قرار الاتهام ان المحامي المتهم ذكر الالفاظ المنسوبة اليه في معرض تقديمه لشكوى بحق الهيئة القضائية المذكورة، ومما تقتضيه طبائع الاشياء وابسط مقتضيات العقل والمنطق ان تستعمل في الشكوى الفاظ تنبئ عن الاتهام بحق الجهة المشكو ضدها، وان تكون على قدر من القوة في الدلالة والتعبير بقدر جسامة التهمة المنسوبة اليها. لما كان ذلك كذلك، فهل كان يفترض به ان يمدح القضاء اذ يشتكيه؟ بل وكيف كان له ان يعبر عن حقيقة شكواه وخطورة الاتهامات المتضمنة فيها بغير تلك التعابير؟ الصحيح ان الثابت فقهاً وقضاءً في جرائم النشر يفيد بوجوب النظر الى كامل السياق الذي تم ذكر الالفاظ محل الشكوى في معرضها وليس النظر اليها مجتزأة ومنبتةً عن السياق الذي أتت به. وعليه، فان تلك الالفاظ لم تحمل في حقيقة الامر وواقعه اية اساءة الى الهيئة المذكورة وانما تضمنت اتهامات محددة لها بارتكابها ما يخالف مدونة السلوك القضائي وهو الامر المشروع، فأية الفاظ كان على المحامي المتهم ان ينتقيها ليتجنب الاساءة الى القضاء في معرض شكواه التي قدمها بحقه؟ وهل كان عليه ان يمتدح القضاء اذ يشتكيه؟
وعليه، فإن اياً من الالفاظ المتضمنة في الشكوى التي تقدم بها المحامي المتهم لا يمكن ان تقوم بها الاساءة التي قصدها قانون انتهاك حرمة المحاكم سيما مع ضرورة النظر الى سياق ما جاءت تلك الالفاظ به وقوة العبارة التي قصد المحامي المتهم منها ايصال المعنى المقصود من شكواه وما نسبه من خطأ جسيم لا يغتفر الى الهيئة التي اشتكى عليها، وفي ذلك نجد ما قررته محكمة النقض المصرية من اباحة استعمال العبارات المعنية في اطار حق النقد وعن حسن نية (دون قصد الاساءة المباشرة) ومدى اقتضاء حق النقد والمصلحة العامة لقوة العبارة سعياً وراء ايصال المعنى ولفت الانتباه تحقيقاً للمصلحة العامة، حيث نجد قرار محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 2972 سنة 69ق جلسة 31/3/2000 والذي جاء فيه تقييم مدى اباحة قوة العبارة من ناحية انها 'اقتضتها ضرورة تجلية قصد الناقد، وأن رائدها المصلحة العامة، ولم يكن الغرض منها الطعن والتجريح، وهي الأمور الواجب استظهارها لإثبات أو نفي عناصر المسئولية محل الدعوى' (عن: سعيد احمد شعلة، قضاء النقض المدني في المسئولية والتعويض، 2006، دار الكتب القانونية، ص488).
(ب) انتفاء قيام جرائم قانون انتهاك حرمة المحاكم تبعاً لعدم توافر ركن العلانية والنشر في الالفاظ المنسوبة الى المحامي المتهم:
ذلك انه وبالرجوع الى نص المادة (15) من قانون انتهاك حرمة المحاكم سابقة الذكر نجد انها اشترطت ان تتم الجريمة باحدى وسائل النشر والعلانية، وبالرجوع الى المادة (73) من قانون العقوبات نجدها تنص على ان [تعد وسائل للعلنية:
1- الأعمال والحركات اذا حصلت في محل عام أو مكان مباح للجمهور أو معرض للأنظار أو حصلت في مكان ليس من المحال المذكورة غير أنها جرت على صورة يستطيع معها أن يشاهدها أي شخص موجود في المحال المذكورة.
2- الكلام أو الصراخ سواء جهر بهما أو نقلا بالوسائل الآلية بحيث يسمعها في كلا الحالين من لا دخل له في الفعل.
3- الكتابة والرسوم والصور اليدوية والشمسية والأفلام والشارات والتصاوير على اختلافها اذا عرضت في محل عام أو مكان مباح للجمهور ، أو معرض للأنظار ...].
وتبعاً لما جاء في قرار الاتهام فإن المحامي المتهم لم ينشر مثل تلك (الاساءات) المدعى بها في وسيلة من وسائل النشر والعلنية التي اشترطتها المادة (15) من قانون انتهاك حرمة المحاكم (وغيرها من مواد ذلك القانون)، وهي الوسائل التي يمكن لاي شخص من خلالها العلم بمضمون ما وجهه للقضاء، انما كل ما في الامر انه توجه بشكواه الى المجلس القضائي فقط. بل وحتى على فرض ثبوت توجهه بها الى الجهات المذكورة في الشكوى كهيئة مكافحة الفساد وغيرها فهي مهما تعددت تبقى جهات محصورة ومعدودة ولا يمكن في اي حال ان يتحقق ركن العلانية بها، سيما انها جميعها جهات رسمية في حين ان اشتراط ركن العلانية مرتبط بالعلة من تجريم جميع ما جاء في قانون انتهاك حرمة المحاكم من افعال، اذ تتمثل العلة منها في ضمان عدم تناهي مضمون ما جاء من الفاظ (مسيئة) الى العامة. وهي النتيجة الجرمية التي لم يكن للوسيلة التي استعملها المحامي المتهم (والمتمثلة بتوجهه بشكواه الى تلك الجهات المعدودة) لتنهض لتحقيقها اصلاً بغير توافر ركن العلانية، وهو الركن غير المتوافر اصلاً بصريح ما جاء في قرار الاتهام من وقائع حتى بفرض صحة ثبوت ما جاء فيها.
(2) انتفاء الركن القانوني بكل من جرائم قانون انتهاك حرمة المحاكم باعتبار ممارسته لحقوق ترد كاسباب تبرير على الفعل المرتكب (هذا بفرض تجريمه ابتداء):
حيث نجد ان المحامي المتهم بتقدمه للشكوى المذكورة انما كان مارس حقوقاً ترد كاسباب تبرير على الجرائم المرتكبة هذا بفرض ثبوتها اصلاً وابتداء، ومن هذه الحقوق نجد:
أ- ان المحامي المتهم انما مارس حقوق الدفاع عن موكليه وقد اتخذ السبل التي ارتآها مناسبةً لذلك مما ينتفي معه الركن القانوني بهذه الجرائم:
وقد قررت الحق في الدفاع كل من المادتين (39 و40/1) من قانون نقابة المحامين، حيث نصت المادة (39) من هذا القانون على ان [للمحامي ان يسلك الطريق التي يراها ناجحة في الدفاع عن موكله ولا يكون مسؤولاً عما يورده في مرافعاته كتابة او شفاها مما يستلزمه حق الدفاع، كما لا يكون مسؤولاً عن الاستشارات التي يعطيها عن حسن نية]. كما ونصت المادة (40/1) من ذات القانون على انه [يتمتع المحامي لدى المحاكم والدوائر والسلطات التي يمارس مهنته امامها بالحرية التامة بحيث لا يجوز توقيفه او تعقبه من اجل اي عمل قام به تادية لواجباته المهنية ولا يتعرض المحامي تجاه هذه المحاكم والدوائر والسلطات التي يمارس مهنته امامها الا للمسؤولية التاديبية وفق احكام هذا القانون].
ب- أن المحامي المتهم بمخاطبته للجهات الرسمية المذكورة في شكواه لم يعدُ ان يكون قد مارس حقاً دستورياً ما كان لينبغي للمشرع العادي في قانون انتهاك حرمة المحاكم مصادرته او حتى التضييق منه:
ذلك أنه وبالنظر الى المادة (17) من الدستور الاردني نجدها تنص على ان [للاردنيين الحق في مخاطبة السلطات العامة فيما ينوبهم من امور شخصية او فيما له صلة بالشؤون العامة].
وعليه، فيكون المحامي المتهم بتقدمه لمثل تلك الشكوى الى تلك الجهات (بفرض ثبوته مع ان الثابت هو انه لم يخاطب بها سوى المجلس القضائي فقط) فإنما يكون قد مارس حقاً دستورياً يتمثل في الحق بمخاطبة السلطات العامة وهو حق كفله الدستور وما كان ينبغي لقانون عادي كقانون انتهاك حرمة المحاكم ان يصادره، مما يتوجب معه تفسير جميع قواعد هذا القانون في اطار ضمان عدم تعطيل الحقوق التي تضمنها الدستور.
وبالرجوع الى اوليات القانون الدستوري ومبادئه الاساسية نجد ذلك المبدأ الذهبي المتعلق بمنع تقييد الحقوق الدستورية والتضييق على من يرغب في التمتع بها، اذ ان في ذلك حرمان فعلي او واقعي لمن يرغب بالتمتع به من ممارسته، فتكون السلطة قد اخذت بيدها اليسار فعلياً ما منحه المشرع نظرياً بيده اليمين، بل واين الفعالية واين الاتساق في احكام القانون اذا قلنا لمن يدعي باحقيته في ممارسة حرية معينة ان من حقه ذلك لكن افرض عليه قيوداً فعلية واجعله يدفع ثمناً واقعياً يثقل كاهله فيدفعه الى لتخلي في النهاية عن ممارستها، بل واي قيد أكبر وأشد من التجريم والتوقيف والمحاكمة والعقاب؟ وقد كرس القضاء المصري العريق ممثلاً بقضاء مجلس الدولة هنالك ذلك المبدأ حين رفض تقييد الحق في التجمع السلمي بقيود تجعله (لغواً غير قابل للتطبيق ولا قيمة فعلية له) من الناحية الواقعية.
نخلص مما سبق الى ان اياً من الجرائم المتعددة التي اسندتها النيابة العامة في قرار الاتهام والواقعة جميعها بالمخافة لقانون انتهاك حرمة المحاكم، أياً منها غير متحقق في مواجهة المحامي المتهم، فجميعها تشترط لوقوعها تحقق ركن العلانية والنشر، كما ان اياً من الالفاظ المتضمنة في الشكوى التي تقدم بها المحامي المتهم لا يمكن ان تقوم بها الاساءة التي قصدها قانون انتهاك حرمة المحاكم سيما مع ضرورة النظر الى سياق ما جاءت تلك الالفاظ به وقوة العبارة التي قصدها المحامي المتهم منها ايصالاً للمعنى المقصود من شكواه وما نسبه من خطأ جسيم لا يغتفر الى الهيئة التي اشتكى عليها. مما يعني انه واذ ثبت بان مقصوده من قوة العبارة ايصال المعنى شبّ الشك في قيام قصده بالاساءة، ومن المعلوم ان الاحكام الجزائية بالادانة التي تنزع بها الحقوق وتصادر بها الحريات إنما تبنى على اساس من جزم يريح ضمير القضاء ويقين يطمئن اليه وجدان العدالة لا على اساس شك لا يدحض ثبات البراءة وتخمين لا يقنع به أحداً ولا يغني به من الحق شيئاً.
لكل ما سبق، فان ما اشترطته المادة (114/1) من الاصول الجزائية من وجود دلائل كافية للاتهام فانه لا يقصد بذلك الادلة الكافية موضوعياً أي من ناحية واقعية فقط وانما لا بد كذلك من ثبوت توافر كفايتها القانونية أيضاً أي ان تقوم بها الجريمة المسندة اليه بأن تكون اساساً كافياً يصلح لأن ينهض به الاتهام من الناحية القانونية ايضاً. ذلك انها وعلى فرض صحة كل ما جاء فيها من وقائع أسندت الى المحامي العثمان لا يمكن ان تصلح أي منها اساساً كافياً لادانته من الناحية القانونية. مما يعني ان ما اشترطته المادة (114/1) من الاصول الجزائية من وجود دلائل كافية للاتهام فانه لا يقصد بذلك الادلة الكافية موضوعياً أي من ناحية واقعية فقط (كفايتها الواقعية) وانما لا بد كذلك من ثبوت توافر كفايتها القانونية أيضاً في جوهره الاتهام، أي ان تقوم بها الجريمة المسندة اليه بأن تكون اساساً كافياً يصلح لأن ينهض به الاتهام من الناحية القانونية ايضاً. والا فأي فائدة ترجا من كفاية ثبوت الوقائع ان لم تكن حتى بفرض ثبوتها اليقيني غير كافية في ذاتها للتجريم. وعليه، فلا يجوز قانوناً توقيفه لا بل كان يتحتم تقرير منع محاكمته عنها سنداً للمادة (130) من الأصول الجزائية باعتبار ان الوقائع المسندة اليه حتى على فرض ثبوتها لا يمكن بحال ان تشكل جرماً لبهتان الاساس القانوني الذي أقيمت عليه في أصلها ومبدأ وجودها. مما يستوجب معه بالتالي اخلاء سبيله واعلان عدم وجود تهمة بحقه او على الاقل اعلان براءته من التهم المسندة اليه او عدم مسؤوليته عنها. مثل هذه الحقائق التي أتينا على ذكرها اذا اغفلتها الجهة التي قررت التوقيف فإن على الجهة المختصة باخلاء سبيله الالتفات اليها، وان اغفلتها الجهة التي قررت الاتهام فعلى الجهة المختصة بمحاكمته ان تقرر عدم وجود قضية اصلاً بحقه او على الاقل براءته منها او عدم مسوؤليته عنها.
واخيراً، فهذه وجهة نظر قانونية بحتة فيما تم نشره فعلياً من وقائع الاتهام الموجهة الى المحامي الدكتور العثمان، وقد تعمدت عدم إضافة أية وقائع او مناقشة مدى صحة الثبوت الواقعي لما تم إسناده للمحامي المتهم لكي لا اكون بذلك قد نشرت ما يؤثر في مجريات المحاكمة وذلك على الرغم من انتهاء التحقيق في التهم المسندة الى المحامي المتهم. والحق مهما ضعف صاحبه وانتكس يبقى كانفلاق الصبح أبلج قُضي به ام لم يقضى والباطل مهما قوي أصحابه وتسلطوا يبقى في غاسق حيك به يتلجلج قُضي به ام لم يُقضى.
وفي ذات الوقت أوكد في هذا المقال بأن الوقوف الى جانب المحامي العثمان في هذه المرافعة لا تعني البتة الوقوف في مواجهة القضاء، ولكنه الحق الذي لا يحتكره حتى من يحكم به. وإنني شأن كل من عاش على ارض هذا الوطن على يقين تام من ان قضاءنا الاردني يبقى مناراً يهتدي به كل ضال وسياجاً حامياً يرد الحق لكل ضعيف مظلوم وصخرة يتكسر عليها ظلم كل صاحب سلطة مستقوٍ أثيم. قضاؤنا الاردني الذي كان على الدوام موضع افتخار الأردنيين كافة، وكل ما يمسه يمس كل اردني في ذاته وشخصه.
وأختتم مقالي هذا (او مرافعتي هذه) بما قرره القضاء المصري العظيم في هذا الشأن وبالتحديد ما جاء في حكم المحكمة الدستورية العليا المصرية والصادر في الدعوى رقم (6) لسنة (15) قضائية من ان [لحرية التعبير أهدافاً لا تريم عنها، ولا يتصور أن تسعى لسواها، هي أن يظهر من خلالها ضوء الحقيقة جليا، فلا يداخل الباطل بعض عناصرها، ولا يعتريها بهتان ينال من محتواها. ولا يتصور أن يتم ذلك إلا من خلال اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض، وقوفاً عليه ما يكون منها زائفا أو صائباً، منطوياً عليه مخاطر واضحة، أو محققا لمصلحة مبتغاة. ذلك أن الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير، أن تكون مدخلاً إلى توافق عام، بل تغيا بصونها أن يكون كافلا لتعدد الآراء وإرسائها عليه قاعدة من حيدة المعلومات ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل، ومحدداً لكل اتجاه. ... وحيث إن حرية التعبير التي تؤمنها المادة 74 من الدستور، أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة، وعرض أوضاعها تبياناً لنواحي التقصير فيها، وتقويما لاعوجاجها، وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها، ليس معلقا عليه صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التي يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها عليه مظاهر الحياة في أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها عليه العقل العام، فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه، ولا عائقاً دون تدفقها. ... وحيث إن من المقرر كذلك إن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التي تتولد عنها، لا يجوز تقيدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة عليه نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخي قمعها. بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها - وعلانية - تلك الأفكار التي تجول في عقولهم، فلا يتهامسون بها نجيا، بل يطرحونها عزماً ولو عارضتها السلطة العامة - إحداثاً من جانبهم - وبالوسائل السلمية - لتغيير قد يكون مطلوباً. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكنا في غيبة حرية التعبير. كذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 74 من الدستور، لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها، بل كذلك اختيار الرسائل التي يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء في مجال عرضها أو نشرها، ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها. ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير، أن يكون الإيمان بها شكليا ًأو سلبياً. بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولاً بتبعاتها، وألا يفرض أحد عليه غيره صمتاً ولو بقوة القانون. .. وحيث إنه متى كان ما تقدم، تعين القول بأن حرية التعبير التي كفلها الدستور، هي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي، لا يقوم إلا بها. ولا يعدو الإخلال بها أن يكون إنكاراً لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وإن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأعراض المقصودة من إرسائها] انتهى الاقتباس.
ذلك ما كان من أمر اجتهادي في هذه المسألة، ورأيي يبقى صواباً يحتمل الخطأ ورأي غيري يحتمل الصواب، فإن أصبت فمن الله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، فعسى أن أكسب باجتهادي هذا الأجرين لا الأجر الواحد، والله من وراء القصد، وشكراً.
المحامي الدكتور اشرف سمحان